قضية

العراق وتعقيدات ما بعد «داعش»

جندي عراقي بمنطقة راوة خلال عملية استعادة البلدة من تنظيم داعش ( أ ف ب)

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم ما يُثار من تكهنات، وروايات، عن هزيمة «داعش» في العراق، وعن اتفاقات سرية قد تكون وراء العديد من انسحابات مقاتلي التنظيم، ولكن الحقيقة هي أن التنظيم الإرهابي قد هزم عسكرياً على الأقل، حيث لايمكن الجزم بأنه «سُحق»، ما لم تتم دراسة وإزالة أسباب ظهوره ونموه وتغوّله. ويؤكد محللون أن الخلاص من «داعش» ليس هو النهاية.

ووضع العراق الذي يواجه هذه المرة من حيث عوامل الاقتصاد والأمن والسياسة، وهي بقسوة أكثر، لا يدفع بأكثر المتفائلين بأن يتوقع أياماً سهلة فهناك شبح تقسيم العراق (سنة وشيعة وأكراد)، كما أن التخوفات الإقليمية من مرحلة ما بعد داعش في العراق، تشمل «وجود صراعات طائفية».

حيث إن الشعب العراقي دفع ثمناً باهظاً جراء الفتنة والفرقة الطائفية، إضافة إلى مصير المليشيات المسلحة لا سيما مليشيات الحشد الشعبي التي كانت وراء عدة انتهاكات في العراق.

مواجهة الفكر المتطرف

وفي رأي معظم المحللين السياسيين أن عمليات التحرير من تنظيم داعش، يجب ألا تؤخذ بنظرة عسكرية بحتة، تتوقف عند توقف هدير الدبابات وأصوات الرصاص وقصف الطائرات، التي تمثل «مرحلة أولى» تتبعها مراحل لاحقة، لإعادة الحياة وصناعتها من جديد، ومواجهة الفكر المتطرف الذي لا يمكن القضاء عليه من خلال السلاح فقط، وهنا تكمن خطورة المرحلة المقبلة وضخامتها.

لاسيما أن المعارك التي أخرجت التنظيم من المدن، خرجت بنتيجة واضحة، وهي «إعادة الانتشار»، في المناطق الصحراوية والجبلية، وربما حتى في المدن، وتكمن خطورتها بعدم وجود نظرة متكاملة لإزالة مسببات ظهور تنظيم داعش، ومنع إعادة انتشاره.

حرب بلا موتى

يقول راصدون إعلاميون، في عدد من المدن التي تم تحريرها من التنظيم «لا جثث متناثرة على الطرقات ولا في الأزقة أو في الأبنية المهدمة، ولا صور لأسرى أو مقاتلين أحياء يهرولون أو يقاتلون خلف السواتر الرملية.. إنها حرب بلا موتى وبلا أحياء أيضاً، ولم تظهر الأقمار الصناعية وشبكات التجسس والتطبيقات على الهواتف الذكية الإمساك، بمقاتلين بعد الانتهاء من عديد من المعارك في المدن المحررة».

ويبدوا أن ذلك هو ما فتح الباب أمام ظهر بعض التكهنات، والروايات، عن وجود اتفاقات سرية قد تكون وراء العديد من انسحابات مقاتلي التنظيم.

وينقل مرصد «ميترو» للدراسات، عن ضابط رفيع في وزارة الدفاع العراقية، إن التقرير الأخير للاستخبارات العراقية جاء مطابقاً لتقرير نهائي عن مدن محررة، فلا جثث ولا أسرى من داعش، والتقرير يعجز عن تقديم تفسير لذلك سوى عبارة انسحبوا من المدينة وتركوا بضع عشرات من الانتحاريين للاستنزاف.

ومع تقهقر تنظيم داعش الإرهابي في العراق، طفت على السطح جملة مشاكل بعضها قديم متجدد كتحديد عائدية المناطق المتنازع عليها بعد تحريرها من سيطرة التنظيم وما يرتبط بها من صراع مكوناتي، وبعضها الآخر جديد له أبعاد قديمة.

وتحديداً في ما يتعلق بطريقة إدارة الحكم في العراق بعد التخلص من سطوة التنظيم، في ظل عودة مشروع الأقاليم إلى الواجهة من جديد، وتبنيه من قبل أطراف كانت معارضة له في السابق، والمقصود هنا «بعض الفصائل السنية»، كل ذلك يحصل في ظل صراع إرادات دولية وإقليمية جعلت من الساحة العراقية مسرحاً لها.

وحسب رأي المختصين، فانه ظهر على أرض الواقع مشروعاً جديداً- قديماً وهو مشروع التقسيم ، وبدأ هذا المشروع الجديد بالتزامن مع المراحل الأخيرة من الانتصارات التاريخية على التنظيم الارهابي.

كما أن هنالك من لم ينتظر التحرير الكامل وأخرج ما لديه سريعاً بهذا المشروع من بعد فشل الخطوات السابقة، حتى انه في الوقت الذي يعتبر بعض ساسة السنة مشروع الأقاليم مؤامرة هدفها تقسيم العراق، يراه البعض الآخر صمام أمان للحماية من التهميش، وضمن دائرة الاختلاف هذه تحول الأمر إلى خلاف عشائري.

ويؤكد محللون أن ما يزيد الوضع تعقيداً «فشل الجهود السياسية للمصالحة الوطنية واستمرار انتهاكات مليشيات الحشد الشعبي ذات البعد الطائفي».

وكان مسؤول في المخابرات الأميركية ذكر أن عدد أعضاء التنظيم يصل إلى نحو 35 ألف شخص تم استقطابهم من 104 دول، وكانوا يسيطرون على زهاء40 في المئة من الأراضي العراقية، بمساحة وصلت إلى 108 آلاف كيلو متر مربع، ونصف مساحة سوريا بمساحة وصلت إلى نحو 95 ألف كيلومتر مربع.

وبناء على ذلك اعتبر مراقبون ان عدد أعضاء التنظيم وفقاً للكثافة السكانية، فإن ثمة مقاتلاً واحداً من التنظيم في كل 6 كيلو مترات مربعة، أو أن المساحة المعلن عن احتلالها كانت مساحة افتراضية، وغير محتلة فعلياً، وخالية من مقاتلي التنظيم.

طموح المكونات

وبحسب أستاذ العلوم السياسية الدكتور طه رضا، إن «عراق ما بعد داعش» سيكون أكثر تعقيداً، فالطموحات الكردية، التي أجهضت في بداياتها، شملت ضم أراضٍ أخرى مثل سنجار ومناطق من كركوك وديالى، وإن «العراق ما قبل سقوط الموصل لن يعود كما كان».

فهناك توجس من إمكانية تزايد نفوذ مليشيات الحشد الشعبي، وحصول عمليات انتقامية من جانبه، وكذلك كون «الحشد» مدعومة من قبل إيران الطامحة لمنح دور أوسع لها، في ظل اشتراك قيادات عسكرية إيرانية على مستوى رفيع كقوات دعم مساندة ميدانياً لمليشيات الحشد الشعبي، ما يعني بالنتيجة زيادة النفوذ الإيراني في العراق وبدء عمليات التصفية في إطار التحضير لحرب طائفية.

وتدرك الإدارة الأميركية أن القضاء على وجود «داعش» في العراق وترك الحبل على الغارب دون سد الفراغ الأمني، يعني زيادة نفوذ إيران في العراق ومن ثم في المنطقة، وستزيد هيمنة مليشيات الحشد الشعبي وهو ما يرفضه السنة بشكل صريح.

لا قيادات موحدة

ويؤكد محللون أن محاربة تنظيم داعش كان هو الجامع الوحيد بين تلك الجهات لتجاوز خلافاتها، ونهاية التنظيم يعني فتح باب الاقتتال العراقي الداخلي من منطلق أن كل فصيل كان له الفضل في الخلاص من شر التنظيم الإرهابي، وما الهجمات المتبادلة على مقرات الأحزاب وحرق بعضها في المحافظات الوسطى والجنوبية إلا دليل على بداية لهذا الاقتتال.

تجريم الطائفية

أكد الكاتب السياسي علاء الخطيب، أن أهم الخطوات التي يجب أن تقوم بها الحكومة العراقية في المرحلة المقبلة هي معالجة قضايا طوابير الأرامل واليتامى جراء العمليات العسكرية، وإعادة تأهيل المغرر بهم في تنظيم داعش ولديهم الرغبة بالعودة إلى الحياة الطبيعية، حيث لا بد من إعداد خريطة طريق لاستيعابهم وتأهيلهم من جديد، من دون اتباع سياسة «الاجتثاث» مع إصدار قانون تجريم الطائفية وهو من القوانين التي يجب على البرلمان العراقي إقرارها ويجب أن تكون ملزمة للجميع.

توجّس من انتشار السلاح بأيدي ميليشيات تابعة لإيران

يبدو أن مرحلة ما بعد «داعش» ستكون أكثر خطورة من مرحلة «داعش»، فانتشار الجماعات المسلحة وحيازة الأسلحة ستكون واحدة من بين تلك المشكلات المعقدة التي بدأت بوادر انفجارها تقترب كلما اقتربت القوات العراقية من الحسم النهائي. حيث إن هناك مخاوف من انتشار السلاح بأيدي ميليشيات تابعة لإيران تزيد من عمق العنف الطائفي في البلاد.

ويقول المواطن البصري صباح البركات، إن «هناك مخاوف حقيقية من مرحلة ما بعد تنظيم داعش، وإعلان التحرير النهائي لكل الأراضي العراقية، وهذا الخوف نابع من إحساس عميق للوضع القائم في العراق، وعدم ثقة بالطبقة السياسية الحاكمة، وتغليب المسائل الفئوية على المكاسب العامة، وكذلك فرض سياسة الأمر الواقع من خلال النفوذ عبر الولاءات الخارجية».

تساؤلات

ويرى المواطن عباس الرميثي، من محافظة الديوانية، أن «عودة الجماعات المسلحة بعد انتهاء معركتنا ضد داعش سلبي للغاية، رغم دورها الذي لعبته بالخلاص من داعش، والأفضل أن تنظم عملية جمع السلاح ومصادرته وحيازته بقانون، خاصة وان السلاح يؤثر على الانتخابات شئنا أم أبينا، والمنطقي أن يتم حصر مسك السلاح بيد الدولة».

ويتساءل المواطن مهدي النصراوي من محافظة كربلاء «أين سينتهي هذا السلاح بعد الانتهاء من المعركة ضد التنظيم الإرهابي، هل سيبقى بيد مليشيات الحشد الشعبي والجماعات المسلحة، لأن بقاء السلاح بيد المدنيين ورجوعه إلى أحضان العشائر والأحزاب لا بد أن يؤدي إلى معارك أخرى نحن في غنى عنها».

ويوضح الإعلامي نواف المشعلاوي أن «من اهم المؤشرات التي تدخل على خوفنا وخشيتنا في التوقع أو التنبؤ لمرحلة ما بعد التنظيم الإرهابي هي ما رأيناه فعلا في افغانستان التي مازالت تعاني الويلات من الجماعات المسلحة، أما المؤشرات الحقيقة تجاه الوضع القائم في العراق فتتلخص في عدد من السياسيين الذين يناصرون داعش.

ويمثلون الذراع السياسي له، حتى انهم يرون الجيش والشرطة على انهم العدو الجديد للنازحين ووسكان المناطق المحررة».

تشكيلة مذهلة من الأسلحة

يعكس اتساع نطاق ترسانة السلاح المتوفرة بحوزة تنظيم داعش وتنوعه تبعات عقودٍ من التجارة غير المسؤولة بالأسلحة والاستهتار بضوابط نقلها وتوريدها إلى العراق. وتفاقم ذلك بتكرار الإخفاق في إدارة واردات السلاح واستحداث آليات رقابة تكفل تفادي وقوع الأسلحة في أيدي مستخدمين نهائيين غير مشروعين إبان الاحتلال العسكري للعراق بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003.

كما أدت الضوابط المتراخية واستشراء الفساد في الحكومات العراقية المتعاقبة إلى تفاقم مشكلة التهاون في إدارة مخزونات السلاح في العراق وضبطها.

وتواجه العراق مشكلة حقيقية في المرحلة القادمة تتمثل بشيوع السلاح وعسكره المجتمع بسبب المواجهة التي خاضها العراقيون وشارك فيها المتطوعون المدنيون والفصائل المسلحة والعشائر حيث انخرط معظم المجتمع العراقي في هذه المواجهة العسكرية، ويؤكد محللون، أن العراق ما بعد تنظيم داعش دخلت معركة جديدة وهي الحد من السلاح خارج إطار الدولة.

Email