«بومسافر».. غابة خضراء مزهرة حوّلها «داعش» إلى مقبرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في المدخل الغربي لمدينة درنة الليبية، توجد غابة بومسافر، تلك التي كانت بخصوبة أرضها وخضرة أشجارها وأعشابها وتنوع أزهارها رمزاً للحياة والجمال، قبل أن يجعل منها الإرهاب عنواناً للموت والخراب، حيث يتناقل السكان المحليون قصصاً عما كان يدور داخلها، وكأنها أفلام رعب تبث الفزع في نفوس الكبار والصغار.

قبل سنوات، كانت الغابة مكاناً محبّباً للتخييم الكشفي يستقطب الأشبال والزهرات من أغلب مناطق ليبيا، خاصة المنطقة الشرقية؛ نظراً لخصوصية الطبيعة الرائعة في درنة، المعلّقة بين الجبل والبحر، والمحيطة بشلالات المياه العذبة، والغابات الساحرة، ومنها غابة بومسافر، التي يقال إنها أخذت اسمها من رمزيتها كفضاء يرتاح فيه المسافرون من تعب الترحال.

ومنذ أواخر 2014 حتى ربيع 2015، اتخذ تنظيم داعش الإرهابي من الغابة ساحة للتدريب والقتال، إلى أن نجحت قوات الجيش الوطني في طرده منها، بينما بقي تنظيم القاعد مسيطراً على درنة، وبعد أسابيع من فرار آخر فلول التنظيم الإرهابي.

وتحديداً في يونيو 2015، عثر عدد من شباب مدينة درنة على ركام من التراب شكوا في طبيعته، ما دعاهم إلى حفره، ليتضح فيما بعد أن جثثاً متحللة موجودة تحت ذلك الركام، لكن من دون معرفة عددها.

مقبرة جماعية

وأشار شهود العيان آنذاك إلى أن إحدى الجثث كانت عليها ملابس عسكرية، مشيرين إلى أنهم أبلغوا فريق الهلال الأحمر بدرنة، الذي نقل الجثث إلى مستشفى الهريش في المدينة.

وفي أكتوبر 2015، عثرت مفوضية الكشافة في مدينة درنة على مقبرة جماعية ضمَّت رفات 5 أشخاص في غابة بومسافر غربي المدينة.

المكتب الإعلامي للمفوضية ذكر أن فريق الكشافة عثر على هذه المقبرة أثناء عمليات ردم وترميم القبور المتضررة من جراء سقوط الأمطار، مضيفاً أنهم وضعوا علامات تدل على أماكن القبور من أجل ابتعاد المواطنين عنها.

وعندما حرّر الجيش الوطني درنة في يونيو الماضي، عاد الحديث عن غابة بومسافر بين السكان، حتى إن هناك من يعتقد أن تحت كل شجرة من أشجارها جثة قتيل من أولئك الذين أعدمهم تنظيم داعش ذبحاً بالسكاكين أو رمياً بالرصاص، وإن هناك دماء بريئة جرت لتروي أعشاب الغابة.

الشقيق يقتل شقيقه

ووفق اعترافات إرهابيي التنظيم، شهدت غابة بومسافر تصفية أكثر من 400 بين أمنيين وعسكريين، وعشرات الناشطين والصحافيين والحقوقيين ممن كفّرهم التنظيم الذي يرى في قتلهم انتصاراً لمشروعه الدموي.

وبعد نجاح السلطات العسكرية والأمنية بالمنطقة الشرقية، في القبض على عدد من الإرهابيين، بات من الممكن الاستماع إلى تفاصل ما كان يدور في غابة بومسافر من جرائم يشيب لها الولدان، ومنها جريمة ارتكبها الإرهابي الداعشي موسى التركاوي، وكنيته أبوعبدالرحمن (30 عاماً) بحق شقيقه الأصغر، وتحدّث عنها من خلال برنامج «وثائق خاصة» على قناة «ليبيا الحدث» التي تبث برامجها من بنغازي.

شكوك

يقول التركاوي، بعد أن دلَّ الجهات الأمنية على مكان دفن شقيقه وعدد آخر من الضحايا ممن تولى تصفيتهم بنفسه، وبعد إخراج رفاتهم: «كان شقيقي أحمد يعمل شرطياً في جهاز الدعم المركزي التابع لمدينة القبّة، وكان يعطي المعلومات عن التنظيمات الإرهابية في المدينة.

وقد لاحظت أنه دخل إلى مدينة درنة أكثر من مرة، وبدأ مجدداً في إرسال المعلومات عن الجماعات في المدينة، وحينها أعلن تنظيم داعش البحث عنه عن طريق بشار الدرسي والمجموعات الأمنية في التنظيم».

محاولة اختراق

وتابع قائلاً: «كان أحمد في مدينة شحات عندما علم أن داعش بصدد البحث عنه، فحضر إلى مدينة درنة، ودخل عليّ في البيت، حيث كنت نائماً ليقول لي إنه يريد أن يبايع التنظيم، فتوجّهت إلى قاضي المحكمة المدعو فيصل العرفي وكنيته أبوفيصل، وأخبرته بأن شقيقي يعمل في الأمن المركزي ويدعي أنه يريد المبايعة.

وفي الحقيقة هو يريد اختراق التنظيم، وأن يمد القوات المسلّحة بالمعلومات، فقرر القاضي الداعشي إرسال مجموعة مع التركاوي ليتم القبض على شقيقه الموجود في البيت، من بين عناصرها فتحي الوحيشي أبوحمزة المشهور بـ(بوذهب)، ورمضان الميار، وشخص آخر مصري الجنسية يدعى أبوسفيان».

محاكمة دموية

وتابع التركاوي: «قبضت المجموعة على أحمد، وتوجّهت به إلى محكمة دموية، وهناك تم التحقيق معه، ليعترف بأنه كان مبعوثاً من الجيش الليبي من أجل اختراق التنظيم، وإعطاء معلومات عن العناصر الإرهابية خارج المدينة، وهنا خيّروني بين أمرين: إما أن أقوم بتصفية شقيقي.

وإما أن أقوم بإرساله بواسطة سيارة مفخخة وتفجيرها في مدينة القبة، فقررت تصفيته برصاصة في الرأس؛ نظراً إلى أنني كنت على ثقة بأنه لن يفجّر السيارة المفخخة، وإنما سيسلمها للسلطات الأمنية والعسكرية».

دفن الشقيق

ويضيف الإرهابي التركاوي: «في غابة بومسافر، أمرت شقيقي أن يجثو على ركبتيه ففعل، ثم أطلقت رصاصة على رأسه كانت كافية ليلفظ أنفاسه الأخيرة، ثم حفرنا حفرة ورمينا فيها جثته وأهلنا عليها التراب، وعندما كانت والدتي تتصل بي لتسألني عن أحمد، أو تطلب مني البحث عنه للاطمئنان إليه، كنت أجيبها بدم بارد إنني لم أعثر عليه بعد».

بعد تلك الاعترافات، رافقت فرق الهلال الأحمر الليبي الجاني إلى غابة بومسافر، حيث أشرفت على انتشال جثمان أحمد التركاوي الذي قتله شقيقه، إضافة إلى إشرافها على استخراج الجثث التي قتل أصحابها الجاني الآخر عبدالرؤوف باطاو، وعددهم نحو 10 أفراد غالبيتهم من العسكريين، تم التعرف إلى بعضهم فيما لم يزل بعضهم مجهول الهوية.

وإضافة إلى الهلال الأحمر، شاركت فرق التحقيق العاملة في سجن قرنادة بعمليتي استخراج الجثث المتحللة، وكذلك في مرحلة التحقيق والاستدلال مع العناصر الإرهابية المضبوطة، فيما تم نقل الجثامين إلى ثلاجة حفظ الموتى، تمهيداً لصدور أوامر من القائد العام المشير خليفة حفتر بإجراء جنائز عسكرية لهم وتكريم ذويهم باعتبار أنهم شهداء واجب.

الإعلاميون لم يَسلموا من مجازر التكفير الداعشي

عضو ما يسمى المحكمة الإسلامية الليبية، عبد الرازق علي، اعترف بأنه نفّذ أمر والي تنظيم داعش في درنة مالك الخازمي، المكنى (أبو إبراهيم)، بإعدام الصحافيينِ التونسيينِ نذير القطاري وسفيان الشورابي في سبتمبر 2014 في غابة بومسافر.

وقال إنه تم حجز الصحافيين وهما في طريقهما إلى طبرق، وحجزا بمزرعة سراج ميار فور تسلُّمهما، وتمت دعوة ثلاثة تونسيين ينتمون إلى «داعش» للتحري بشأنهم، وهم أبو أنس وأبو مصعب وأبو حمزة.

وأضاف أن النية كانت تتجه إلى عقد صفقة مقايضة مع الحكومة التونسية، تقضي بالإفراج عن الصحافيين مقابل الإفراج عن عنصر جزائري ينتمي إلى التنظيم يدعى علي الشاعر، ألقي القبض عليه وهو يحاول المرور من تونس إلى ليبيا.

وقال عبد الرازق: «لم تنجح المقايضة وقررت محكمة التنظيم إعدام الصحافيين التونسيين بعد سماع شهادة أبناء موطنهم من عناصر «داعش» بأنهما «كافران» ومن الذين يستهزئون بالإسلام، وقتلهم أمر واجب». وعن كيفية إعدام الصحافيين، قال: «لقد تم اقتياد كل من نذير القطاري وسفيان الشورابي إلى غابة بومسافر غربي مدينة درنة.

حيث أطلق أحمد التشادي الرصاص على نذير القطاري وتولى التشادي أبو عبدالله الجزراوي ذبح سفيان الشورابي، وتم دفنهما في مقبرة جماعية معلومة»، مشيراً إلى أن «أبو عبدالله التشادي» فجّر نفسه لاحقاً في العملية التي استهدفت مديرية أمن القبة ومنزل رئيس مجلس النواب. أما والي داعش في درنة مالك الخازمي فانتهى قتيلاً برصاص «البنيان المرصوص» في مدينة سرت عام 2016.

قتل ودفن

أحد المتورطين في خطف وقتل سبعة صحافيين شرقي ليبيا، صيف العام الماضي، قدّم اعترافات حول كيفية قتلهم ومكان احتجازهم ودفنهم على أيدي عناصر من تنظيم «داعش» بعد خطفهم على طريق أجدابيا - طبرق الصحراوي بأيام.

وشملت قائمة الضحايا فريق محطة تلفزيون برقة، وهم: خالد الهميل، ويونس الصل، وعبد السلام الكحلة، ويوسف القمودي، ومحمد جلال (مصور مصري الجنسية)، إضافة إلى الصحافييْن التونسييْن سفيان الشورابي ونذير القطاري.

الإرهابي محمد خالد محمد عبد الحميد، المكنى بـ «أبو الأشبال»، وهو مصري الجنسية، اعترف باختطاف وتصفية طاقم قناة «برقة» الفضائية المكون من أربعة صحافيين ليبيين وخامس مصري الجنسية، قائلاً: «خرجنا يوم 5 أغسطس 2014، وقمنا بإيقاف سيارة على الطريق الصحراوي أجدابيا - طبرق، كان يستقلها خمسة إعلاميين، منهم أربعة ليبيين ومصري واحد.

وتم نقلهم إلى إحدى المزارع بمنطقة الفتائح، وهناك تمَّ التحقيق معهم لمدة ثلاثة أيام، ثم توجهنا بهم إلى غابة بومسافر حيث حفرنا حفرة كبيرة، وضعنا الإعلاميين أمامها، وأطلقنا عليهم الرصاص، ومن ثم وضعناهم في الحفرة وردمناها». وإلى اليوم، لم تبح غابة بومسافر بكل أسرارها.

حيث لا تزال الأجهزة الأمنية تحقق مع الإرهابيين، كما لا تزال فرق الهلال الأحمر تنبش بحثاً عن المزيد من جثث الضحايا ممن كان تنظيم داعش الإرهابي قد أهدر دماءهم، ونفّذ فيهم أحكامه الإجرامية من دون رحمة أو شفقة.

«داعش» يعود لـ«الخلايا النائمة».. والتمويل قطري

لا تزال الخلايا التابعة لتنظيم داعش الإرهابي تنشط بين حين وآخر في أنحاء ليبيا رغم فقدان التنظيم كافة المدن والبلدات الكبيرة التي كان يسيطر عليها بعد معارك خاضها الجيش الوطني الليبي.

ووضعت قطر خطة بديلة من أجل إيجاد دويلة جديدة لتنظيم داعش الإرهابي بعد سقوطه في كل من سوريا والعراق، وذلك انطلاقاً من جنوبي ليبيا، حيث تهدف الدوحة إلى خلط الأوراق وبث الفوضى وتعطيل عملية الاستقرار التي يقودها الجيش الوطني الليبي.

وقالت مصادر عسكرية ليبية في وقت سابق إن تنظيم داعش الإرهابي بدأ تجميع صفوفه من جديد انطلاقاً من الجنوب لإعادة خلط الأوراق وبث الفوضى في البلاد.

وإنه يتلقى دعماً قطرياً لتنفيذ مخططاته، وأضافت أن تنظيم الحمدين بدأ في نقل المئات من مسلحي داعش من سوريا والعراق إلى الأراضي الليبية، انطلاقاً من الأراضي التركية، وأنه يسعى إلى تحويل الجنوب الليبي إلى مركز لتجمع الإرهابيين بهدف منع الجيش الوطني من بسط نفوذه على البلاد.

وتأتي الخطة القطرية التي أكدها مسؤولون ليبيون بعد تعرّض داعش لهزائم متتالية وكبيرة في كل من سوريا والعراق وباتت دولته الإرهابية على وشك الزوال بشكل نهائي، الأمر الذي دعا قطر وحلفاءها إلى إنقاذ بقايا داعش ونقل المسلحين إلى جنوبي ليبيا لتكون مركزاً بديلاً للإرهاب يتم من خلاله تهديد أمن أوروبا ودول شمالي أفريقيا وجنوب الصحراء.

واستخدمت قطر ليبيا كنطقة انطلاق رئيسية لنقل المقاتلين من شمالي أفريقيا إلى سوريا والعراق. كما نقلت الدوحة مخازن السلاح التي خلفها نظام القذافي إلى مناطق الحرب في سوريا عبر سفن. وما زالت هذه الأسلحة في أيدي فصائل في سوريا، وتحديداً بندقية يطلق عليها اسم «الناتو»، التي مصدرها الميليشيات التي تحكمت بليبيا بعد القذافي. طرابلس - وكالات

Email