سلفاكير و مشار عندما تختلط السياسة بالأسطورة

جنوب السودان.. حربُ قبيلة تقودها قتيلة

■ سلفاكير ومشار قبل يوم من هروب الأخير خارج جوبا | رويترز

ت + ت - الحجم الطبيعي

مشهد ملتبس يسيطر على جنوب السودان منذ ذكرى استقلاله الخامسة والتي شهدت تجدد الاشتباكات بين قوات تابعة لرئيس الجمهورية سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار كانت انطلقت قبل أكثر من ثلاث سنوات عندما اتهم سلفاكير نائبه بتدبير محاولة انقلابية للاطاحة بحكمه، وبالعودة إلى يوم السبت التاسع من يوليو 2011، يبدو المشهد في قاعة البرلمان في جوبا مفعماً بالتفاؤل والحماس، حينما وقف رئيس البرلمان حينها جيمس واني إيغا أمام الجموع التي كانت تذرف الدموع، فَرَحاً، ليتلو قرار الإستقلال: «نحن، ممثلي الشعب المنتخبين ديمقراطيا، واستناداً إلى إرادة شعب جنوب السودان، وكما أكدته نتيجة استفتاء تقرير المصير، نعلن بموجبه جنوب السودان دولة مستقلة ذات سيادة». لحظتها تعالت الأصوات ـ جوبا وييه (أللويا)..!!.

بعدها وقف سلفا كير ميارديت ووضع يده على الكتاب المقدس مُردِّداً اليمين: «أقسم بالله العظيم بصفتي رئيس جمهورية جنوب السودان أن أكون مخلصا وأن أدين بالولاء الصادق لجمهورية جنوب السودان»، ومرةً أخرى تعالت الأصوات ـ جوبا وييه (أللويا).، ومع الحرب التي اندلعت بعد عامين فقط لم يشهدا استقراراً كاملاً، نضب مخزون أهازيج التحرير وتبخر معين أفراح الانفصال وتوارت بيارق الاستقلال وتلاشى التعاطف الخارجي، وعاد الجميع إلى الأساس المتين وهو القبيلة والعشيرة وأساطير الحكماء وضغائن ماقبل الانفصال.

للقبيلة في جنوب السودان الذي يرزح معظم سكانه تحت ثالوث الجهل والفقر والمرض اساس متين يقوم عليه كل شئ و لا تتوفر أيَّة فكرة مركزية يمكن الركون إليها غيرها، بعد أن ضم قبر الزعيم الراحل والذي يعد الأب المؤسس لدولة الجنوب د. جون قرنق دي مبيور إلى جانب رفاته فكرة السودان الجديد، التي كان ينادي بها وتشتت المقربون منه ايدي سبأ وآل الأمر إلى أعدائه المقتتلين الآن، فسلفاكير الذي كان نائباً لقرنق لم يكن يوده وكاد أن يتمرد عليه في العام 2003 م لولا تدخل بعض حكماء قبيلة الدينكا وجمعهم في مؤتمر رمبيك الشهير والمفارقة في هذا المؤتمر اشترط سلفا كير عودة مشار إلى الحركة الشعبية بعد أن فارقها وقاتلها في حرب عرفت بحرب(ايما) وايما هذه عاملة اغاثة بريطانية مولودة في الهند وصاحبة حياة مضطربة موزعة بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا ومولعة بالأفارقة منذ أيام نشأتها بمقاطعة «يوركشير» وعّبرت دوماً عن إنجذابها للرجال السود واعتبرتهم أجمل من الأوروبيين تزوج منها رياك مشار وماتت في حادث حركة في نيروبي تحوم حوله عدد من علامات الاستفهام.

سندريلا ميتة

«وعلي الرغم من أن أيما لم تلعب دوراً يُذكر في ذلك الانقلاب أو العنف الذي شهدته تلك الحرب القاسية بحسب الصحافية الأميركية «دبرا سكرووجنز» التي كتبت كتاباً اسمته بـ ( حرب أيما ) تقول فيه أنَّ قرنق القى على عاملة الاغاثة البريطانية اللوم في الإنشقاق الذي وقع في صفوف الحركة، رغم استمرارها لعدة سنوات بعد موتها، وترجح الكاتبة أن أسباب الحرب التي أدت إلى موت الآلاف من أهل جنوب السودان قد تراوحت بين السياسية والفلسفية و القبلية»، وفقاً لماجاء في كتابها الذي تناول صراع الفصائل داخل الحركة الشعبية من خلال تناول أشمل لقضية الحرب في جنوب السودان وتاريخ العلاقات بين الشمال والجنوب.

والآن الجنوبيون يضعون ايما أو «السندريلا الميتة» كما يلقبونها التي توفيت قبل خمسة عشر عاماً كواحد من مسببات حربهم الحالية، اذ يظن عدد غير مستهان به من أبناء الجنوب وخاصة من مستنيري قبيلة الدينكا التي ينتمى لها قرنق وخلفه سلفاكير ان مشار ظل حبيساً لحادثة نيروبي الغامضة وان كثيراً من قراراته تأتي لأنه يتهم قرنق وبالتالي قبيلة الدينكا باغتيالها، رغم انه لم يصرح بذلك علناً. غير المتابع للحرب في الجنوب يجد حقائق غريبة ساهمت في إزكاء الصراع، فإبان احتدام المعارك على نطاق واسع، تناهى إلى علم الناس ما عرف بالزحف الأبيض لجموع قبيلة «النوير» المدفوعة باعتقادات الأجداد المتوارثة عبر القرون.

فقد زحف آلاف الشباب من قبيلة «لو نوير» احدى فصائل قبيلة «النوير» ثاني أكبر قبيلة في جنوب السودان بعد قبيلة «الدينكا» باتجاه مدينة بور، مكونين ما بات يعرف بـِ«الجيش الابيض» لأنهم يكسون جلودهم بالرماد الأبيض وفقاً لمعتقداتهم المتوارثة من الأجداد عبر القرون. ويقود «الجيش الأبيض» شخص لا يمت للعسكرية بصلة، يسمى «الكجور» وهو الزعيم الديني لقبيلة النوير، ويتكون هذا الجيش من مجموعة شرسة، تجيد القتال التقليدي متسلحة بالرماح الطويلة والدروع، وتساندها عن بعد، مجموعات قتالية حديثة، حيث يعتقد هؤلاء بقرب تحقق نبوءة جد قبيلية «النوير»، الحكيم «نوندينغ بونغ».

عصا الحكيم

وفي 27 أغسطس 2009، نشر موقع «سودان تربيون» السوداني المستقل مقالاً بقلم جاتكوث دينغ حمل العنوان «مذاكرة بعض نبوءات نوندينغ».وبحسب المقال، ولد متنبئ قبيلة «النوير» في أربعينيات القرن التاسع عشر (1840م)، وتوفي في عام 1906م، وهو ينتمي إلى بطن من بطون «نوير بول»، القاطنين غرب أعالي النيل (ولاية الوحدة)، وهاجر أبوه من منطقة «نوير جيكاني» قبل 200 سنة إلى ولاية أعالي النيل الحالية، وعاصمتها ملكال، إحدى المدن الجنوبية، الأكبر، إلى جانب جوبا وواو، التي ولد فيها نوندينغ، وتنتمي والدة نوندينغ إلى «نوير اللاو» (المقيمين في منطقة جونغلي)، ونوندينغ هو الإبن الوحيد لأم كانت عقيمة لفترة طويلة.

ويعني الإسم نوندينغ، «هبة الرب»، وتقول أساطير «النوير» التي تعتقد بها القبيلة اعتقاداً جازماً باعتبارها نبوءات ظلت تتحقق تفصيلياً، كما يقولون على مدى الأزمان، أن «نوندينغ، حكيماً له اتصال مباشر مع السماء، وقد ظهر ذلك من خلال سلسلة من النبوءات التي قالها في أغان يرددها النوير وتحقق معظمها وفي مقدمة ذلك دخول المسيحية في جنوب السودان كديانة جديدة ستحل محل الديانات القديمة، بجانب بروز قرنق وموته على سفح الجبل.

وكان نوندينغ يستخدم العصا كرمز لسلطته الدينية (الروحانية). وتقول أسطورة شائعة بين «النوير» إنه ذات مرة، استخدم عصاه لمنع القوات البريطانية من الوصول إلى مكان إقامته.ويزعم كبار قبيلة «النوير» بأنه متى رفع نوندينغ عصاه على أي قافلة تمتطي الخيول، فإن الخيول تتوقف عن السير حتى يحل الظلام، ومن ثم تعود إلى قواعدها.

عرف نوندينغ بحسب روايات النوير بمساعيه وجهوده في صنع السلام، وقد نجح في وقف الحملات العدوانية والمذابح بين قبيلة «النوير» وجيرانهم من قبائل «الدينكا» و«المورلي» و«الشلك» و«البورون» و«الأنواك» حتى وفاته في عام 1906م.ويشار إلى أن الكثير من أبناء جيله ومعاصريه لم يؤمنوا بنبوءاته، ولكن بعضهم بدأ يؤمن بما قال لهم عندما شاهدوا النبوءات تتحقق أثناء حياتهم.وقال نوندينغ إن قبيلة «النوير» ستحكم جنوب السودان بقيادة رجل «غير مشلَّخ ذي فلجة بين أسنانه» يحمل عصا «النوير»، وهى بمثابة «طوطم».وبحسب الأنثربولوجيا والفلكور لدى قبيلة «النوير»، فإن نبوءات نوندينغ تنطبق على زعيم «النوير» الحالي رياك مشار.

وقد ظلت عصا «النوير» في متحف في بريطانيا حتى تم استرجاعها في العام 2010، بطائرة خاصة، وأقيمت لها طقوس أنثربولوجية، استمرت أياماً، وأوقدت خلالها النيران. ولا غرو أن «الجيش الأبيض» الذي ظهر، تحت قيادة أحد «الكجور» المعروفين، تدفعه تلك المعتقدات التي منها حتمية انتصار قبيلة «النوير» وصعود نجمها، وهو ما يستغله الأستاذ الجامعي السابق في كلية الهندسة في جامعة الخرطوم رياك مشار، ويثير مخاوف الرئيس سلفا كير ميارديت العسكري القح، الذي يؤمن كغيره من قبائل جنوب السودان بما يسمى «الكجور».

إيمان بالأساطير

ويقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنسلفينا الاميركي جنوبي الأصل د. ميثيانق شرسيو في وقت سابق لـ«البيان» إن الأساطير تتحكم في عدد لابأس به من مثقفي الجنوب وطلائعه وخاصة اولئك الذين امتهنوا السياسة ويمضي ميثيانق غير مستبعد أن تكون الأساطير هي من تحرك الحرب الحالية بين الرجلين الأولين في الجنوب وبالتالي القبيلتين الأكبر من حيث تعداد السكان«الدينكا» التي ينتمى إليها سلفاكير و«النوير» التي ينتمي إليها مشار، غير أن ميثيانق يرى أن الحرب أساسها أن سلفاكير يشعر بضعفه وعدم ثقافته أمام من يحيطون به في الفترة الأولى والذين لايخفون تقليلهم من احترامه فهم من حملة الشهادات العليا وعاش معظمهم في بلدان غربية وتعلموا هناك بينما ظل الرجل مقاتلا محدود المقدرات الاكاديمية ولم يعش خارج جنوب السودان وبالتالي يرون انهم أحق منهم في القيادة.

وأضاف إن سلفاكير أراد أن يبعد كل اولئك الذين يشكلون عليه خطراً ويرون انهم احق منه بقيادة الحركة ومن ثم الجنوب.، لكن المتحدث باسم مشار مناوا بيتر جاتكوث سخر من تلك المقولات مشدداً في حديثه لـ«البيان» على أن الجنوب يعاني نعم من القبلية ولكن ماقامت الحرب إلا لأن مشار والمجموعة المعنية أرادت أن تنهي القبلية التي يعتمد عليها الرئيس سلفاكير ومعاونيه في الحكم الآن لافتاً إلى أن مشروع الحركة المعارضة الذي طرحته على الوساطة الافريقية يقوم على أربعة محاور الأول منها يتحدث عن إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والشرطة لتصبح قومية تسع كل مكونات جنوب السودان الاثنية والثاني يتحدث عن محاربة الفساد وتقديم كل المفسدين للقضاء بينما يتحدث الثالث وهو مرتبط بالثاني عن الإصلاح الإقتصادي، ويطالب المحور الثالث بتشكيل محكمة جرائم حرب في جنوب السودان خاصة بم تم ارتكابه من جرائم في حق المدنيين، ويمضي قائلاً هذا اساس مشروع المعارضة فكيف يتحدثون عن أن مشروعها قبلي أو موقوف على إثنية واحدة.

إحباط

الكاتبة والروائية الجنوب سودانية استيلا قايتانو لها رؤية مختلفة فهي تقول طبيعي جدا أن يمر الجنوب بما يمر به الآن، ولا أدري لما على الجنوب أن يدفع ضريبة الانفصال إلا بأن تقوم بها اضطرابات وخسائر و حروب، كل هذه الأشياء مرت بها شعوب عديدة وأنضجتها، وجعلتها تصحح من خطواتها، حتى الشعوب والدول التي تفوق الجنوب في الخبرة والإمكانيات والتجارب السياسية، تحدث فيها اليوم انتكاسات عظيمة حيرت العالم، وتمضي قائلة «ما يؤلمنا هو أننا رفعنا سقف طموحاتنا أكثر مما يجب دون قراءة صحيحة لتجارب من حولنا،»، وتضيف، لذا تعرضنا لإحباط كبير ونتشاءم من القادم.

Email