ملف

النفايات في لبنان أزمة مزمنة وحلول تسكينية

رئيسية نفايات لبنانية على شاطئ البحر أرشيفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في منطقة الجديدة بالعاصمة اللبنانية بيروت لاحظ السياح الشهر الماضي أن شاطئ البحر اختفى، ليتحول بين ليلة وضحاها إلى جبل من القـمامة.

لم يكن هؤلاء يتخيّلون أن البحر القريب من منازلهم سيردم يوماً ما. وبدل أن يستمتعوا بنسيمه العليل، تحوّل مكباً للنفايات، ليفتح من جديد ملف أزمة النفايات في بلد سياحي جميل حمل عن جدارة لقب "سويسرا الشرق"، وهذه الأزمة التي سيجد لها اللبنانيون حلاً إن عاجلاً أو آجلاً، لن تنزع الجمال عن وجه لبنان ومن روحه.

أزمة النفايات في لبنان بلغت ذروتها عام 2015، ولم تحل حتى الآن، وجلّ ما فعلته الحكومات المتعاقبة إبعاد القمامة عن الطرقات وتغليفها بأكياس بيضاء للتخفيف من أضرارها إلى الحد الأدنى. والأسوأ أن الأزمة لا تقتصر على جبال النفايات، بل تشمل المكبّات المفتوحة والحرق العشوائي في أماكن مأهولة.

وينتشر في لبنان - بدلاً من إعادة تدوير النفايات - 150 مكباً تُحرق فيها القمامة أسبوعياً. وحتى الآن لم تقدّم الجهات المختصة أي حل جذري للتخلص من النفايات.

ويتذكّر المتابعون للشأن اللبناني تلك الصور الصادمة خلال ذروة الأزمة في 2015، حيث شكّلت أكياس النفايات ما يشبه نهراً ممتداً على جوانب الطرقات. أكثر من 150 طناً من النفايات تسبح تحت أنوف البشر.

فبعد أن سدت كل السبل أمام البلديات من مطامر أو محارق أو معامل فرز، لم يجد العديد منها حلاً سوى "تكديس النفايات" بانتظار "الفرج" والحل الآتي من الدولة والجهات المختصة. في حينه قال أنطوان جبارة رئيس بلدية الجديدة إن "شركات جمع النفايات تقوم برميها في الشارع، فتأتي البلدية وتحكمها في أكياس بيضاء، كي لا تتسبّب النفايات بروائح كريهة". وهذه ليست سوى حلول مسكّنة.

في الصدارةومن حين إلى آخر، تتصدّر النفايات واجهة الأحداث.. تغلق الكثير من الشوارع والمناطق، وروائحها تدخل البيوت دون استئذان، لتقضّ مضاجع اللبنانيين، ولا سيما في العاصمة وضواحيها، أزمة تدور حول نفسها منذ سنوات طويلة، وتؤدّي إلى نزاعات ومشكلات مناطقية واعتصامات وتظاهرات متلاحقة، مع ما تسبّبه من مشكلات صحّية لكلّ من يسكن في محيط المحارق والمكبّات (760 مكباً) .

والمطامر غير الصحيّة أيضاً، من دون أن ننسى المساحات المشاعة التي تُرمى فيها النفايات من دون حسيب أو رقيب، وذلك، من بوّابة «النفايات السياسية» التي تقطع أوصال الوطن وتطمر أهله بالنفايات البيئيّة، فيما البعض لا يزال يبحث بين أكوام النفايات عن أدوار سياسيّة وصفقات، أما المواطنون، فيسمعون من السياسيين خطابات تقذف الكرة من ملعبٍ إلى آخر.

وكأنّ حلّ هذا الملف أصعب من أي أمر آخر. ويزيد الأمر تعقيداً الثروة التي تكمن وراء هذه الروائح النتنة.

حلول مضحكة مبكية

واللافت في هذا الشأن، ابتكار اللبنانيين حلولاً مضحكة - مبكية تلهيهم عن أزمتهم، ومنها توجيه النصائح لـ«العزيز الجردون»، على سبيل المثال، وهو الذي «تحسّنت أحواله المعيشيّة والصحيّة، مع تحوّل لبنان إلى مزبلة حقيقيّة»!.. ولضرورات «ردّ الجميل»، أرفقت بعض التعليقات بعبارة موجّهة إلى «الجردون» تحديداً: «لا تنسى أن تتقدّم بالشكر الجزيل لكلّ من ساهم.

وعمل وكدّ وأصرّ على تأمين لقمة عيشك»، «تفادى رائحة الصفقات، لا تيأس من المحاولة، فلا بدّ أن تجد زاوية خالية من القمامة»، «امضغ جيداً، فأمامك الوفير من الوقت. آخر همّ سياسيينا إزالة النفايات من الطرقات».

«جرّب إنشاء برلمان، وامضِ في إجراء انتخابات، وليعقد الممثلون عن شرائح الجرذان جلسات استثنائية في حالات الطوارئ»، «جرّب استشارة أي طبيب لدى شعورك بعوارض الغثيان أو الإسهال، لربّما أكثرت من تناول الزبالة، ولعلّ زبالة لبنان غير مطابقة للمواصفات»، و«لا بدّ من أن تخصّ بالذكر الطبقة السياسيّة التي كان لها الفضل الأول والرئيس»!

محطّات الأزمة

تعود بعض فصول الحكاية إلى أواخر يوليو من العام 2015. حينها، استفاق اللبنانيون على مشهد لم يألفوه منذ نهاية الحرب الأهلية (1975-1990)، حينما تراكمت النفايات على نحو غير مسبوق في الشوارع، وذلك في ظاهرة لم تسلم منها مدينة أو بلدة أو قرية. وذلك، غداة قيام أهالي منطقة الناعمة (الجنوب) بتحرّكات كثيرة مطالبين بإقفال المطمر الكائن في منطقتهم، أدّت إلى تحقيق مطلبهم نظراً لكونه كان حلاً مؤقتاً.

نتج عن هذا الإقفال توقف شركة «سوكلين» عن جمع النفايات لعدم وجود مكان آخر لرميها، قبل أن ينتهي عقدها وعقد شركة «سوكومي». تكدّست الأكياس البلاستيكية على شكل جبال في كلّ المناطق، وتفاقمت معها المشكلات الحياتية للمواطنين، إلى أن قرّرت الحكومة، في سياق فشلها المزمن في إدارة هذا الملفّ، توسيع المكبّات البحريّة واعتماد المحارق المسرطنة لحلّ هذه الأزمة، بدلاً من الحلول البيئيّة، كإعادة التدوير والتسبيخ.

بعد إقفال «مطمر الناعمة» وتوقّف شركتَي «سوكلين» و«سوكومي» عن العمل، طرِحت حلول عدّة للتخلّص من النفايات المنتشرة على كامل الأراضي اللبنانية، منها إعادة فتح المطمر مؤقتاً، ونقل النفايات من العاصمة إلى مناطق لبنانية أخرى كصيدا والبقاع، وترحيل النفايات إلى خارج البلاد، وإنشاء معامل فرز، وأخيراً التفكك الحراري، حتى أن بعض البلديات عمدت إلى حرق نفاياتها وسط غياب الخطوات العملية من الحكومة.

مخطط فشل

وخلال مرحلة التظاهرات عام 2015، لجأت الحكومة إلى نقل النفايات من بيروت وضواحيها إلى مناطق أخرى، كصيدا والبقاع وغيرهما، واجهتها البلديات والأهالي بالرفض، ووصلت هذه المواجهات أحياناً إلى حدّ الاشتباك مع القوى الأمنية، ما أفشل هذا المخطط. ونتيجة التظاهرات والاحتجاجات التي جرت في العام 2015، تمّ طرح خطّة ترحيل النفايات إلى خارج لبنان عبر شركات أجنبية.

أُجرِيت مناقصات رست على شركة «شينوك» البريطانية التي زعمت أنّها وقّعت عقوداً مع شركة روسية للمحارق من أجل نقل النفايات إلى روسيا وحرقها هناك.

وسقطت هذه الخطة عندما برزت فضيحة نفي وزارة البيئة الاتحادية الروسية منح الموافقة على التخلص من النفايات اللبنانية على أراضي الاتحاد الروسي، ووصفت المراسلات بخصوص الموافقة على أنها وهمية ومزوّرة.

وإذ أنشأت بلديات عدّة معامل لفرز نفاياتها، فإنّ «التفكّك الحراري» هو الحلّ المطروح حالياً والذي تبحث فيه الحكومة حالياً. وتقضي العملية بالتخلص من النفايات عبر تحميصها وتنشيفها. علماً أن هذه العملية شبيهة بالحرق وتقضي بتلف النفايات وعدم الاستفادة منها.

وبلغة الأرقام، فإنّ كل فرد في لبنان ينتج يومياً نحو كيلوغرام من النفايات، ما يعني أن الكمية الإجمالية تصل في اليوم الواحد إلى نحو 4 آلاف طن (أي 1,381 مليون طن سنوياً).

قضية عالقة

ويحتاج تحقيق الخطّة بأكملها إلى مبلغ أقلّ من الترحيل، كما أنّ فائدتها أكبر، إذ يمكن للمصانع اللبنانية استخدام المواد الناتجة عن النفايات، وفي المحصّلة، لا تزال النفايات من القضايا العالقة داخل الاجتماعات الوزارية، رغم حلولها المؤقتة.

وحتى اليوم لم يظهر أيّ حل دائم ومستدام يعود بالفائدة على اللبناني ووطنه «الأخضر». ومؤخراً، قرّرت الحكومة اللبنانية توسيع مطمر «كوستابرافا» القريب من مطار بيروت الدولي، بمساحة تتراوح بين 150 و200 ألف متر مربع.

واستحداث معمل للتسبيخ (تفكيك بكتيري) في هذا المطمر بقدر 750 طن يومياً، وإطلاق مناقصات معامل التفكيك الحراري خلال الأشهر الستة المقبلة، فيما تمّ تأجيل البتّ بتوسيع مطمرَي برج حمود - الجديدة (شمال بيروت)، بمساحة 120 ألف متر مربع، نتيجة لاستمرار الخلافات في هذا الشأن.

والقرار الحكومي، بشأن توسيع مطمر «كوستابرافا» ومعامل التكفيك الحراري، لم يكن مفاجئاً، فهو جزء من المرحلة الثانية من الخطّة الوطنية للإدارة المتكاملة للنفايات، ولكنّه أثار مجدّداً انتقادات من قبل الناشطين البيئيّين، الذين يخشون من أن يؤدّي فتح «بازار المحارق» إلى ضرب الخطّة الشاملة التي تقوم على تقليص حجم النفايات عبر الفرز. ذلك أن إنشاء معمل لتسبيخ النفايات في «الكوستابرافا» سيؤدّي إلى عودة طيور النورس التي تهدّد الملاحة الجوية.

وتعميم المحارق، في ظل إدارات فاسدة، لن يكون سوى مجلبة لكوارث بيئية وصحية. أما عدم حسم الحكومة خيار توسعة مطمرَي «برج حمود» - الجديدة، فيؤكد، بحسب ناشطين، أن إغراءات طمر الشواطئ متحكّمة بعقول بعض القوى النافذة في السلطة. فالمساحات الجديدة الناجمة عن الطمر، سيتقاسمها من سهّلوا وشرّعوا خيار تدمير ما بقي من الشاطئ اللبناني.

حلول مؤقتة

منذ 3 سنوات وحتى اليوم، انهالت على الحكومة حلول كثيرة قدّمها متخصّصون وجمعيات ومراكز بيئيّة، للاستفادة من النفايات والتخلّص من آثارها السلبية على المجتمع ككلّ. ومن بين هذه الحلول نقل نفايات بيروت وجبل لبنان إلى مناطق أخرى، بإنشاء مطامر صحيّة بعد فرزها من قبل البلديات، إضافة إلى المطامر الموجودة. وكلفة معالجة طن من النفايات يبلغ 20 دولاراً أميركياً.

النوْرس: خطرٌ يهدّد المطار

يُقتل النورس ولا تفنى الطائرات بركابها. هي المعادلة الإشكالية التي تتحكّم بأجواء مطار بيروت الدولي ومدارجه حالياً.. ولأننا في لبنان، حيث الحلّ الثالث والسليم غير موجود، باتت المعادلة المؤقتة: نحبّ النورس، ولكن حياة المسافرين أعزّ.

وهذا الكلام لم يأتِ من العدم، بل اقتضاه فعل كون سلامة الطيران المدني لاتزال تفرض نفسها في مقدّمة الأولويات.

وتشغل مستويات الدولة على اختلافها، في محاولة درء خطر النورس على الملاحة الجوية وكيفية إيجاد العلاج اللازم، ومعالجة السبب المتأتّي من مكبّ النفايات في «الكوستابرافا» بالقرب من المطار، رغم العلم المسبق بخطورته على سلامة الطيران.. وهكذا، تحوّلت أزمة المطمر إلى أزمة مطار، وخلص السجال حول مطمر الكوستابرافا إلى تحديد الجاني والمرتكِب والمذنِب: طيور النورس!بيروت - البيان

محطّة لافتة في سجلّ الأزمة

بالزيّ الأبيض والكمّامات الطبيّة، وفي تظاهرة حملت عنوان «الكوليرا جايي، صار بدها جلسة»، جاب ناشطو «الحراك المدني» في لبنان، في 22 أغسطس من العام 2015، شوارع بيروت وصولاً إلى منزل رئيس الحكومة حينذاك تمام سلام، لإيقاظه من نومه ودعوته لعقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء، تحمل بنداً واحداً هو «ملفّ النفايات»، لإقرار المراسيم المطلوبة لحلّ الأزمة.

ومنذ ذلك الحين، دخل ناشطو مجموعات «الحراك المدني» إلى المعادلة السياسية اللبنانية، وأصبحوا فجأة جزءاً مؤثراً في مشهدها، ومحلّ تكهّن حول تأثير حركتهم في الواقع السياسي اللبناني.

ووقفت في مقدّمهم حركة «طلعت ريحتكم» التي ولدت أوائل شهر أغسطس 2015 من بين ثنايا طفرة حراك شعبي تصاعدي تسبّبت به أزمة النفايات، إضافة إلى مجموعات أخرى عملت ضمن هذا الحراك، كحملة «بدنا نحاسب» التي ولدت في أواخر شهر أغسطس 2015.

وتحت شعارات عدّة، أبرزها «نعود إلى الشارع، لنعود إلى الوضوح» و«الساحات لنا.. كونوا كتار»، قيِّض للحراك الشعبي أن يتفجّر، من حين إلى آخر، تظاهرات غضب تملأ الشوارع والساحات، يكون «الصاعق» فيها موضوع «الزبالة» الذي يتوسّع ليشمل جوانب المأزق السياسي الذي يعيشه هذا الوطن الصغير. بيروت - البيان

الأزمة في سطور

في 17 يوليو 2015، أقفِل مطمر الناعمة، وفتِح ملف شركة «سوكلين» المسؤولة عن البيئة. وبعد 246 يوماً، أعيد فتح مطمر الناعمة وعادت «سوكلين» لتجمع النفايات. 246 يوماً، عانى فيها اللبنانيون. مناقصات سقطت. النفايات تراكمت والأوبئة انتشرت. هدّد رئيس الحكومة بالاستقالة مراراً. اعتكف وزير البيئة فحلّ محله وزير الزراعة.. جلسة لمجلس الوزراء 7 ساعات خرج منها بقرار قديم. بيروت - البيان

Email