الصقيع كفن للأطفال على حدود اللجوء

5

ت + ت - الحجم الطبيعي

هي الحرب الممتدّة منذ أكثر من ستّ سنوات، ما زالت تنتج صور الموت والمعاناة.. صورٌ يتفرّج عليها العالم، يبكي أحياناً ثم يطويها ويمضي.

وكأنّ الظلم غير موجود ما لم تشهد عليه صورة جسدٍ متجمّد أو غريق أو محترق أو ممزّق.. وما تلبث أن تغيب هذه الصورة لتنضمّ إلى سابقاتها من الصور المنسيّة. فبالأمس القريب، تحوّل الثلج الأبيض في جرود بلدة الصويري اللبنانية على الحدود مع سوريا كفناً لأكثر من 16 نازحاً سورياً، لدى محاولتهم الدخول إلى لبنان خلسةً في ليلة عاصفة، فتجمّد أكثر من نصف المجموعة التي كانت تضمّ 30 سورياً.

معظم الجثامين التي عثِر عليها تعود لنساء وأطفال، وتؤرّخ للحظات عصيبة وقاسية أمضاها النازحون قبل أن يستسلموا لقدرهم وتتجمّد قلوبهم.

وتكرّ سبحة المشاهد، لتستقرّ على مشهد أطفال تغوص أرجلهم في الوحل، يسقطون أرضاً لكنهم سرعان ما يعاودون النهوض ليركضوا مجدّداً خلف بعضهم.

يتهاتفون على كاميرات وسائل الإعلام للمطالبة بقفازات لأياديهم الباردة.. فمع أن الشتاء هو السادس لهم في لبنان، فإن القفازات، على بساطتها، ليست من ضمن أولويات الدول المانحة، ولا أهاليهم، في ظلّ التراجع الكبير في تقديمات هذه الدول وفي المستوى المعيشي للاجئين، ما يعمّم حالة من البؤس سواء عند المقيمين في الخيم أو في المساحات الإنشائية المسماة بيوتاً.

معاناة

وما بين المشهدين، تتحسّر «أم صالح» وتشكو قساوة الطبيعة وصقيعها. تقول، وهي تحشو مدفأتها العتيقة بما تبقّى لديها من حطب: هذا كل ما تمكّنت من جمعه مع أطفالي خلال الأسابيــع القليلة الماضية من البساتين المجاورة. أما «أبو علاء»، النازح من ريف دمشق، فأمضى ساعات الصباح الأولى محاولاً إزالة الثلوج التي تراكمت فوق خيمته البالية المرفوعة على أخشاب مهترئة.

والتي كادت أن تنهار فوق رؤوس أفراد عائلته المؤلّفة من 8 أشخاص. ساعات أمضاها بين كرّ وفرّ مع العاصفة، تارةً يخرج لرفع الثلوج وتكسير طبقات الجليد، وأخرى يختبئ من هول البرد والثلوج. وفي المحصلة، الخشب المهترئ لا يرفع خيمة، والنايلون ليس غطاءً يمنع تسرّب المياه إلى داخل الخيمة.

3 احتمالات

هم نازحون يدركون بأن لا أفق حلولاً قريبة، وكل وقودهم انتظار وأمل بالعودة قبل أن تصدأ مفاتيح البيوت وتهرم الوجوه والنفوس. هو أمل يشبه تلك الرسومات التي تعرضها شوادر الخيم المتروكة للريح، ولمخيلة طفل يحكي بريشته عن منطاد يطير فوق بلد تدمّرت معالمه. وداخل الخيم الجاثمة على أكوام من الصقيع وضيق الحال والأحلام المؤجّلة، يحفر النازحون ثلاثة احتمالات في الأرض الموحلة:

هجرة ملغومة بالغرق، أو العودة إلى ما تبقّى من حطام أمكنة، أو الصمود في الخيم التي لا يعرف متى تطبق على أنفاسهم كلما هبّت عاصفة وشلّعها الثلج. وبين الاحتمالات الثلاثة، العواصف بأسماء وأرقام وهمدرة في السياسية، كما في غضب الطبيعة.

وفي اللحن الذي يصفر في مطارح تبقى برغم كل النوائب عصيّة على الأسى، بدليل ضحكات الأطفال الذين يدوّرون البرد في حلقات تغنّي، وبدليل حداء المسنّ في اشتياقه الى داره وإلى الزرع الذي تركه والغلّة التي ينتظر أن تزهر ثانية، وبدليل النسوة اللواتي من الزرع والحطب والعمل اليدوي ملأن الحلل بما تيسّر من أطعمة.

وبدليل الصبيّة التي من إعلان يحمله شادر خيمة تحلم بأن تصير نجمة مشهورة، وبدليل «مبرومة» من الذهب الخالص تخبّئها الجدة لحفيدتها إلى يوم عرسها.. وختاماً، بدليل الأمنيات التي لا تبني على الحاضر المفلِس.

Email