المياه الدافئة حلم روسي منذ عهد القياصرة

روسيا في سوريا.. الحرب والسلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

التدخل العسكري الروسي في سوريا يطرح تساؤلات كثيرة بشأن الدوافع والأهداف والعامل الزمني والوسائل والتحالفات والنتائج المحتملة، ضمن أسئلة يدور حولها الجدل والنقاش، ورغم إعلان موسكو في البداية أن العمليات لن تستمر طويلاً، وأنها لن تتجاوز فبراير المقبل، إلا أن الأوضاع الميدانية لا تعطي المؤشرات على ذلك..

كما أن الدخول المتزامن في العملية السياسية مع العملية العسكرية يعطي إيحاءات بالاهتمام بالتحالفات الإقليمية ومصير النظام السوري أكثر من الاهتمام بالحسم العسكري والقضاء على الجماعات الإرهابية، الأمر الذي يثير الجدل حول أهداف روسيا من العملية العسكرية من أساسها.

الحضور الروسي

من الواضح منذ بداية الأزمة السورية، أن روسيا تشكل عنصراً أساسياً فيها، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، فمنذ بداية الأزمة واشتعال القتال، لم تتوقف موسكو عن إمداد النظام السوري بالسلاح، تحت حجة أنها صفقات متفق عليها مسبقاً،..

ويجري تنفيذها في مواعيدها، في الوقت نفسه، لم تتوقف المساعي السياسية الروسية، منذ جنيف الأولى والثانية، ومن بعدها اللقاءات المتكررة مع ممثلي النظام والمعارضة السورية في موسكو خلال العامين الماضيين.

الأمن والمصالح

لقد أدركت روسيا منذ بداية ما يدعى «الربيع العربي»، خطورة توظيف الإرهاب تحت ستار ديني، كما أنّها لاحظت سلوك بعض دول الحلف الأطلسي، التي فضلاً عن محاولتها الاستغناء عن الغاز الروسي، وإبعاد خطوط وأنابيب الغاز عن مناطقها، كما أنّ الجماعات القوقازية التي أتت بها جهات إقليمية من روسيا إلى سوريا..

ولّدت مخاوف جدّية لدى موسكو بأن تكون البؤرة السورية مجرّد تمرين لهذه الجماعات، وربما تقوم هذه الجهات الإقليمية في ما بعد بنقلها إلى داخل روسيا، ما يشكّل تهديداً خطيراً للأمن الروسي.

وقد ألمح الرئيس بوتين إلى ذلك في خطابه في الخامس عشر من سبتمبر الأخير، في افتتاح قمّة منظمة «الأمن والتعاون»، حيث أبدى مخاوفه من تمدّد نشاط «داعش» في أفغانستان، وعودة العديد من الإرهابيين إلى روسيا وبلدان «منظمة الأمن والتعاون».

الشرعية الدولية

راقبت القيادة الروسيّة، التطوّرات على الساحة السورية بدقّة، وعملت أجهزة استخباراتها بشكل مكثف طيلة السنوات الأربع الماضية، وخاصة الحدود التي تتسرب منها الجماعات الإرهابية، وأماكن تمركز هذه الجماعات، وقررت أن تتحرك بشكل لا يتناقض مع الشرعية الدولية، واتخذت مواقف تنسجم مع أحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لجهة احترام سيادة الدول..

ولهذا أعلنت أنها ذاهبة للحرب في سوريا باستدعاء من النظام الدستوري الحاكم هناك، وبشأن محاربة الإرهاب، الذي بات يشكّل تهديداً للسلم العالمي، دعت موسكو لتحالف دولي يضم جميع دول العالم، لتوحيد الجهود في محاربة الإرهاب بفعالية. ولم تجد استجابة من جهة القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

الحظر الجوي

ويبدو أنّ ما عجّل في بدء تنفيذ الخطّة، هو اقتناع موسكو بأنّ توافقاً جرى بين تركيّا والولايات المتحدة على إقامة منطقة حظر جوّي فوق مناطق معينة من سوريا، دون موافقة مجلس الأمن، تمكّن المعارضة السورية المدعومة من تركيا، من التمركز داخل سوريا، فتصبح المعادلة صراع بين نظام يملك أرضاً وشعباً من جهة..

ومن جهة أخرى معارضة تسيطر على أرض عليها شعب ولها إدارة ذاتية، فتسهل عمليّة تقسيم سوريا وإضعافها وإبقائها مسرحاً للفوضى والصراع الداخلي والنشاط الإرهابي، ولهذا أعلنت روسيا منذ انطلاق حملتها، أنها ترفض تماماً أي مناطق حظر جوي فوق سوريا.

المعارضة السورية

منذ بداية الحملة الجوية الروسية، والجدل لم يتوقف حول الأهداف الحقيقية للحملة والتوقعات حول نتائجها، وزادت حدة هذا الجدل، مع بداية العملية السياسية التي تعمدت موسكو إطلاقها بعد أيام من بدء العمليات العسكرية، ولم تنتظر نتائج هذه العمليات، وذلك ربما خشية منها في حالة فشل هذه العمليات، أن ينتهي دورها في سوريا..

وينفض الجميع من حولها، وربما لهذا لم تعترض موسكو على إشراك طوائف من المعارضة السورية، لم تتعامل معها من قبل، مثل الجيش السوري الحر، في العملية السياسية، بل وذهبت إلى حد الاستعانة بهذه المعارضة، على حد زعم المصادر الروسية، في المعارك العسكرية باستخدام المعلومات المتوفرة لديها حول مواقع تنظيم «داعش»..

وذهبت موسكو إلى تقسيم المعارضة السورية إلى معتدلة وغير معتدلة، وذهبت أيضاً للعب بالتصريحات حول التمسك ببقاء بشار الأسد أو عدم التمسك به، الأمر الذي بدا معه، لدى البعض، وكأن هناك ارتباكاً في التوجهات الروسية، إلا أنه في الواقع، محاولات من موسكو لإزالة أي عوائق أمام انطلاق العملية السياسية بموازاة العمليات العسكرية.

توظيف الإرهاب

ربما من السابق لأوانه، تقييم تداعيات التصعيد العسكري الروسي في سوريا على الصعيدين العربي والإقليمي، وكذلك الدولي، ولكنّ يمكن تسليط الضوء على وقائع وتطورات بارزة.

لقد أفادت روسيا من أخطاء فاضحة ارتكبتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، في اعتمادهم تنمية الهويّات والهواجس الطائفية والمذهبية، وتوظيف الإرهاب الذي يستظلّ الدين لبلوغ أهداف سياسية..

ومن هنا، فإنّ الضرر الذي عمّ انتشاره على صعيد دولي بسبب رعاية وتوظيف الإرهاب، أعطى التدخّل العسكري الروسي، الدعم المعنوي والقانوني، والرغبة بالتعاون من جهة دول أخرى، منها دول عربية وأوروبية، إضافة إلى الرأي العام العالمي، الذي يشعر بخطر انتشار الإرهاب، وبضرورة القضاء عليه.

إنجازات ميدانية

وهناك عوامل عدّة تدفع للاعتقاد بقدرة روسيا على تحدّي أحاديّة القطبية الأميركية، وتوسيع دائرة النفوذ العسكري والسياسي الروسي. فالحشد الواسع للقوات الجوّية والبحريّة الروسية واستعمالها بفعالية، وكذلك توسيع رقعة القصف الجوّي، وإطلاقها صواريخ متوسطة المدى من على متن سفنها المرابطة في بحر قزوين، حملت، لا شكّ، رسائل إلى أطراف أوروبية وإقليمية متعدّدة.

وما يعزّز قدرة روسيا في محاربة الإرهاب في سوريا، هو النجاح الذي حققته عملياتها العسكرية في إصابة أهدافها. ولا شك أنّ ما يجري من تنسيق وتبادل للمعلومات بين القيادة العسكريتين في موسكو ودمشق، بشأن مناطق وجود المسلّحين، وكيفية التصدّي لهم، له تأثير هام في هذا النجاح. ويبدو أنّ الإنجازات الميدانية السريعة لروسيا وحلفائها..

قد أحرجت الولايات المتحدة التي سارعت لإدخال بعض التعديلات على استراتيجيتها، لا سيما داخل الأراضي العراقية، خوفاً من تحوّل أنظار الحكومة العراقيّة نحو موسكو، طلباً لمساعدتها في مكافحة تمدّد «داعش».

توقعات الفشل والنجاح

يمكن لنا تصور توقعات للأوضاع في سوريا والمنطقة، في حالة ما إذا حققت العملية العسكرية الروسية في سوريا أهدافها، واستطاعت دحر الإرهاب هناك، كما يمكن لنا أيضاً تصور توقعات في الحالة العكسية، إذا فشلت الحملة العسكرية الروسية في تحقيق أهدافها، وبقيت الأوضاع على ما هي عليه، وهو ما تتوقعه أو تتمناه بعض الجهات والدوائر، خاصة في واشنطن ومن يدور في فلكها ضد روسيا.

في حالة نجاح الحملة العسكرية الروسية في تحقيق نتائج إيجابية ملموسة على أرض الواقع في سوريا، فإن المتوقع على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، يمكن تصوره كالتالي:

على الصعيد السوري، يرى بعض المراقبين أنّ التدخّل العسكري الروسي، سوف يساعد على الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وإجهاض مخططات التقسيم.

كما سيؤدي تدخل روسيا إلى مزيد من الوعي، خاصة لدى المواطنين والنخب السورية، لحقيقة الحرب الدائرة في سوريا، وأهداف ودور القوى الخارجيّة فيها، ويمكن أن يصحب ذلك، إدراك لخطورة الخطاب السياسي الذي يستظلّ بالدين، وقد شكّل ويشكّل السلاح الأفتك في التمزيق الاجتماعي والمآسي التي يعاني منها كلّ مجتمع يطاله هذا الخطاب.

الساحة العربية

كما يتوقع المراقبون، تطوّراً يدفع ببعض الدول العربية لإعادة النظر في سياساتها تجاه سوريا والنظام الحاكم فيها الآن، والذي تأمل موسكو أن يكون له دور أساسي في العملية السياسية المنتظرة، حيث أن موسكو لا تريد في النهاية، وبعد كل هذه الجهود التي بذلتها أن تخسر مصالحها الاستراتيجية في سوريا والمنطقة...

وهي المصالح التي جاهدت كثيرا من أجل الحفاظ عليها، ومنها السعي لتحقيق حلمها الإمبراطوري القديم بضمان تواجد أساطيلها الحربية في المياه الدافئة، وكذلك فإن روسيا لا تريد أن تخسر تواجدها الاستراتيجي في سوريا المتمثل في القاعدة العسكرية في طرطوس، وغيرها من المواقع العسكرية، وكل هذا لا يضمنه سوى بقاء النظام الحاكم الذي يرتبط بروسيا حليفه الأقوى الذي يحميه ويدافع عنه بلا حدود.

الساحة الدولية

بالنسبة للولايات المتحدة، فإنه من المتوقع، في حالة نجاح العملية العسكرية الروسية، أن تتراجع مكانة الولايات المتحدة الأميركية ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط بشكل حاد، وربما على المستوى العالمي أيضاً، مع صعود كبير لمكانة روسيا عالمياً..

الأمر الذي ربما لا ينتج عنه هدوء الأوضاع، بل على العكس، قد تلجأ الولايات المتحدة الأميركية إلى سيناريوهات أكثر شراسة، تبغي من ورائها إثبات أن التدخل الروسي، أدى إلى اشتعال المنطقة. في نفس الوقت، ستعمد روسيا إلى تثبيت وجودها وإحياء دورها في المنطقة، وقد تستدعيها جهات أخرى، مثل العراق، لمحاربة تنظيم «داعش» عندها، وهو الأمر الذي ممكن أن يشكل صدمة كبيرة لواشنطن.

في حالة الفشل

من جهة أخرى، ماذا لو لم تنجح الحملة العسكرية الروسية في سوريا في دحر الإرهاب، ولم تحقق النتائج المرجوة منها، والتي سبق أن أعلنتها موسكو، وحددت لها سقفاً زمنياً تقريبياً قبل شهر فبراير المقبل؟.

الحقيقة أنه في حالة فشل الحملة العسكرية الروسية في سوريا في تحقيق أهدافها خلال المدة المحددة، فإن الأوضاع سوف تزداد سوءاً على كافة المستويات، بل يتوقع المراقبون في هذه الحالة، أن تتحول العسكرية الروسية من القصف الجوي إلى الحرب البرية، أو الاثنين معا..

ولكن هذا الأمر، بقدر ما يشكل خطورة على القوات الروسية في سوريا، بقدر ما يشكل خطورة أكبر على نظام الرئيس الروسي بوتين في روسيا، وسيؤدي بالقطع إلى تراجع حاد في شعبيته، وقد يؤدي إلى إثارة الشارع الروسي ضده، خاصة إذا وقع ضحايا كثيرون من الجنود الروس في الميدان..

وهذا ربما ما تأمله وتحلم به واشنطن، وحتى لو لم تواصل القوات الروسية المعارك جوياً، ولم تشارك في معارك برية، فإن رجوعها بدون تحقيق نتائج ميدانية حاسمة، يضع الكرملين في مأزق كبير أمام الشارع الروسي، كما أنه سيؤدي إلى انهيار شعبية الرئيس الروسي بوتين بشكل حاد، لا يؤهله لخوض انتخابات الرئاسة عام 2018.

من جملة هذه التوقعات، يمكن القول إن الحملة العسكرية الروسية في سوريا، تشكل بالنسبة لنظام الرئيس بوتين في روسيا، مسألة مصيرية، ربما تكون أكثر منها لدى نظام بشار الأسد، الذي عاش السنوات الأربع الماضية في كابوس الرحيل بالقوة، يتهدده مصير صدام والقذافي وغيرهما، في نفس الوقت، فإن الولايات المتحدة الأميركية..

كما أوضحنا، تمثل نتائج الحملة الروسية بالنسبة لها هي أيضاً، مسألة مصيرية، تمس نفوذها الإقليمي والدولي، الذي سيتأثر سلباً، وبشدة، في حالة نجاح الحملة في تحقيق أهدافها، بينما على العكس، سيزداد نمواً وقوة، وربما بطشاً وعربدة في حالة فشل الحملة العسكرية الروسية في تحقيق أهدافها.

رسائل زيارة الأسد إلى موسكو

لا شك في أن زيارة الرئيس الأسد لموسكو اكتسبت أهمية سياسية كبيرة، وهي رسالة إلى المجتمع الدولي لما ستكون عليه المنطقة الفترة المقبلة، وتوجه الزيارة رسائل واضحة، هي:

1 ـ الزيارة في هذا التوقيت بالتحديد، تأتي لتؤكد أن موسكو جادة في مواقفها بالنسبة لسوريا وللنظام الحاكم بقيادة الأسد.

2- موسكو تسعى لإقناع الآخرين بأن الرئيس السوري بشار الأسد ليس محاصراً، وأنه يستطيع التعامل دولياً.3ـ موسكو تشدد من خلال هذه الزيارة، على أنها جادة في تأمين المنطقة في وجه الإرهاب.

4 ـ موسكو توجه رسالة بأن موقفها السياسي لا يزال ثابتاً تجاه الأزمة في سوريا، ولن يتغير.

رد الفعل الأميركي

الجميع انتظروا رد الفعل الأميركي على التدخل العسكري الروسي في سوريا، ولم يتسرع أحد في اتخاذ موقف خاص قبل ظهور الموقف الأميركي الذي جاء على عكس ما توقع الكثيرون، أهدأ مما كان متوقعاً بكثير، حيث جاءت تصريحات الإدارة الأميركية معترضة على التدخل الروسي..

ولكن بدون أي تهديدات وتحذيرات، ثم تغيرت التصريحات الأميركية بعد أيام، وبعد موافقة الإدارة الأميركية على طلب من روسيا بعدم ظهور طائرات عسكرية أميركية في سماء سوريا طيلة تحليق الطائرات الروسية، ما يعني انسحاب الولايات المتحدة وتحالفها عسكرياً..

وإخلاء الساحة لروسيا، ثم تطور الموقف الأميركي بسرعة في نفس الاتجاه، ليشارك في العملية السياسية التي أطلقتها موسكو في نفس توقيت عمليتها العسكرية، وكان لهذا الموقف الأميركي بالغ الأثر في مواقف باقي الدول التي سلمت بالواقع على الساحة السورية.

Email