المدارس تستخدم تعريفاً ضيقاً للذكاء وهاجسها بالاختبارات يبعد الأطفال عن الابتكار

هدف التعليم إيجاد أفراد مكتملين إنسانياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحت عنوان «هل تقتل المدارس الإبداع؟»، يروي المربي الإنجليزي كين روبنسون في حديثه على «تيد» عام 2006 قصة راقصة الباليه ومصممة الرقصات الشهيرة جيليان لين، فيقول: كانت في الثامنة من عمرها، عندما أبلغتها إدارة المدرسة أنها ربما تعاني من اضطراب في التعلم لأنها لا تجلس في مقعدها دون حراك. فقامت والدتها باصطحابها لرؤية أحد الاختصاصيين. وخلال لقائهما به، طلب الاختصاصي من والدتها التحدث معها على انفراد، تاركاً لين وحدها في مكتبه مع جهاز الراديو.

وفيما كان الاثنان يراقبان لين عن بعد وهي تدور في أنحاء الغرفة على وقع الموسيقى، قال الاختصاصي لوالدتها: «ابنتك ليست مريضة، ما عليك إلا اصطحابها لمدرسة للرقص». وهذا ما فعلته، وقد حققت ابنتها النجاح في حياتها.

لكن كان من الممكن، في المقابل، أن يشخص شخص آخر حالتها كمصابة باضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، ويصف لها دواء، يقول روبنسون، وكان يقصد من تلك القصة تقديم تفسير إنساني لمعتقداته أن المدارس حول العالم تستخدم تعريفاً ضيقاً للغاية للذكاء، بل الأسوأ أن المدارس بفضل هاجسها بالاختبارات، تعلم الأطفال في الواقع الابتعاد عن الإبداع.

هذه الاندفاعة لدى المدارس لإضفاء الامتثال على الطلبة تتناقض مع عالمنا المتغير بسرعة، حيث يعد اتصافنا بالمرونة والفضولية والإبداع أكثر أهمية من أي وقت مضى، وأهمية توريث تلك الصفات للأجيال المقبلة يثير اهتمام الصناعات المبدعة، التي تعتمد على تدفق مستمر من المفكرين المتنوعين الذين بإمكانهم حل مشكلات الأعمال بشكل خلاق.

وكان حديث روبنسون الذي ألقاه عام 2006، قد أحدث ضجة حول العالم، وحصد أكثر من 40 مليون مشاهدة.

وفي مقابلة أجرتها معه منظمة «كامبين» البريطانية التي تعنى بالدفاع عن حقوق الطفل في تمضية أوقاتهم في اللعب خارج المنزل، وهي قضية تلائم نظرته للنظام التعليمي السائد والحاجة لإعادة التفكير بأولوياته لناحية تبني نهجاً أكثر شمولاً لتعليم الأطفال، قال روبنسون: «نحن مخلوقات بشرية تعيش في أجساد.

ويبدو من البساطة الإشارة إلى الأمر، لكن إذا كنا جميعنا نمارس الرياضة بانتظام ونأكل وننام بشكل صحيح، فإن إحساسنا بالنشاط والانجاز سيتعزز بشكل طبيعي، وإذا أجلسنا الأطفال يوماً بعد يوم في الداخل على المقاعد الدراسية، وهم يمارسون في الغالب عملاً كتابياً متدني المستوى، فلا يجب أن نستغرب إذا ما تململوا، ولم يحققوا الكثير، ولم يعتريهم إحساس جيد حيال أنفسهم».

عملية إنسانية

تركز حجة روبنسون على أن التعليم لا يقتصر على تلقين المعرفة الواقعية، بل هو عبارة عن رسالة واسعة النطاق يفترض أن تشمل الإدراك الثقافي والتعلم الاجتماعي وتنمية روح التعاطف والرحمة. وينبغي ألا يكون هدفه مقتصراً على إيجاد عاملين مؤهلين، بل أفراداً مكتملين.

ويوضح روبنسون قائلا: «إذا كان لدينا نهج أكثر ديناميكية للتدريس والتعلم، وإذا قمنا بتعزيز الروابط بين التخصصات، ووضعنا أسئلة إبداعية أمام الأطفال لاستكشافها، وإذا ما عملنا على تشغيل فضولهم، وتغذية خيالهم، فإنهم سيصبحون أكثر انخراطاً بشكل كامل، متحمسين للتعلم، مما يرفع مستويات إنجازاتهم، وهذا الأمر عبارة عن عملية إنسانية وليست ميكانيكية، وهي مبادئ تنطبق على تدريس الفنون والعلوم».

ففي بريطانيا، تتعرض مواد الفنون لخطر التهميش. وقد اندلع خلاف مرير خلال العام الماضي بشأن تأثير البكالوريا الإنجليزية، التي تُمنح عندما يؤمن الطالب درجة «سي» وما فوق في امتحانات الـ «جي سي أس إي» في كل من اللغة الإنجليزية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والعلوم وإحدى اللغات الأجنبية، والتي أصبحت إلزامية من سبتمبر 2015.

التخوف من تلك الشهادة هو أن المدارس بتركيزها على ما يتم قياسه، ستوجه موارد واهتمام أقل لمواد الفنون، في وقت تعد الصناعات المبدعة واحدة من القطاعات المزدهرة في الاقتصاد البريطاني.

يقول روبنسون: «أحد المفارقات هو أن التركيز على التعليم القائم على التوحيد القياسي كان في الغالب بتشجيع من السياسيين، لاعتقادهم أنه يصب في مصلحة الاقتصاد، لكن عند التحدث إلى أشخاص في مجال الأعمال التجارية، فإنهم يقولون شيئاً مختلفاً جداً. فهم يريدون أشخاصاً قادرين على الابتكار، ويمكنهم التفكير بشكل مختلف، والعمل ضمن فرق عمل، والتعاون والتواصل، ويمتازون بسرعة الاستجابة للتغيير. ولا يجري التشجيع على أي من تلك الأشياء أو غرسها في نظام المدرسة القائم على الاختبارات والتوحيد القياسي».

المهارات اللينة

وبطبيعة الحال، فإن التوقعات بشأن تعليم جميع الأطفال وتثقيفهم بناء على معيار مماثل، ووصولهم للمعرفة على قدم المساواة بغض النظر عن خلفياتهم، يعد شيئاً نبيلا. لكن كما هو الحال دائما، تنشأ المشكلة في كيفية القيام بذلك على صعيد الممارسة العملية. ومن الأسهل بكثير اختبار المعرفة الواقعية لدى الطلبة من تقييم المهارات «اللينة» مثل الذكاء العاطفي أو مرونة وسهولة التكيف أو التفكير الإبداعي، مما يعني أن هناك حافزاً أقل للمدارس في جعل التعليم أكثر تركيزاً على الطفل.

كما أن لثقافة الاختبارات العديد من المستفيدين. أحدهم مجالس الامتحانات في بريطانيا وثانيهم السياسيون، حيث يقول روبنسون: «السياسيون المنتخبون يرغبون في رؤية نتائج سريعة ويحبون الحصول على بيانات يمكنهم استخدامها».

ويؤكد روبنسون وهو مؤلف عدة كتب تربوية: «ما كنت حريصاً على تناوله لفترة طويلة هو أنه يجب النظر للإبداع كفكرة عملية. على سبيل المثال، في التعليم، أدركنا منذ فترة طويلة أهمية تشجيع محو الأمية. لكننا لا نأمل في حدوث الأمر تاركين الكتب في المتناول بأمل أن يهتم أحدهم ويفكر في كيفية قراءتها، بل نحن ندرّس الناس كيفية القيام بذلك. وهناك تشابه واضح جدا مع الإبداع. إذا لم نتوقف لنفكر في ماهيته، فإنه من الصعب علينا معرفة طريقة تعزيزه».

ويعتقد روبنسون أنه ينبغي على المنظمات معالجة المفاهيم الخاطئة التي تفيد بأن الأفكار تظهر صدفة، وبأن بعض الناس مبدعون بالفطرة وغيرهم ليسوا كذلك، وأنه لا يمكن تعزيز الأهلية الإبداعية. وهو لا يقصد القول إن الجميع يمكن أن يتسموا بقدرات متساوية في جميع المجالات، بل أن الجميع يمكنهم أن يحسنوا قدراتهم.

ويعرّف روبنسون الإبداع «كعملية امتلاك أفكار مبدعة تتسم بقيمة ما». وهي تختلف عن المخيلة والتي تعني القدرة على استقدام أشياء غير حاضرة في الحواس إلى الذهن. ويقول: «أفكر في الإبداع كعملية تشغيل للمخيلة، مثل جناح تنفيذي لها. يمكن أن يكون المرء صاحب مخيلة، وأن لا يفعل شيئاً طوال اليوم. وفي سبيل أن يكون خلاقاً، عليه القيام بشيء ما».

توطين الإبداع

إذا أرادت المنظمات تعزيز إنتاجها الإبداعي، فإنها بحاجة لفهم العملية الإبداعية وإعطاء الناس مجالاً للوصول إليها. ويقول روبنسون: «هناك الكثير من الناس غير الملمين بالقراءة والكتابة لأنهم لم يتلقوا تعليماً. هذا لا يعني أنهم غير قادرين على ذلك، بل لا يعرفون كيفية القيام بذلك».

ويعتقد روبنسون أيضا أنه ينبغي على الجميع المشاركة في عملية الإبداع. ولا يوافق على المؤتمرات التي تقيمها شركات الإعلانات في تسمية أناس محددين بأنهم مبدعون، أو قسم بأنه مبدع. يقول: «هذا يعمل على توطين الإبداع في مكان محدد. ويجعل الناس محجوزين داخل توصيفات وظائفهم».

فالشركات يمكن أن تشهد تحولاً بفعل أفكار من أقسام أخرى، يقول روبنسون. ويعطي مثالاً عن ذلك وكالة تصميم في نيويورك عمل فيها لفترة، يقول إنها طلبت من طواقمها تعليم بعضهم البعض أدوارهم. فكان من نتائج ذلك أنه إلى جانب تحسين الإدراك بشأن الوظائف المختلفة، ابتدعت الشركة سوقاً داخلية للمواهب مما أدى لنقل بعض الوظائف، يقول روبنسون: «لا نريد تكوين وضع حيث هناك نوع من نظام طبقي، حيث يقف المبدعون في جهة ويعتقد أنهم مجموعة خاصة. من الواضح أن ما يقومون به يحدث فرقاً كبيراً في نجاح الشركة، لكنهم يعتمدون أيضا على قيام الآخرين بوظائفهم».

خوض المخاطرة

يجب على المنظمات التي تريد أن تشجع الابتكار (وضع أفكار جيدة في الممارسة العملية) أن تكون متسامحة مع الفشل وأن تشجع المخاطر. فعندما سأل روبنسون صديقاً فاز بجائزة نوبل في الكيمياء عن عدد التجارب الفاشلة التي أجراها، كان الجواب «حوالي 90% منها».

لكن الصديق قال له إن الفشل ليست الكلمة الصحيحة، لأن العمل على أفكار جديدة، يعني أن ما تعمل على اكتشافه أمر لا يعمل. ويؤكد روبنسون: «إذا لم تكن مستعداً للمخاطرة، فلا تتوقع الابتكار». لكن لتحقيق ذلك لا بد من خبز الكلمات في سلوك. «فإذا كانت الثقافة السائدة تعاقبك رسمياً وبشكل غير رسمي لانحرافك عن القاعدة، فإنك ستلتقط الرسالة بسرعة كبيرة» .

Email