الأقباط.. عودة وجه السودان المتسامح

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يكاد يوجد لسان سوداني واحد لم يترنم بكلمات أغنية الفنان ذائع الصيت الراحل حسن خليفة العطبراوي الذي تغني بها في سبعينيات القرن الماضي، وظلت راسخة إلى يومنا هذا كإحدى الأغاني التي خلدتها مكتبة الأغنية السودانية، والتي تقول بعض أبياتها «وبحق بطرس يا فتاتي، من شفى الرجل الكسيح، وبمريم العذراء والأحبار والراعي الصليح.

وبمارجرجس والكنيسة والمسيح، بالقس بالمطران بالجرس المُرِنّ على السطوح».. تحتشد الذاكرة الأدبية السودانية بالعديد من القصائد الشعرية والأعمال الفنية التي كتبت، حول الأقباط الذين وفدوا إلى السودان بحسب بعض المؤرخين في عام 270 م، غير أن هذه المجموعة السكانية التي كانت لا تخلو مدينة سودانية، حافظت على نمط صارم في مخالطتها للمجتمع يبتعد تماماً عن المصاهرة والتزاوج مع المكونات المحلية، ورغم ذلك كان حضورها مؤثراً وآسراً لجميع السودانيين الذين أحاطوها باحترام ومحبة بالغين.

كان القانوني هنري رياض من أبرز القانونيين في تاريخ السودان المعاصر، رفد المكتبة بكتب مرجعية، وترجمات ساهمت في تكوين وعي عددٍ لا يحصى من المتعلمين. كان شخصية وطنية من تلك الشخصيات التي يستظل الناس بظلالها الوارفة في لحظات الشدة. وضمت الأحزاب السودانية شخصيات قبطية وازنة.

حيث كان عبدالله النجيب في قيادة الاتحاديين، ولطيف صباغ في حزب الأمة، وسمير جرجس في الحزب الشيوعي، وبرز المحامي نبيل أديب في قيادة التجمع الوطني الديمقراطي. ومنذ نشأة الدولة السودانية الحديثة عمل الأقباط في المصالح والإدارات الحكومية، كالبريد والبرق والتلغراف والسكة الحديد والإدارات المالية والحسابية، والأشغال والزراعة والغابات والقضاء والطب.

وتم انتداب بعضهم للبحوث والاستكشاف حول ربوع السودان، وإليهم يُنسب الفضل في توطين صناعة المنسوجات بالسودان وبدايات تكوين الفرق الرياضية السودانية، ثقة الناس في الأقباط جعلتهم يتولون عادة وظائف الصرافة والحسابات، واحتشد مرفق سكك حديد السودان بهم ولهم ينسب فضل الانضباط الصارم الذي لازمه إلى وقت ليس بالبعيد.

وفي المجال الثقافي يخلد اسم جورج مشرقي صاحب المقهى الشهير بأم درمان، الذي كان مقراً للطبقة المثقفة السودانية وبخاصة الشعراء والمغنيين، وله ينسب الفضل في جميع التسجيلات التي تمت للأغاني السودانية، كذلك لمع اسم يوسف ميخائيل المؤرخ الذي كتب مذكراته عن الثورة المهدية والحكم التركي، وكان الخليفة عبدالله التعايشي، خليفة الإمام المهدي (1885-1898)، يعتبره سنداً وعضداً للمهدية وكثير من الأسماء التي نجحت في عالم التجارة والصناعة.

ولعب أقباط السودان أدواراً كبيرة في البلاد، فلهم يعود الفضل في تأسيس أول مدرسة أهلية للبنات عام 1902، وتأسيس المكتبة القبطية عام 1908، والكلية القبطية للأولاد عام 1919. ويذكر التاريخ السوداني أن أول امرأة تدخل كلية غردون التذكارية، جامعة الخرطوم لاحقاً، كانت القبطية آنجيل إسحق.

ويعود الفضل في ذلك إلى طبيعة ثقافة الأقباط المتقدمة على عادات مجتمع السودان صارم التقاليد آنذاك، ورغم أن الأقباط ظلوا محل تقدير ولم تسجل حادثة طائفية واحدة في السودان كانوا طرفاً فيها، إلا أنهم لم يسلموا من بطش نظام «الإخوان» فمنذ قدومه، جعل الأقباط هدفاً لحملات ممنهجة، ابتدرها بإعدام مساعد الطيار جرجس القس بسطس، حيث حُوكم عبر محكمة جائرة بتهمة حيازة نقد أجنبي.

ومن بعد تنوعت وسائل «الإخوان» لإضطهاد الأقباط بين الهجوم الإعلامي عليهم، ونعتهم بأوصاف تحريضية، ومصادرة ممتلكات بعضهم بزعم «الدعوة لأفكار دينية منحرفة تخالف الإسلام»، ونقل رسائل إلى كثيرين منهم بطريقة غير مباشرة للهجرة..

وفور اندلاع الثورة التي أطاحت بحكم «الإخوان» انخرط الأقباط فيها على نحو غير مسبوق، فكانوا في مقدمة المتظاهرين وفي ميدان «القيادة العامة أيام الاعتصام الذي تم فضّه في يونيو الماضي، التقت «البيان» رئيس مجلس الطائفة الإنجيلية رأفت سمير، وسألته بشأن حماس الأقباط لإسقاط نظام «الإخوان»، فقال إن الأقباط كمكون من مكونات المجتمع السوداني الثورة كانت وسيلتهم لتحرير أنفسهم من هذا الاضطهاد المتكرر من جانب نظام البشير.. ومضى قائلاً إن أحب الهتافات إلى نفسه هو الذي يتردد دائماً «الهلال مع الصليب..

السودان اليوم بيطيب»، وأضاف أنه ردد قبيل سقوط البشير وأيام الاعتصام الأولى حيث درج أبناء الطائفة القبطية على حراسة المعتصمين عندما يهمون بصلاة الفجر من غدر كتائب الظل «المسمى الشعبي لمجموعات الإخوان المسلحة». الآن، وبعد غياب يشارف على نصف قرن يعود الأقباط إلى السياسة السودانية عبر بوابة مجلس السيادة، حيث توافق المجلس العسكري الانتقالي وإعلان قوى الحرية والتغيير على ترشيح رجاء عيسى عبدالمسيح، المستشارة بوزارة العدل، لتكون العضو الحادي عشر للمجلس.
 

Email