أم محمود.. دموع على شبك زيارة أبنائها الأربعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تنم أم محمود تلك الليلة، وهي تتحضّر لزيارة أبنائها الثلاثة في سجن غزة، طلال ومحمد وفايز، أما أبو محمود فكان عليه أن يتوجّه إلى سجن عسقلان لزيارة رابعهم، شوكت.

كثير من الأسر الفلسطينية كانت تضطر لتقسيم نفسها لزيارة أبنائها في سجون متعددة. أبناء أم محمود الأسرى كانوا أربعة، وخامسهم سيأتي دوره «بعد صيف».

كان أكبر الأبناء الأسرى شوكت في سن الحادية والعشرين، وأمضى سنتين ونصف السنة، فايز ابن التسعة عشر عاماً أمضى في السجون ست سنوات، وطلال ابن السبعة عشر عاماً أمضى 16 سنة، ومحمد ابن 15 ربيعاً أمضى 6 سنوات، ثم اعتقل أحمد وكان عمره 16 عاماً.

في يوم الجمعة ذاك، كانت زيارة سجن غزة من نصيب أم محمود وأحد أبنائها ممن لم يأت دورهم للاعتقال. إدارة السجن تنادي عبر مكبرات الصوت داخل المعتقل وتعدد أسماء المعتقلين فوجاً فوجاً على التوالي، كل فوج يتكون من 20 أسيراً.

أمام شبكين

يجلس الأسرى على كراس مصنوعة من الباطون أمام شبك حديدي. كل سجين يبعد عن الآخر قرابة نصف المتر. وفي الجهة المقابلة، شبك حديدي آخر يبعد نحو عشرين سنتمتراً ليرى ذوو الأسرى أبناءهم عبر شبكين، وبينهما سجن صغير آخر للنظرات والكلام والدموع.

عندما دخلت أم محمود غرفة الزيارة، فوجئت بوجود شوكت في سجن غزة، الذي كان نقل إليه قبل يوم واحد. تسمّرت أقدامها وقالت: «أنت هنا يا شوكت؟ أبوك راح من الصبح يزورك. وين إخوتك؟». أشار شوكت للمقاعد التي تصطف تباعاً على يمينه.

قفزت أم محمود لفتحة الشباك المجاور، إنه طلال: كيف حالك يمه؟ ثم صارت تنتقل من شباك إلى آخر ولا تمكث أمام كل شباك سوى بضع ثوان. إنه التوزيع العادل لمشاعر الأمومة.

ممنوع التنقّل

انتبه الجندي وصرخ فيها قائلاً: اجلسي، ممنوع التنقّل بين المساجين، لكنها لم تكترث لصراخه وممنوعاته الجافّة، فكرر مراراً إلى أن انتبه أهالي الأسرى، وقالوا لها: «اجلسي يا حجّة بلاش يلغوا الزيارة خلينا نزور أولادنا».

رمقتهم أم محمود بعينين شاردتين ويدين متشوقتين للعناق، وقالت: أولادي.. هؤلاء الأربعة أولادي. تراجع الجميع، ووقفوا ينظرون إلى هذه الأم التي تتنقل بين شبابيك الزيارة وتردّد جملة واحدة: حبيبي يمّه؟

توجّه واحد من ذوي الأسرى للجندي المكلّف بمراقبة الزيارة، وقال له إن هذه المرأة تزور أولادها الأربعة، وليست تتنقل لمجرد الهواية. فتح الجندي فاه وقال مندهشاً: هؤلاء جميعاً أولاد هذه المرأة؟ قالوا له: نعم. صمت الجندي وتراجع واكتفى بالنظر. الناس وجنود آخرون ينظرون إلى أم محمود وهي تنتقل من شباك إلى آخر، وتردّد «حبيبي يمّه».

حاول شوكت تهدئتها، لكن من دون جدوى. كانت تقول له باعتباره أكبرهم: «إخوتك صغار يا شوكت». إذاً، حنان إضافي للأصغر لا يكسر قاعدة العدل الأمومي، لكن دموع الأم توزع سخونتها على الكبير والصغير.

كل الأهالي من ذلك الفوج الزائر للأبناء وقفوا مشدوهين، أغلبهم كان يبكي، وبعضهم كان ينتحب بصوت عال، وسط ذهول من جنود يتساءل لسان حالهم: كيف بنا أن نواجه شعباً أمهاته بهذه المواصفات؟

Email