روسيا.. بين مشروع التجدّد وسهام النقد

ت + ت - الحجم الطبيعي

في خطابه الذي وجّهه إلى الأمة قبل اليوم الأخير للتصويت في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «نحن نصوّت من أجل البلاد التي نُريد العيش فيها... والتي نُريد أن نُسلمها إلى أطفالنا»، وكان يقف تحت تمثال ضخم لجندي روسي ليشدّد على «الحس الوطني» في هذه العملية.

على مدار خمسة أيام، وهي مدة طويلة فرضتها جائحة «كورونا»، أدلى الروس بأصواتهم في استفتاء على تعديلات مقترحة على دستور البلاد، وهو استفتاء كان مقرراً في مايو وتم تأجيله رفقة احتفالات العيد الـ 70 للنصر في الحرب الوطنية العظمى. هذه العملية حظيت بالارتياح والرضا من أنصار روسيا البوتينية داخل البلاد وخارجها، وقوبلت في الوقت ذاته بالانتقاد والتشكيك من أعداء روسيا البوتينية أيضاً داخل البلاد وخارجها.

لا يوجد اثنان في هذا العالم يعتقدان أن هؤلاء الخصوم سعيدون بوجود شخص مثل فلاديمير بوتين في الكرملين، فهو زعيم غير مريح لهم، كما عالم القطبية الذي أنهى إمكانية وقوف العالم على ساق واحدة. روسيا ما قبل بوتين غير روسيا في عهده، وكل روسي يعود إلى ما كانت عليه بلاده قبل عام 2000 يستطيع أن يقول «أين كنا وأين أصبحنا».

المؤيدون للشكل الذي تبنى عليه هذه الدولة العظمى، يرون أن روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي عمرها حوالي 30 سنة. وهي فترة قصيرة جداً في عمر الدول والشعوب، ولا تكفي لتطبيق معايير دول أنظمتها مستقرة منذ مئات السنين. التعديلات الدستورية ميكانيزم جديد يلائم أوضاع روسيا في ظل العالم المتشكّل على أسس صراعية.

سقوط التعديلات

النتيجة الوحيدة التي كانت لتجعل المنتقدين في الغرب يرحبون بنتائج الاستفتاء الروسي على التعديلات الدستورية، هي سقوط اقتراحات التعديل في الاختبار الشعبي. فلو لم تشكك بعض الدول وجماعات الإسلام السياسي بنتائج الاستفتاء لكان الأمر غريباً، رغم أن مسألة إنهاء سقف الولايتين الرئاسيتين هي جزئية من ضمن منظومة تعديلات واسعة تشمل مما تشمل الرواتب وقضايا اجتماعية عديدة.

تشمل مثلاً «منع أي فعل يهدف إلى مصادرة أي أرض روسية، أو يدعو إلى ذلك»، وتدعو إلى حماية الحقيقة التاريخية عن الحرب الوطنية الكبرى (1941 - 1945) ومنع الاستهانة بمآثر ومنجزات من قاتلوا فيها.

وفي الشأن الاجتماعي تنص على حماية المؤسسة الزوجية، وربط معاشات التقاعد بمستوى التضخم، وألا يكون الحد الأدنى للأجور أقل من الحد الأدنى للدخل، بل لم يخل الدستور من الإشارة إلى حقوق الحيوان من خلال نص يقول «بلورة موقف مسؤول تجاه الحيوانات».

وفي موضوع الرئاسة يقول النص المعدّل «تحدد فترة الرئاسة للشخص الواحد بدورتين رئاسيتين» (بدلاً من دورتين متتاليتين).

وفي هذه الحالة يرى مراقبون أنه لن يتم احتساب الدورات السابقة لمن هو في الرئاسة الآن، وهذا ما أسموه بـ «تصفير» الدورات الرئاسية الماضية لبوتين، بما يسمح بترشحه من جديد لدورتين أخريين.

خلال عقدين

في 7 مايو 2000 أدى فلاديمير بوتين اليمين الدستورية كرئيس لروسيا، وخلال العقدين منذ دخوله الكرملين، فرض الرجل القادم من الـ «كي جي بي» قوّته وعزّز دور روسيا على المسرح العالمي من خلال العديد من الجولات التي أفضت إلى نتائج لافتة، بدءاً بإنهاء أخطبوط المافيا والانتصار على نزعات الانفصال في الشيشان، مروراً بحسم بؤرة القوقاز وشبه جزيرة القرم، وليس انتهاء بالإمساك بمفاتيح الحرب السورية عبر تدخل عسكري ساهم في استعادة الدولة السورية القسم الأعظم من جغرافيتها والتقليص المتدرج لأطماع تركيا وأدواتها.

عندما تنهار منظومة اقتصادية سياسية اجتماعية عقائدية، لا تتبخّر تماماً، بل تبقى لها مفاعيل فيما بعد الانهيار المادي. لذلك، فإن نظر الروس لمسألة القيادة تختلف عنه في الغرب، وما زال الروس بغالبيتهم يفضّلون القائد القوي الذي يمثّل الهيبة القومية. ولعل هذا ما يقف خلف نتائج استطلاع أظهر أن أغلبية الروس اعتبرت جوزيف ستالين أهم شخصية في تاريخ بلادهم.

انطلاقاً من هذا الاستخلاص المختصر، يبدو من العبث إسقاط معايير «الديمقراطية الغربية» على الحالة في روسيا، فضلاً عن أن مثل هذا الإسقاط المستمر لم يقدّم ولم يؤخّر في تململ الدب الروسي.

Email