غيَّر العالم إلى الأفضل وترك بلاده في أشد الحاجة للتطوير السياسي

مانديلا محارب فريد يبحث عن أجوبة لأسئلة صعبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

نيلسون مانديلا أصبح شخصية من الماضي منذ بعض الوقت، فقد «تجاوز مرحلة التقاعد» على حد تعبيره منذ عام 2004. وكان ضعيفا واهنا وبعيدا عن الأنظار عموماً، وليس لديه دور متواصل يلعبه في جنوب إفريقيا الجديدة.

كان موجودا خلال الأشهر القاسية الأخيرة من مرضه، في عالم مواز، بعيداً عن السياسة. ومع ذلك، فإن وفاته، وسيل الحزن والتكريم الذي أعقب ذلك، أظهرا شيئا رائعا بالفعل: قوة المثل العليا، وقوة الأسطورة، وهي قوة لا زالت حية.

ويعرف العالم قصة مانديلا جيدا، ويعلم كيف أنه، في شبابه، تبنى الكفاح ضد نظام الفصل العنصري، ومد يده للرصاصة والقنبلة.

ويتذكر سنواته الـ 27 التي أمضاها في السجن والروح المتحدية الجامحة التي أظهرها من وراء القضبان عندما حيا انتفاضة سويتو التاريخة التي استمرت ستة أشهر، قائلا: «نحييكم جميعا، الأحياء والجرحى والموتى، لأنكم تجرأتم على الانتفاض ضد جبروت الطاغية.. استمروا في كفاحكم! فما بين سندان العمل الجماهيري الموحد ومطرقة الكفاح المسلح، سوف نسحق نظام الفصل العنصري وحكم الأقلية البيضاء العنصري».

مانديلا المحارب

ومانديلا لم يكن من دعاة التحرر بالكلام المبهرج والوسائل السلبية، كما أنه لم يكن قديسا مبجلا على حد سواء. كان محاربا. لكن عرف في النهاية كيف يحقق السلام ويجعل الجراح تندمل.

وأظهر مانديلا لإفريقيا وللعالم أنه يوجد ما يوصف بسياسة إنسانية عميقة وأخلاقية أعمق. وهذه السياسة وضعت معيارا جديدا أصدرنا أحكامنا انطلاقا منه على أولئك الذين يطمحون لتولي مقاليد الحكم. هل بإمكانهم أن يروا الفوائد العظيمة التي يمكن أن تقدمها المصالحة والصفح عن الماضي؟ هل يرتقوا إلى مستوى المثل العليا التي أصبح يجسدها هذا السجين السابق المبتسم المتواضع بطريقة ما ؟

وقف في قفص الاتهام في محاكمة ريفونيا قبل عقود ورفض أن يطأطئ رأسه، قائلا: «ما قمت به كان الأمر الصحيح، ولم يكن أمامي بديل آخر. الحرية سوف تصل إلى جنوب إفريقيا في يوم من الأيام، وإذا ما أمرتم بشنقي فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى الهام الآخرين. أقول إنني غير مذنب».

لكن مع وجود إمكانية للتفاوض على الحرية، احتاج إلى شيء يتجاوز الأوضاع العملية القاسية تلك. كان لا بد من وجود عاطفة من أجل الوحدة واستعداد للنسيان، يمكن أن يفهمها اتباعه في مناطق العزل العنصري.

لكن كانت هناك حاجة إلى شيء أكبر بالنسبة لما كان يتعين كسبه ضمن مجتمع البيض، والذي اضطر في نهاية المطاف على مواجهة مستقبل مجهول. كان لا بد من أن يظهر مانديلا جانبا في طبيعته لا يفهمون كنهه: وهو كياسته وصبره ونكاته الساخرة وتواضعه الأصيل.

لكن جنوب إفريقيا التي يتركها مانديلا وراءه ليست أرض الأحلام المتواصلة، هناك ازدهار لكن لا يتم تقاسمه، كما أنه ليس مضمونا. ولم يتحقق الوعد بولادة جديدة، كما أن الإيمان بالمؤتمر الوطني الأفريقي باعتباره البوتقة الوحيدة للتغيير يستنزف سنة بعد أخرى.

والإطاحة بالفصل العنصري شيء، أما تطوير نظام سياسي يعد باستقرار طويل الأمد فشيء آخر. يذكر الوزير السابق والناشط في المؤتمر الوطني بالو جوردان صداماته مع مانديلا. ويخلص قائلا: «الرئيس الجديد حاول إيجاد قيادة متوازنة في قالب شبيه برئيس الوزراء الهندي الأسبق جواهر لال نهرو: (كان يطلق عليه الخيار الهندي).

 لكنه على ما يبدو كان يعني أسلوبا في القيادة مدروساً بعناية وله أصوله الذاتية الذي في بعض المعاني يكرر طريقة صنع القرارات لأخوية قدامى المحاربين في المؤتمر الوطني الإفريقي المحبوسين لفترة طويلة على جزيرة روبن، بنزعة تسلطية وليدة ذاك المكان.

وعندما كان مانديلا مجبرا على الانخراط في المناورات السياسية التفصيلية، كان سياسيا بين السياسيين. ولقد اختار ثابو مبيكي خلفا له، وحذره من أن يحيط نفسه برجال طائعين. كان يسعى لمزيد من السجال والمشاركة، وانطواء أقل. لكن العديد من سكان جنوب إفريقيا شعروا حينئذ أن خياره كانت تشوبه عيوب، ويشعرون اليوم بالمزيد من الشكوك بشأن زوما.

ومع كل تألق رؤية مانديلا، إلا انه واجه مشكلاته الكبرى عند حكم جنوب إفريقيا التي أنشأها، وفي اختبار المسار الذي ستمضي به بعد رحيله.

 

سجين تجاربه

 

لا نفع من أخذ إرث مانديلا وتحويله إلى نوع من لوحة مقدسة، فهو لم يكن من صنف الآلهة سياسيا، بل قائدا يبحث عن أجوبة عن الأسئلة الأكثر صعوبة. وغرائزه كان بإمكانها أن تصل به إلى تلك المكانة، لكن ليس أبعد من ذلك. وكان حتما سجين تجاربه الخاصة.

ومانديلا كان بإمكانه أن يحكم، ويشكل مصدر الهام في لحظة اختبار فريدة من نوعها، لكن ليس بالضرورة على نحو ملهم بعد ذلك.

فالفجوة بين الأغنياء والفقراء لا تزال على ما هي عليه. وتحديات المصالحة مستمرة. لكن الطرق التي حاول مانديلا من خلالها أن يتعامل معها، بنخوة وانضباط للنفس، لا تنتمي إلى زمن سياسي محدد، بل تمثل موقفا بدلا من رد فعل، وهي ردود عامة وليست خاصة، وهي التي تشكل مثالا يقتدى.

Email