ترامب يرش الملح على جرح النكبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يختلف المحللون والمراقبون وحملة القلم بالإجمال على أن ما حدث في قطاع غزة خلال الأيام الأخيرة، وذروته يوم الاثنين عشية الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية، مجزرة متكاملة الأركان، لا ينافسها في سخونة المشهد سوى سوداوية اتشحت بها القدس المحتلة وهي تشهد تنفيذ وعد الرئيس دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إليها في احتفال حوّلها من مدينة مقدّسة إلى «ديزني لاند».


مسيرات العودة الفلسطينية في محيط قطاع غزة لها مآلاتها الميدانية والعسكرية والسياسية، بل إنها كتبت قراءة لمستقبل المواجهة بين ثلاثة أجيال النكبة من الفلسطينيين ومحتلي أرضهم، بدماء ثلاثة آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، من كل الأعمار والفئات، بما في ذلك أنصاف أجساد كانت تزحف بلا سلاح سوى قطعة قماش مرسوم عليها ألوان العلم الفلسطيني.


من يقرأ المشهد الصراعي المحتدم على الجبهة الفلسطينية الصهيونية لا يستنتج «أنّ اليأس وقلّة الحيلة هي من يحرك الناس هنا»، مثلما يخلُص أولريش شميد في افتتاحية صحيفة «نويه تسورخر تسايتونغ» الصادرة في زيوريخ، ولا لأن أهل غزة ليس لديهم ما يخسرونه، كما أن ما يجري ليس مجرد ردّة فعل فلسطينية عبر المظاهرات الحاشدة كوسيلة لإيصال الصوت للعالم الصامت، وإن كان هذا صحيحاً بالإجمال، مثلما هو أصح من ذلك القول إن خطوة نقل السفارة الأميركية إلى القدس مؤشر على الأخطار التي ستنتج عن سياسة ترامب على جبهة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أقلّها أن الحلّ السلمي حتى بالمعايير الإسرائيلية المتقاطعة مع المحددات الأميركية، يبدو أبعد منه اليوم من أي وقت مضى.


رياح تصعيد
حتى الخبير العسكري في صحيفة «إسرائيل هيوم» يحذّر من أن ما يحدث في غزة يحمل معه رياحاً من التصعيد، إذ يلاحظ أن القطاع المحاصر والمُجوَّع على شفا الانفجار الحقيقي، وأن إسرائيل تترقب موجات أخرى من المواجهات، بحيث بات من الصعب تجاهل حقيقة أن الوضع في غزة يقترب مع مرور الوقت من الانفجار الكامل، بما في ذلك انهيار المؤسسات المدنية، فيما يضع آخرون الضفة الغربية والقدس في نفس دائرة احتمالات التفجير على شكل تصعيد عسكري يتوّج بمواجهة أعنف من الحروب الثلاث الأخيرة على القطاع، حتى لو بدا في هذه المرحلة أن كل الأطراف لا ترغب في الوصول إلى هذه النتيجة.

الميدان المحيط بغزة شكّل مرآة تعكس العقلية الإسرائيلية بكل صلفها ودمويتها ونظرتها الدونية والاحتقارية لحق الفلسطيني ليس في الاحتجاج فحسب، إنما لحقّه في الحياة.

قادة إسرائيل هددوا بقنص كل فلسطيني يقترب من السياج، لكن كل وسائل الإعلام العالمية وثّقت سقوط شهداء على بعد مئات الأمتار من السياج، ومن نافل القول إن محتجاً مبتور الساقين وصحافياً يحمل آلة تصوير أو طفلة بعمر 9 أشهر أو امرأة تأخذ معها أطفالاً إلى خيام الاحتجاج، إن هؤلاء يمكن أن يفكّروا أو يستطيعوا تشكيل حالة خطر تهدد 11 فرقة عسكرية حشدها جيش الاحتلال في مساحة ضيقة قرب سياج غزة.
الخطورة التي يحذّر منها محللون إسرائيليون تكمن في أن تلجأ فصائل المقاومة بغزة إلى رفع منسوب المواجهة من خلال استخدام السلاح.

هذه الفصائل تؤكد حتى الآن حرصها على سلمية مسيرات العودة، لكن شلال الدماء الذي يجري من الشهداء والجرحى يؤدي بلا شك إلى ضغط شعبي على هذه الفصائل إلى الدرجة التي تجعلها تخشى على ما تبقى من رصيد لها في الشارع وما صمد من الثقة بتمثيلها أحلام الفلسطينيين، علاوة على حالة «غسل اليد» من إمكانية إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة.


تأهب
إسرائيل تدرك ذلك جيداً، وتتأهب لإمكانية ارتفاع مستوى التوتر في الجبهة الجنوبية خلال الفترة القادمة، رغم انتشائها بنقل السفارة الأميركية للقدس، وقد بات مؤكداً أن المسيرات لن تتوقف، على الأقل قبل الخامس من يونيو، ذكرى هزيمة الـ67، ولا يمكن التنبؤ بتفاصيل المشهد القادم لأن ترسيمه بيد الميدان وليس رهناً بقائد سياسي هنا أو هناك، ولعل العسكريين والأمنيين المخضرمين المتقاعدين في إسرائيل يدركون أكثر من السياسيين المراهقين أن المياه حين تحشر خلف السد تولّد الكهرباء.

Email