أدب السجون.. صورة حية لمقاومة الاحتلال

معاناة الأسرى الفلسطينيين | أرشيفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال، يلامسون المطر والثلج الأبيض قبل أن يبلل وجوههم، وبدأت الجباه تتفتح، اشتدّت زخات المطر، وبدأوا يركضون في ساحة السجن، ولكنهم خارج حدود الزمان والمكان.

يركضون جميعاً، الشيوخ والشباب والأطفال ويحلقون بسعادة حتى تحرروا من قسوة وسطوة السجن والسجان، وأصبحوا أكثر حرية من السجّان الذي شعر لحظتها بأنه السجين الوحيد رغم امتلاكه مفاتيح الأبواب، وهم الأحرار الطلقاء رغم أنهم أصحاب محكومات عالية ومؤبدة.

وعلى الرغم من التعذيب والمعاناة التي يواجهها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، إلا أن الحياة اليومية للقهر والظلم في ظل احتلال لا يعرف الرحمة ويمارس أنواع العذاب بحق الأسرى تخلق نسيجاً قوياً بين أصحاب الفكرة والقضية الواحدة من العلاقات الإنسانية المتميزة التي تجمع المعتقلين وتؤلف بين قلوبهم، وهذا ما أسهم في إيجاد تربة خصبة تنمو فيها الإبداعات، لتبني نموذجاً ذا نكهة جديدة تسجلها اللحظات التأملية التي يحياها السجين بعيداً عن ذويه.

ونجح الأسير الفلسطيني في أن يخرج فناً وأدباً جيداً يؤرخ ويوثق الحياة التي يعيشها، ويعبر عن ذاته بشكل جيد وينقل تجربته داخل سجون الاحتلال في قصائد وحكايات ومسرحيات وتسليات جميلة وصادقة، والقسم المشترك للأعمال الأدبية التي خرجت من السجون هو التصوير الحي للصمود.

مجموع هذه الإبداعات التي ولدت في أقبية السجون وعتمة الزنازين وخلف القضبان، والتي خرجت من رحم المعاناة والوجع اليومي والمعاناة النفسية التي كانت نتاجاً لفنون السجان في التعذيب والتنكيل كانت تمنحهم الصبر والصمود أمام أيام السجن.

أدوات بسيطة

كانت باكورة العمل المسرحي قد بدأت في سجن «الجنيد» عام 1984 كتب فيها الأسرى المسرحيات وشاركوا بعروض عرضت داخل غرف السجون وبأدوات بسيطة، وتطورت موهبتهم خلال سنوات الأسر فأصبحوا الآن كتاباً ومخرجين وفنانين تعرض أعمالهم على المسارح.

يقول الأسير المحرر جهاد غبن لـ «البيان»، والذي أمضى 22 عاماً داخل السجون الإسرائيلية، إن اللجان الثقافية في بعض السجون كانت تنظم بين الحين والآخر مسرحيات تستثمر فيها المواهب المتوفرة، حيث كانت تتم التدريبات بالسر، وبعدها يُفاجأ الأسرى في «الفورة» بوجود مسرحية، وقد استمرت هذه الأعمال في السجون حتى عام 2000، وبعدها منعت إدارة السجون هذا النوع من الفن من خلال ملاحقة الأسرى ورشهم بالغاز، ثم نقل الأسرى إلى سجون جديدة تمتاز بغرفها الصغيرة ولا مجال للعروض المسرحية بداخلها، واكتفى الأسرى بعدها بالأدب ووسائل الترفيه عن النفس.

أما عن الموضوعات التي كانت تتناولها المسرحيات فقد أفاد غبن بأنها في الغالب تكون وطنية عن حب الأرض والشهداء وزيارة الأهل للأسرى، ومنها ما يكون حزيناً، أو كوميدياً يصحبه نقد ساخر عن حياة الأسرى لنشر الفرح في السجن.

الشعر وأدب السجون

امتدت جذور الإبداعات التي تخلقت في السجون الإسرائيلية في التاريخ الفلسطيني، وثمة أسماء عديدة كتبت الشعر والنثر وأصحابها يقبعون خلف الزنازين من الأدباء الذين جادت قرائحهم بالشعر والنثر، وسجلوا تجربتهم وهم في السجون الإسرائيلية.

يقول هشام عبد الرازق الأسير المحرر ووزير الأسرى سابقاً، والذي أمضى 21 عاماً داخل السجون الإسرائيلية لـ«البيان»: إن الأسرى ركزوا في أعمالهم الأدبية على موضوعات الفخر والحماسة بصفتهم مقاومين رفضوا الظلم الواقع عليهم وعلى شعبهم، إضافة إلى محاولتهم نقل تجربتهم وتجربة من حولهم، ويضيف أن أدب السجون تناول وصفاً دقيقاً للحالة الشعورية والنفسية للكاتب والأسرى من حوله ووصف المكان والزمان.

ويضيف عبد الرازق شهدت مرحلة انتفاضة الحجارة تنوعاً في إبداعات المعتقلين وتطوراً كمياً في النتاجات الإبداعية، وقد تحول الأدب من ممارسة هواية وثقافة جمالية، إلى مشاركة نضالية في أحداث الانتفاضة وزخمها الثوري.

وشهدت هذه الفترة الزمنية زيادة ملموسة في عدد الكتب التي صدرت للمبدعين المعتقلين، وأولت دور النشر والمؤسسات الثقافية والمجلات والصحف عناية خاصة بأدب المعتقلات.

انعكاس للواقع

ويقول عبد الرازق إن «الأسير الذي يكتب الأدب هو انعكاس للواقع الذي يعيشه، ومن أهم الأعمال التي كتبتها ديوان «الجِراح» وهو عبارة عن شعر نضالي مقاوم إضافة إلى رواية «فرسان الحرية»، والتي تتحدث عن تاريخ الحركة الأسيرة، وكذلك رواية «شمس في ليل النقب» عام (1991)، مشيراً أن هناك العديد من الكتاب والأدباء الذين تألقوا داخل السجون وكتبوا عدداً من الدواوين.

أما نهاد جندية والذي أمضى 24 عاماً داخل السجون الإسرائيلية فيقول لـ«البيان»: إن المعتقل الفلسطيني بفكره ومحتواه الثوري والنضالي، يشكل هدفاً أساسياً للاحتلال الإسرائيلي الذي كرس كل اهتمامه وطاقاته للتشويش على وعي وفكر الأسرى، وتشويه سلوكهم وأفعالهم النضالية، من أجل جعلهم في حالة شك لإحباط توجهاتهم وتفكيك قدراتهم الكفاحية والثورية، بهدف تحطيم وترويض إرادتهم وصمودهم.

ويضيف جندية: إن من الأساليب التي سعى الاحتلال لممارستها على المعتقلين الفلسطينيين لتنفيذ مخططاته، سياسة الإفراغ الفكري والثقافي، التي تهدف إلى زرع ثقافة مشوهة بديلة، تعمل على صياغة نفسية المعتقل من جديد وتطويعه وفق إرادتها، لهذا قامت سلطات الاحتلال بإعلان الحظر التام على الثقافة الوطنية والإنسانية، بل على كل وسيلة ثقافية، حتى الورقة والقلم والكتاب، فقد كانت سلطات الاحتلال تعتبر أن امتلاك ورقة وقلم في وقت من الأوقات من الأمور المرتبطة بالحضارة والرقي، لهذا لم يسمح الاحتلال بأن يتوجه معتقلوه نحو رفاهية الحضارة والرقي، بل عليهم أن يبقوا تحت القهر والإذلال وكتم الأنفاس.

مراحل مهمة

مرحلة السبعينيات نجح فيها المعتقلون في فرض مطالبهم على إدارة السجون.

وفي هذه الفترة شكّلت الرسائل التي يبعثها المعتقل إلى ذويه الكتابة الأدبية الأولى من خلف القضبان، حيث حاول المعتقلون في رسائلهم استعمال ديباجات إيحائية معينة لجأوا إليها لتمويه الرقيب الإسرائيلي، فكانوا يختارون أبياتاً من الشعر أو عبارات من النثر، يسطرون بها رسائلهم.

وقد كان الأدب أكثر التصاقاً بواقع المعتقلين، فقد كان وسيلة للتعبير عما يعتمل في النفس البشرية.

وكان التعبير بالشعر البدايات الأولى في إبداع المعتقلين، فهو أسرع الأنواع الأدبية استجابة للتعبير عن المعاناة.

أما في فترة الثمانينات فقد تطور الإبداع وتعدد لدى المعتقلين، ففي هذه المرحلة اتسعت مساحة الثقافة والمعارف لدى المعتقلين بعد السّماح بإدخال الكتب الثقافية المتنوعة، وخاصة الكتب الأدبية التي كان نصيبها من الرقابة المشددة أقل من الكتب السياسية، ما سمح للمعتقلين بفرصة الاطلاع على نماذج عديدة دعمت التجربة الإبداعية لهم.

وقد استطاع المعتقلون في فترة الثمانينيات تهريب نتاجاتهم الإبداعية إلى خارج المعتقل، واهتمت الصحف والمجلات المحلية بنشر إنتاجهم، ما شجعهم على مواصلة الكتابة وتطوير إبداعاتهم.

وعكف الأدباء المعتقلون جاهدين من خلال نتاجاتهم الإبداعية، لأن يكونوا صادقين مع تجربتهم، أوفياء لقضيتهم، يسجلونها بصدق وأمانة، لأنها تعكس ما يجول في خاطرهم من مشاعر وطموحات وتحديات وروح عالية، وتمسك بالهدف السامي الذي اعتقلوا في سبيله.

Email