مدارات

حرية التعبير لاتعني غياب النظام

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يتمتع مصطلح «حرية التعبير» بالمثالية، ذلك أن جزئية «الحرية» تنحاز لصالح المعارضة، في حين تمنح جزئية «التعبير» مركز الثقل للكلمة المنطوقة على الرغم مما ينطوي عليه الحوار من تواصل أوسع نطاقاً يتضمن الفنون، والكتابة، والأفلام، والمسرحيات، والإعلانات، وحرق الأعلام.

ويستحسن البروفيسور والكاتب الأميركي ديفيد فان ميل بالتالي، إسقاط مصطلح «حرية التعبير» للتركيز على أن الجدال الحقيقي القائم يدور حول وجوب تنظيم تواصل الأفكار والآراء والمعتقدات.

لذا لابدّ من الإشارة إلى أن استعمال حرية التعبير يترافق مع التأكيد على أن «الحرية» لا تعني غياب التنظيم، و«التعبير» يغطي مروحة نشاطات واسعة. أهمية التعبيرلا يكفي التهليل لمنطق حرية التعبير لأننا إذا لم ندرك السبب الذي يجعل من التعبير مهماً، فإننا لن نعرف ما إذا كان جديراً بالحماية.

وينهمك بعض المجادلين من الوزن الثقيل المندفعين في إبراز أهمية التعبير من أمثال الفيلسوف البريطاني جون ستوارت ميل، والفيلسوف الإنجليزي ألكسندر ميكلجون والبروفيسورين توماس سكانلون وسي. إدوين بيكر.

ويوضح الجدل المحموم حول «الصواب السياسي» الأمر، حيث يسود زعم معتاد يدّعي أن الصواب السياسي يخنق حرية التعبير، في اتهام يصعب قياسه. فقد يحدّ الصواب السياسي مثلاً، من حرية تعبير السكان البيض وتعزز في الوقت ذاته خطاب الأقليات السوداء.

لكن الاعتراض ذاته ينبهنا بطبيعة التعبير المعقدة. فلماذا نتذمر أصلاً؟ ويأتي الجواب بالقول إن الصواب السياسي يكمّم التواصل. ويبدو الأمر كجدال يدعو لمناهضة الصواب السياسي باسم حرية التعبير. ونحتاج للإقدام على طرح هذا الزعم لإظهار سبب أهمية التعبير. لأننا ما أن نقدم تبريراً حتى ندخل بجدال حول سبب إمكانية الحدّ من حرية التعبير.

طروحات متضاربة

ويتيح دمج التبريرات الواردة الكثير من الخطابات غير المنظمة. ولا يبدو الأمر ناجحاً لأن الطروحات الثلاثة غالباً ما تتضارب مع بعضها بعضاً. فتبرير حرية التعبير لأنها تعزز الحقيقة، مثلاً، يتيح على ما يبدو إسكات السياسيين، وبالتالي التدخل في الخطاب السياسي.

وتشير تلك الصعوبات إلى أن أي جدال مقنع حول التعبير، لابد أن ينطوي على حقيقة تقول إن التعبير يمكن أو بالأحرى يجب أن يكون محدوداً. وتشير الخلاصة الأكثر جدالاً إلى أن إعطاء مسوغات حول سبب أهمية التعبير يدفعنا للكشف عن القيم الكامنة التي تبدو أكثر جوهرية من التعبير نفسه.

ما الذي ينبغي فعله حيال التعبير الذي لا تحميه تبريراتنا المفضلة؟ تعتمد الإجابة على الموازنة بين التعبير والقيم الأخرى. ويؤدي التورط في خطاب الكراهية بأوروبا إلى السجن، أما التشهير فقد يجرّ إدانات مدنية أكثر منها جنائية. ويشير ميل إلى أنه في العديد من الحالات يشكل «الرفض الاجتماعي»، وليس العقوبة القانونية، القصاص المناسب.

ويكمن السبب الذي يعزى إليه عدم انتهاء الجدال حول حرية التعبير منذ زمن بعيد في طرح الناس لمجموعات مختلفة من القيم للنقاش. ولا يتأتى الجدال من فراغ، حيث لابدّ من تقييم النقاشات على أساس المعايير والقيم والمؤسسات الاجتماعية. فالتعبير ظاهرة اجتماعية لأنها تتطلب من المتحدثين والمستمعين الاشتراك فيما بينهم.

ويمكن لأشخاص يتمتعون بالقيم عينها ألا يتوافقوا حول حقائق بعض الأمور. وقد يتقبلون جدلية ميل القائلة إنه يمكن الحدّ من التعبير إذا تسبب بضرر ما، لكنهم قد لا يوافقون على دخول خطاب الكراهية مثلا، ضمن مبدأ الضرر. وتغدو المسألة أكثر تعقيداً وصعوبة، لكن الأمر الوحيد الذي يسعني قوله بكامل الثقة هو أنه من غير المرجح أن يساعدنا مبدأ القياس الواحد المناسب للجميع في سبر أغوار حرية التعبير الشائكة.

الحقيقة/ المصلحة 

ينبغي، بعد الإثبات بأن التعبير ليس جيداً بالمطلق، تحديد نوع القيود المناسبة الواجب فرضها على حرية التعبير. ويعتمد ذلك بحيّز كبير منه على سبب تبرير التعبير في المقام الأول. ويتفوق طرح الاستقلالية في إعطاء مختلف أنواع الحماية مما يفعّل طرح الحقيقة/ المصلحة التي تبرر بدورها الحكم الذاتي.

19

يعتقد الفيلسوف البريطاني والمحلل السياسي الاقتصادي جون ستوارت ميل، الذي يعتبر أكبر مناصري حرية التعبير للقرن التاسع عشر، أن حرية التفكير والنقاش، حيث إنه لا يستخدم مصطلح «حرية التعبير»، تحتل قيمة كبرى لأنها تقرّبنا أكثر إلى الحقيقة، التي تعزز بدورها المصلحة. ويؤمن الفيلسوف الإنجليزي ألكسندر ميكلجون بأهمية التعبير لأنه يتيح الحكم الذاتي الديمقراطي. ويؤكد البروفيسوران توماس سكانلون وسي. إدوين بيكر أن حرية الرأي مبررة لأنها تعزز الاستقلالية.

وتجدر الملاحظة فيما يتعلق بمزاعم الفلاسفة أن التبرير الذي قدموه في صالح التعبير يتيح أيضاً وجود بعض القيود. فإذا كان الرأي الحر مبرراً لمجرد أنه يعزز الحقيقة، فلا أسس نبني عليها للدفاع عن الرأي حين يتم تقويض الحقيقة. أما التعبير الذي يفسد العمليات الديمقراطية، فسيجد نفسه عاجزاً عن الدفاع عن نفسه على يد فرضية الحكم الذاتي. وإذا كانت جدلية الاستقلالية ملزمة، فلن نرغب في حماية حرية التعبير التي تفسد تلك الغاية.

أشكال التواصل

يخبرنا جون ستوارت ميل بأن أفضل مروّج للحقيقة يكمن في إتاحة أكبر قدر من التواصل. لكنه يبدي استعداده لخنق تلك الحرية إذا أدت لأضرار غير مقبولة. وتواجه هذه الجدلية صعوبات من ضمنها أن الخطاب المؤذي قد يؤدي إلى الحقيقة.  ويبدو أن تبريره للتعبير يتضارب مع منطقه في الحدّ منه، وقد كافح كثيراً لتوفير موقف قوي ومتماسك حول حرية التعبير.  ولابدّ ألا ننسى أن التبريرات التي تستخدم للدفاع عن حرية التعبير ستمنح دائماً الأولوية لبعض أشكال التواصل على حساب أخرى. ويشكل هذا دليلاً لاختيار حرية التعبير الأشد احتياجاً للحماية. مما يشير مجدداً إلى أن حرية التعبير لا تتمتع بقيمة ذاتية قائمة بذاتها.

Email