كيف قسمت الحرب قرى وشوارع وبيوت سوريا

منبج.. المدرسة بمناطق «درع الفرات» والبيت مع «قسد»

منبج منطقة سورية إدارية تتبع محافظة حلب (البيان)

ت + ت - الحجم الطبيعي

تصاب بحالة من التشويش وأنت تتجول في المدن وفي القرى السورية، وخصوصاً تلك المناطق التي تعيش على خطوط التماس، فلا يمكن معرفة تناقضات هذه المناطق إلا من خلال الوقوف على التفاصيل اليومية، التي تعكس تعقيدات هذه الحرب وكيف غيرت طبيعة الحياة في سوريا.

منبج وأطرافها أحد المشاهد المعقدة في الأزمة السورية، هذه المدينة ذات الأغلبية العربية تبعد حوالي 50 كيلومتراً عن الأراضي التركية، ولا يفصل بينها وبين مدينة جرابلس سوى فرع من فروع نهر الفرات وهو نهر الساجور.

على خطوط القتال بين مدينتي منبج وجرابلس، تلتقي كل التناقضات وتختلط تفاصيل الحياة، فالقرى على الجبهات هي ذاتها تنقسم في منطقتين معاديتين، وعلى سبيل المثال قرية قيراطة المنقسمة على ضفتي الأعداء تعيش حالة من الضياع، هذه القرية قسم منها بين قيادة مجلس منبج العسكري، والقسم الثاني بيد فصائل درع الفرات المدعومة من تركيا.. هذان العدوان يحكمان قرية واحدة شاءت الأقدار وخطوط التماس أن تكون تحت السيطرة المزدوجة.

من تناقضات هذه الحرب وغرائبيتها، أن أصحاب الأراضي الزراعية في قيراطة المرتبطة بجرابلس، يذهبون صباح كل يوم إلى زراعة أراضيهم في المناطق التي يسيطر عليها مجلس منبج العسكري، ومن ثم يعودون في نهاية اليوم إلى بيوتهم حيث سيطرة درع الفرات.

القرية واحدة بين الطرفين، لذا لا وجود للمسافات على الإطلاق بين الطرفين، فالأعداء المتحاربون في ما بينهم مكشوفون عسكرياً على بعضهم الآخر، ويعرفون تحركات بعضهم، بل حتى يمكن سماع صيحاتهم إن تطلب الأمر.

لم تنته القصة بعد، فهناك أيضاً أقارب قسمتهم الحرب وجعلتهم خصوماً وأعداء، فالعائلة الواحدة في معظم الأحيان تكون بين منتم إلى فصائل درع الفرات وفي ذات الوقت تكون منتمية إلى مجلس منبج العسكري.

التناقضات السياسية

حتى حالات الزواج بين القريتين تشكل تحدياً لقوانين الحرب والصراع في سوريا، فالكثير من القرى المنقسمة بين الطرفين تتزاوج لتكمل مسيرة الحياة رغم التناقضات السياسية والعسكرية، ورغم حالة الجغرافيا التي تعيق إلى حد كبير هذا التواصل، ففي فترة سابقة منعت المناوشات بين الطرفين الأهالي من زيارة بعضهم البعض، حين كانت الجبهة في حالة من التوتر بين درع الفرات ومجلس منبج العسكري.

لا يعرف أحد على وجه التحديد كيف تشكلت هذه الحالة في المدن السورية، وعلى وجه الخصوص في مدينة منبج، كيف يمكن أن تعيش في حالة عداء مع الجغرافيا والتاريخ، مع الجغرافيا حين تبيع محصولك في مناطق الأعداء، ومع التاريخ حين تتناسى أن من يقاتل في الضفة الأخرى هو لا يعنيك في صلة القرابة بشيء.

الحرب

يقول أحد المقاتلين على خطوط الجبهات الأمامية لـ«البيان»؛ نعرف الكثير من الأقارب والأصدقاء يقاتلون في درع الفرات بينما نحن نقاتل مع مجلس منبج العسكري، ونحن على تواصل شبه دائم معهم.

ويضيف: دائماً ما نتحدث عن الحرب وفي حال اندلعت هل نكون على مواجهة في الخط الأول، ماذا لو وقعت الحرب هل سنقتل بعضنا البعض، يتابع هذا المقاتل قائلاً: نحن لا نعرف أيضاً ماذا يجري، لكننا نعيش اللحظة فقط ولا نفكر في ما سيحدث في اليوم التالي.

الأكثر غرابة ومثير للاستغراب، أن هناك بعض الأشخاص يتواصلون في النهار عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويتبادلون أحاديث الماضي حين اندلعت الثورة وجمعتهم فصائل واحدة ضد النظام، إلا أنه في ساعات الليل الكل يستعد لأي حالة استنفار، وربما تتحول حالة الاستنفار إلى اشتباك قد يكون أصدقاء النهار أعداء الليل.

المدرسة والبيت هما الآخران تحت سيطرة التقسيم، فالأطفال في صبيحة كل يوم يذهبون إلى مناطق درع الفرات في قرية القيراطة بينما هم يسكنون في القسم الثاني من القرية التابع لمدينة منبج.

بل إن بعض المدرسين ينقسمون بين القريتين اللتين لا تبعدان عن بعضهما البعض أقل من كيلومتر، هؤلاء المدرسون يحملون دماءهم على أكفهم وهو ينتقلون عبر خطوط القتال من قرية إلى أخرى، كي لا يضيع جيل الحرب وينضم إلى قائمة الخاسرين.

أما الأطفال الذين يزاولون مقاعد الدراسة، فهم الأكثر تعرضاً للمخاطر جراء الواقع على الحدود بين منبج وجرابلس، فهذا العمر الذي لا يتجاوز الأطفال سن الثانية عشرة، لا يدركون أنهم على خط النار.

ولا يدركون أيضاً كم هو حجم البارود المتربص بهم على خط التماس، وحجم البارود الداخلي لدى المتحاربين. ولا يعلم هؤلاء الأطفال متى تصيبهم قذيفة وهم يذهبون إلى مدارسهم أو متى تتوقف هذه المدرسة في مناطق «الأعداء».

خوف

يلخص لنا حديث ذلك الرجل المسن الذي يعيش على حافة الصراع بين فصائل درع الفرات ومجلس منبج العسكري القصة الكاملة لما يجري ويقول لـ«البيان»: حين يقاتل الأخ أخاه وحين يقتل الرجل جاره فاعلم أن البلاد ضاعت واعلم أن الحياة تحولت إلى غابة.

ويضيف أبو حاتم من قرية قيراطة في القسم الواقع بمدينة منبج أنا أرضي في القسم الثاني، ويذهب الأولاد يزرعون ويعملون بها، لكننا نعيش على كف عفريت في كل يوم تتوقف أنفاسنا حين نذهب إلى حقول وسط الخوف من أن تكون هذه الرحلة الأخيرة إلى الحقل.

ويعتبر هذا الرجل المسن أن حالة الحرب لن تدوم طويلاً، فالدم المنقسم بالتساوي في هذه المناطق لن يبقى على هذا الحال إلى أبد الآبدين -على حد تعبيره- متابعاً القول؛ ستنتهي الحرب لكن بعد فوات الأوان.

أكثر ما أصاب المجتمع من حالة تشظٍّ ما سببه تنظيم داعش الإرهابي في مدينة منبج، هذه المدينة التي استغرقت 73 يوماً حتى اندحر منها التنظيم، عاث بها هؤلاء الإرهابيون وبشكل ممنهج فساداً وتفتيتاً للعلاقات الاجتماعية بين المكونات.

بث الخلافات

من بعض الممارسات الخبيثة لهذا التنظيم، بث الخلافات بين أبناء العائلة الواحدة، وجذب شخص واحد من العائلة إلى صفوفه ليكون جاسوساً على أهله وذويه، وهذه الاستراتيجية في تفتيت الأسرة عممها التنظيم على كل المدينة، حتى انعدمت الثقة بالأسرة الواحدة.

وثمة ممارسات أكثر بشاعة كان يتبعها التنظيم، وهي فرض الزواج على العائلات بالقوة، بحيث يقوم الشاب باختيار زوجته من عائلة ما بالقوة من أجل إبقاء الشرخ عميقاً في مجتمع منبج، وقد حدثت حالات هروب جماعية للعديد من الأسر في منبج، حين كان أحد المنتمين إلى داعش يتقدم للزواج قسراً، يكون الخيار الوحيد لهذه العائلة هو الهروب خارج المدينة.

مهمة صعبة

يقول مدير الإدارة المدنية في مدينة منبج لـ«البيان»: بعد أن اندحر تنظيم داعش من هذه المدينة وجدنا أمامنا مجتمعاً مهشماً دينياً وأخلاقياً وسياسياً، لا روابط ولا قيم ولا قواعد لهذا المجتمع، كانت المهمة صعبة على المدنيين في منبج أن يستعيدوا روابطهم بعد أن أوغل داعش في تحطيمها، لكن وجهاء العشائر والمؤسسات المدنية، تمكنوا من استعادة بعض من الثقة المسلوبة بين أبناء المجتمع.

ويضيف المهندس محمود قفظان؛ تصور أن عائلة كان شخص من داعش يوشي بها وينكل بها في مدينة منبج لأغراضه الشخصية، وبعد أن هرب التنظيم كيف ستنظر هذه العائلة إلى من كان ينكل بها بالأمس؟!، معتبراً أن كل المناطق السورية تحتاج إلى زمن من أجل التخلص من آثار الماضي.

الدمار في أولى المدن المقاتلة يشهد على ظلامية تنظيم «داعش» الإرهابي

كانت منبج من أوائل المدن السورية التي انخرطت في المظاهرات السلمية، وبعد أن تحول النزاع في سوريا إلى نزاع مسلح، كانت المدينة أول المدن التي حملت السلاح ضد قوات النظام السوري، بل تؤكد قيادات عسكرية أن المقاتلين من هذه المدينة قاتلوا في معظم المدن السورية من القصير في محافظة حمص إلى الغوطة التي تعيش اليوم أسوأ سيناريوهات الحرب.

وخصوصية مدينة منبج أنها منطقة تجارية فيها العديد من رؤوس الأموال التي أعادت للمدينة نشاطها، ففي وسط الظهيرة يبلغ عدد سكان مدينة منبج فقط (مركز المدينة)، حوالي 500000 نسمة، يأتون من القرى والمناطق المحطة في منبج، حتى من مدينة عين العرب (كوباني)، وهذا يمنحها أهمية اقتصادية لا تتوفر في أي مدينة محررة.

والأكثر أهمية من ذلك، طبيعتها الزراعية وتموضع هذه المدينة على سد تشرين، وهو أحد أهم السدود على نهر الفرات، فالمدينة تمتلك الثروة المائية، بالإضافة إلى الزراعية، ناهيك عن ارتفاع عدد الفئة الشابة في تلك المدينة، رغم ظروف الحرب المدمرة لتلك الفئة على وجه التحديد.

مدن استراتيجية

تعتبر منبج من المدن الحيوية والاستراتيجية في محافظة حلب، وهي كادت تكون محافظة قبل اندلاع الأحداث نظراً للإمكانات الاقتصادية والجغرافية، إلا أن قربها من تركيا حال دون ذلك، كما أن هناك من يقول في تلك المدينة إن اعتراضات وزير الدفاع السابق حكمت الشهابي المنتمي إلى مدينة الباب أيضاً منعت تحول منبج إلى محافظة، بحكم التنافس بين المدينتين المتجاورتين.

من الشمال يحد منبج فصائل درع الفرات المنضوية تحت الجيش السوري الحر وبعض القواعد العسكرية التركية، وفي الجنوب تتموضع القواعد الأميركية العسكرية التي تأسست بعد هزيمة تنظيم داعش الإرهابي، وهي إحدى القواعد الاستراتيجية الأميركية في الشمال السوري بعد القامشلي وكوباني.

ومن جهة الجنوب الغربي هناك مقار لقوات النظام السوري وروسيا في قرية العريمة، وهي تبعد حوالي 15 كيلومتراً عن مدينة منبج، إلا أنه لا يوجد أي حالة توتر بين الطرفين، بسبب حاجة كل طرف للآخر، خصوصاً على المستوى التجاري، إذ تنتقل البضائع من وإلى حلب، حيث يسيطر النظام على هذا الخط التجاري.

سيطرة

بعد 73 يوماً من القتال بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتنظيم داعش الإرهابي، وفي أغسطس العام 2016 استطاعت قسد بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركا بسط السيطرة على هذه المدينة الاستراتيجية، بالنسبة لكل اللاعبين.

كان الدمار واسعاً في تلك المدينة، ذلك أن تنظيم داعش بقي في هذه المدينة حتى النهاية، ما دفع التحالف الدولي إلى تكثيف القصف على هذه المدينة وتدمير كل البنى التحتية التي استحوذ عليها التنظيم الإرهابي، بما في ذلك المقار الرسمية التي كانت تخدم مصالح المدنيين.

دفعت هذه المدينة الضريبة الأقسى بين المدن السورية، بسبب سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، الذي دمر وبشكل مدروس كل المؤسسات وحولها إلى خراب، ولا تزال المدينة تعاني من تلك النتائج التخريبية للتنظيم.

بعد التحرير، تشكل من جديد مجلس منبج العسكري، وهو ذراع عسكرية مرتبطة بقوات سوريا الديموقراطية، ويتشكل هذا المجلس من أهالي المدينة، إذ يبلغ قوامه ما يقارب 4000 مقاتل من كافة التشكيلات الاجتماعية، وهو حتى الآن السلطة الفعلية في هذه المدينة، ولكنه يعمل بالتفاهم مع الإدارة المدنية في مدينة منبج وريفها.

لمشاهدة  الملف ...PDF اضغط هنا

 

Email