هل تعتمد ألمانيا الأسلوب الفرنسي تجاه تركيا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تكن الدبلوماسية الألمانية قد انتهت من تهنئة نفسها، على دفع تركيا إلى التراجع في شرق المتوسط، حتى أعلنت تركيا،  "الاثنين"، أنها أرسلت مجدّداً إلى شرق المتوسط، سفينة تنقيب لاستكشاف الغاز البحري في المياه الإقليمية لجمهوريتي قبرص واليونان.

اكتسبت تركيا وقتاً مهماً من التراجع الظاهري الأسبوعين الماضيين. فقد منحت «دول التهدئة» الأوروبية، بقيادة ألمانيا، ورقة رابحة خلال محادثات الأسبوع الماضي للاتحاد الأوروبي، حين اتفق الأعضاء على تأجيل طرح العقوبات، بعد خطوات إيجابية من جانب تركيا. خلال هذا الوقت أيضاً، الذي يسبق الانتخابات الأمريكية، هناك عرف عالمي سائد، منذ أن أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة بعد عام 1990، وهو أن الدول الديمقراطية الليبرالية، تنتظر إلى ما بعد الانتخابات، من أجل التحرك، أما الدول التسلطية، فإنها تختار هذا التوقيت لاستغلال «فراغ الانتظار».

ورداً على الخطوة التركية، عادت ألمانيا بغضب، لتحديد مسار ملف الأزمة شرقي المتوسط. فبعد أن كانت فرنسا هي التي تدير الدفة من الجانب الأوروبي، انتقل الملف إلى برلين، بعد القمة الأوروبية، مطلع الشهر الجاري. فبعد أن نجحت في إبعاد مقترح العقوبات ضد تركيا، تواجه ألمانيا اختباراً لدبلوماسيتها، التي يحرص المسؤولون الأتراك، على عدم استفزازها، كما يفعلون عادة مع بقية الدول الأوروبية.

وفي خطوة رمزية، زار وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، اليوم الثلاثاء، أثينا ونيقوسيا، متفادياً أنقرة. وقال خلال زيارته، إنه «لا بد أن تتوقف الآن لعبة التبديل من جانب تركيا، بين التصعيد وسياسة التهدئة». وألمانيا من الدول القليلة التي لها تأثير كبير غير علني في السياسات التركية، وهي تجد نفسها في موقف حرج من شركائها الأوروبيين، في حال استأنفت أنقرة التنقيب فعلاً، ويبدو من حديث وزير الخارجية، ماس، عن «انتكاسة شديدة» و«التضامن الكامل مع اليونان وقبرص»، أن حدود التمادي التركي ليس واسعاً أمام العقوبات التي ستكون برلين مضطرة لوضعها على الطاولة بنفسها، بعد أن دفعت فرنسا إلى سحبها، كما أدت عوامل أخرى، إلى تراجع الهبّة الفرنسية المتوسطية، فقد فقدت خلال أسابيع، دورين مهمين على الصعيد الإقليمي الدولي، الأول ملف لبنان، بدخول الولايات المتحدة على خط الأزمة، وتصدر ترسيم الحدود مع إسرائيل الأولوية، وفقدانها دورها في مجموعة مينسك، الخاصة بإدارة الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا، حيث أدى اقتحام تركيا العنيف للأزمة، ودعمها أذربيجان، وإرسالها مسلحين متطرفين إلى القوقاز الجنوبي، تحت أعين - والمرجح أيضاً تفهّم - روسيا، عطلت مجموعة مينسك (روسيا - الولايات المتحدة - فرنسا)، حيث يبدو هناك إجماع بين القوى العظمى، على منع فرنسا من توسيع حدود مبادراتها وحضورها السياسي على الصعيد الدولي.

أداة تفكيك أوروبا

الحسابات التركية، قد لا تصيب هذه المرة في المتوسط. فهي لا تواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث قد يروق الأمر لفريق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والبريطاني بوريس جونسون، لحسابات ثنائية لكل بلد، إنّما ألمانيا، التي تستطيع إلحاق أذى بتركيا في قطاع الاقتصاد، إلى حد كبير، لكن في المقابل، ستتلقى هي الأخرى ارتدادات سلبية، متعلقة بملف اللاجئين، رغم أن حسابات استراتيجية دولية، لديها مصلحة في تهشيم الاتحاد الأوروبي، وتركيا، كما هو واضح من مسار الأحداث، أداة لتفكيك أوروبا، كمنظومة سياسية، وكذلك حقوقية، وهذا يحقق مصلحة لدوائر يمينية عبر العالم في الشرق والغرب، وبات بقاء تركيا خارج الاتحاد الأوروبي في وضعها الحالي، كأداة لمفاقمة الانقسام، تدر عليها مكاسب أكبر بكثير من أن تتقدم في ملف العضوية.

السياسات النباتية

في مقالة نشرها بصحيفة «إندبندنت»، في 21 سبتمبر الفائت، كشف وزير الشؤون الأوروبية البريطاني السابق، دينيس ماكشين، بعض أساسيات التعامل الأوروبي مع تركيا. وكونه من أنصار القيم الحقوقية الأوروبية، فإن ماكشين حدد بوضوح، مكمن الخطر الأكبر على المنظومة الأوروبية: تركيا.

كان الوزير البريطاني السابق، قد شارك في ملتقى سياسي في أثينا حول الأزمات الأوروبية، وذكر مقتطفات من حديث الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا هولاند، حول التهديد الذي يمثله أردوغان، والحروب التي يخوضها، وتحريكه المواطنين الأوربيين من أصول تركية، كورقة تهديد اجتماعية.

في المقابل، يرى زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي السابق، سيغمار غابرييل، الذي شغل منصب وزير الخارجية الألماني من 2017 إلى 2018، موقفاً مختلفاً تماماً. أصر غابرييل في الندوة ذاتها، حسب ما ينقل ماكشين، على أنه إذا تم فرض عقوبات على تركيا لشرائها صواريخ S-400 الروسية، أو اضطرت لمغادرة الناتو، فستصبح تركيا- بحسب اعتقاد غابرييل - بسرعة، قوة نووية. وأنه إذا أظهر الاتحاد الأوروبي تضامنه مع اليونان، واتخذ أي إجراءات ضد أردوغان، فسيتعين على أوروبا بناء جدران جديدة على جميع حدودها، بما في ذلك الحدود الداخلية في دول مثل المجر، حيث سيرسل أردوغان مليون أو أكثر من اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي. بالنسبة لغابرييل، كانت المشكلة الرئيسة، هي أن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لفرض عقوبات على تركيا، ونظراً لنفوذ الولايات المتحدة على الناتو، لن يكون هناك خط واضح بشأن عسكرة تركيا لشرق البحر المتوسط. بالنسبة لغابرييل، كان الجواب هو «الصبر الاستراتيجي».

الواقع أن الحجج التي ساقها السياسي الألماني، جذابة للإقناع، رغم أنها بمثابة ترك وحش يسير في طريقه، بحجة أن محاولة السيطرة عليه ستثير غضبه، لكن فعلياً هذا ما تملك أوروبا أن تفعله، إذا صدق توصيف غابرييل للسياسة الأوروبية، بأنها نباتية. وقال كما يبدو ساخراً، بحسب ماكشين: «إذا كانت السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي نباتية (Vegetarian)، فإن السياسة الخارجية الألمانية نباتية صرفة (Vegan)».

يختتم ماكشين مقالته بالسؤال: هل سيترك النباتيون الأوروبيون، آكل اللحوم أردوغان، المضي قدماً في مخططاته في بحر إيجة؟

المؤكّد أن اليمين عبر العالم، الذي يتخذ من تركيا سلاحاً في أكثر من لا يعجبه الاتحاد الأوروبي، الذي فقدت دوله أسنانها في الحرب العالمية الثانية.

Email