أجبرت الظروف الاقتصادية في قطاع غزة الخريجين وحملة الشهادات العليا لوضع شهاداتهم على جدران منازلهم والافتخار بها نظرياً، والانخراط لمن وجد منهم عملا، في مهن لا تمت بصلة لتخصصاتهم الدراسية عملياً، لمحاربة شبح البطالة الذي يخيم على قطاع غزة عاماً تلو العام بإضافة آلاف الخريجين لهذا الطابور.

ولم تشفع الشهادات الجامعية لحامليها بالانخراط في عمل يتماشى مع تخصصاتهم، التي حلموا بخدمة الوطن من خلالها، في ظل ارتفاع نسب البطالة والفقر في قطاع غزة، واضطروا للعمل في مجالات بعيدة عن مجالاتهم مجبرين عليها لمساعدة أهاليهم بتأمين مصروف بيتهم.

باعة متجولون

فكم كان الشاب محمود الحسنات (28 عاماً) يحلم بأن يقف أمام الكاميرا، حاملا المايكروفون ليقدم رسالته من قطاع غزة عبر الفضائيات، بعدما تخرج من كلية الإعلام في جامعة بولوتكنيك فلسطين، لكنه الآن يقف مع شقيقه معاذ (24 عاماً) خلف نافذة عربة صغيرة قاما بتصميمها محلياً، لتصبح مطعماً متنقلاً أطلقا عليه اسم «قرموشتي».

وتطوع محمود في الكثير من المؤسسات الإعلامية والمجتمعية بغزة، وعمل فيها بنظام العقد لعدة أشهر، ولكن لم تكن هناك وظيفة دائمة له، وانطلق من واقعه الصعب للعمل كبائع متجول في غزة، ولم يعد يفكر بالعودة للعمل في مجال الإعلام بعد استقراره في عمله الحالي.

وتخرج شقيقه معاذ من تخصص برمجيات وقواعد بيانات من كلية المجتمع للعلوم التطبيقية، والتحق بشقيقه لعدم قدرته على الحصول على فرصة عمل في تخصصه أيضا بعد الوعود الكثيرة من أصحاب الشركات ولكن دون الإيفاء بها. وينتشر الباعة المتجولون في الشوارع العامة وعلى المفترقات.

وفي محيط مربع الجامعات وسط مدينة غزة، لعدم قدرتهم على دفع أجرة محلات وهرباً من الضرائب والرسوم التي تفرضها بلدية غزة على بعض الباعة المتجولين في أماكن حيوية بمدينة غزة.

وأثار طالب دراسات عليا في قطاع غزة ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد حصوله على درجة الماجستير في تخصص الرياضيات، والتحق في برنامج الدكتوراه، ولم يحصل على فرصة عمل حتى الآن، لعدم وجود «واسطة» تساعده للعمل في الجامعات ولو بنظام الساعات، مما اضطره للعمل في دهان المنازل، وانتشرت صورته على مواقع التواصل الاجتماعي خلال عمله في الدهان.

أما الشاب محمد اللقطة، الحاصل على ماجستير هندسة صناعية واستشاري تدريب وتطوير مؤسسات، فيرى أنّ الخريج الذي يمتلك مؤهلاً علمياً سواء كان دبلوماً أو بكالوريوس «ولم يجد عملا في تخصصه، وعمل في حرفة الحلاقة أو التجارة فهو يصنع حظه وقدره ويبني نجاحه، فألف خطوة تبدأ بخطوة، ولا يعيب الرجل عمله».

آمال وطموحات

من جهته، قال المستشار الاجتماعي والتربوي د. فوزي رشيد إن مشوار التعليم الجامعي كله ملئ بالأمنيات والتوقعات فيما بعد التخرج، وفي أثناء ذلك يبني الطالب قصوراً في الخيال لما سيكون عليه حاله ما بعد التخرج، وفجأة يصطدم الخريج بالواقع الذي لا يرحم فيه جهد بُذل ومال هُدر، فيجد نفسه على قارعة الطريق بلا عمل مؤنس.

ويبدأ الفراغ ينهش في أعضائه بلا أمل لمستقبل كان يحلم به مزهراً، وتتحطم الآمال وتنكسر النفوس وتتدنى الطاقات بلا بذل ولا عطاء.

انتكاسة نفسية

ويبيّن د. رشيد أن هذا الاصطفاف في طوابير البطالة يسبب انتكاسة نفسية للخريج، قد ينتج عنها اضطرابات نفسية، أو مشكلات اجتماعية تجعله غير متزن في انفعالاته، وينظر إلى نفسه نظرة دونية، ويغدو سلوكه غير سوي في علاقاته مع الآخرين. ولفت إلى أن هذه المهن بالأساس لا تناسب الشباب الخريجين.

ولكن العمل فيها يكسب احترام الناس وتقبلهم واقع الحياة، فاتجاه الشباب إلى هذه المهن البسيطة سببه قلة الفرص الوظيفية المناسبة التي تشبع رغبات وطموح الشباب، خاصة المؤهلين منهم علمياً.