حيرة الولاية العثمانية حُسمت مع غياب الخيار الثالث

الموصل تُراجع 90 عاماً من سيرتها العراقية

قوات عراقية تُشيّع قتلى سقطوا في معارك ضد داعش - أ.ب

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل لم يتوقف الحديث يوماً عن تحريرها من قبل الحكومة العراقية..

وتشكلت لجنة خاصة بالتحقيق في سقوط المدينة المفاجئ، لتنفرد الموصل في تاريخها الحديث بلجنتين تشكلتا باسمها لمناقشة مصيرها، الأحدث منهما هي لجنة التحقيق في سقوطها الأخير صيف 2014 والأقدم هي اللجنة التي تشكلت في خريف 1924 للبت في مصير ولاية الموصل، ليتقرر ضمها إلى العراق صيف 1925.

في الماضي، لعب اثنان من الأخطاء التركية دوراً حاسماً في تسهيل ضم الموصل إلى العراق، الأول الاعتماد على أرقام نفوس عثمانية غير دقيقة حول نسبة الأتراك وعدم شكّهم ولو للحظة بأن أكراد الولاية سيصوّتون ضد الانضمام إلى تركيا.

الخطأ الثاني قبول تركيا الاقتراح البريطاني بأن يتم استبدال الاستفتاء الشعبي بنوع آخر من القياس الذي لم يتكرر تاريخيا: الاستفتاء النخبوي، الذي اقتصر فقط على الموظفين الكبار والزعماء والوجهاء ورجال الدين عن طريق الاستجواب الشخصي.

كرد وترك وعرب

لدى مراجعة مذكرات وانطباعات سياسيين غربيين وعراقيين في فترة تشكل العراق، يظهر أن القول الفصل في ضم الولاية (القطاع الأكبر من سكانها كانوا من الأكراد) إلى العراق لم يكن لعرب الولاية المتركزين في مدينة الموصل وجنوبها، بل لمدينة السليمانية الكردية وقصباتها بحسب شهادة عضو اللجنة البريطاني سي جي أدموندز الذي فصّل في هذه المفارقة القومية في كتابه «كرد وترك وعرب».

كان الانقسام حاداً في الموصل بين دعاة الانضمام للعراق والموالين لتركيا، لكن لم تظهر احتجاجات على القرار النهائي بإعلان الولاية جزءاً من العراق وانتهت معه المحاولة التركية الأخيرة بجعل نهر الزاب الصغير حداً بين تركيا والعراق (وعنى ذلك ضم أربيل وزاخو إلى تركيا دون السليمانية).

كانت المخاوف البريطانية تكمن في أنه إذا أجري استفتاء شعبي فإن غالبية سكان مدينة الموصل من العرب سيختارون الانضمام إلى تركيا، ولم يكن لدى ممثلي تركيا في اللجنة الكثير من الأوراق لرفض مقترح «الاستفتاء النخبوي»..

حيث فضل معظم المستطلعين مصالحهم التجارية التي تميل إلى بغداد وليس الأناضول، كما لعب القوميون العرب الذين وفدوا من بغداد دورا في الدعاية لصالح ضم الموصل للعراق على الرغم من الهوى العثماني المتجذر سابقاً.

عسكرياً، دخل البريطانيون إلى المدينة بلا قتال عام 1918، ودخلها الأميركيون بلا قتال في 2003، ودخلها تنظيم داعش دون قتال فعلي في 2014.

الخيار الغائب

بعد مرور 90 عاما بالتمام على ضم ولاية الموصل كاملاً إلى العراق تعيش مدن الولاية السابقة (كردستان والموصل وكركوك) نفوراً حاداً من بغداد.

واجه العرب والأكراد قبل 90 عاماً مشكلة في الإجابة عن السؤال البسيط: مع تركيا أم العراق؟ ولم يكن هناك خيار ثالث، فاختارت غالبية النخب بلا أي حماس وبلا أي مظهر احتفالي الانضمام إلى العراق.

ومع بدء لجنة التحقيق في سقوط الموصل عملها مع نهاية 2014، تبدو نتائج لجنة الموصل الأولى قبل 90 عاماً قد طويت على أرض الواقع؛ فالقوات العراقية المركزية لا تجرؤ على إطلاق عملية تحريرها بغض النظر عن قدرتها على القيام بذلك، حيث إن القوة الوحيدة المقبولة هي قوات سنية عراقية يقوم ضباط أتراك بتدريبها والمساهمة في تمويلها، وإلا فإن الموصل ستبقى في أيدي «داعش».

هذه المعادلة تدركها جيداً الحكومة الإيرانية، إذ لا شهية لضباطها في الحرس الثوري للحديث عن الموصل. كردياً أيضا لا يبدو رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني في وارد دفع البيشمركة لتكون طلائع قوات تحرير الموصل رافضاً بذلك الدخول في حرب خارج جغرافية كردستان.

حرب الأنبار

في ضوء هذه المعطيات، لدى الحكومة العراقية المبررات الضمنية الكافية لتطلق قواتها في صحراء الأنبار في حرب لا نهاية لخسائرها ولا مكاسبها، فالأنبار ليست أرضاً لها إشكالية تاريخية مع بغداد، ومثالاً كان جد أبرز زعماء عشائر الدليم علي حاتم السليمان من أهم رواد قصر الملك فيصل، وأبرز المترددين على جلسات السياسية البريطانية غرترود بيل في بغداد للتسريع في بناء الدولة الحديثة ..

حينما كانت الموصل لا تزال حائرة بين العراق وتركيا، وهي حيرة دفعت قبل 90 عاما الكثير من المستطلعين في جزئها الجنوبي بالتصويت لصالح الانضمام إلى الموصل، من دون تحديد العراق، في حين كان الملك فيصل قد أرسل رسالة إلى اللجنة يقول فيها إن الموصل بمنزلة الرأس لسائر الجسد بالنسبة للعراق.

تجربة العقود التسعة السابقة تحمل دلالة رمزية ومادية: الحكم المركزي لا يضمن بقاء المراكز الحضرية الكبرى بمكانتها التي كانت عليها (رأس العراق)، فالنخبة الموصلية تكافح اليوم لا لدحر داعش فقط، بل للبحث عما هو أقل بكثير مما يتمتع به إقليم كردستان في إدارة نفسه بعيداً عن الفكرة البريطانية في أن ضم الموصل للعراق حقق توازناً طائفياً كان شرطاً لتشكيل العراق.

والأكثر من ذلك، تبدو الطبقة السياسية الموصلية غير قادرة على ايجاد طريق لإعادة الإجابة عن السؤال البسيط الذي طرح قبل 90 عاماً: تركيا أم العراق؟ الأرجحية لصالح تركيا ضمن المقاربة المركزية الحالية تجاه المدينة وأهلها.

دعوات حديثة

في سبتمبر 2008 دعا الناطق باسم جبهة التوافق (السنية) سالم الجبوري أهالي الموصل لتنظيم استفتاء يقرر بموجبه الأهالي ما إذا كانوا يريدون البقاء جزءاً من العراق أم الانضمام إلى تركيا. وسائل الإعلام القليلة التي تناقلت الخبر في ذلك الحين تعاملت معه بسخرية ودعابة. بينما اليوم، بعدما آلت إليه الأوضاع في ظل داعش تظهر مطالب لعرب ومسيحيين وأكراد في سهل نينوى بإجراء استفتاء للانضمام إلى كردستان..

في السياق نفسه يطالب ساسة الموصل وعلى رأسهم المحافظ أثيل النجيفي بتحويل الموصل كاملة إلى إقليم على غرار كردستان، ما يعني إمكانية إقامة علاقات مباشرة مع تركيا، لتصبح في تلك الحالة كامل مدن ولاية الموصل السابقة أقرب إلى أنقرة مما هي إلى بغداد، مع استثناء تكرر مرة أخرى رغم مرور 90 عاماً: مدينة السليمانية الأقرب إلى إيران.

خط بروكسل

في عام 1918 وبعد ان وصلت القوات البريطانية الى مشارف الموصل، عقدت معاهدة «مودروس» التي اوقفت القتال بين الجيشين البريطاني والعثماني. لكن القوات البريطانية دخلت الموصل واحتلتها دون قتال، وواصلت تقدمها شمالاً حتى الحدود الحالية بين العراق وتركيا، حيث صدر قرار بإجماع القوى المتحاربة المجتمعة في بروكسل يقضي بإيقاف القتال والتوقف عند الأماكن التي وصلت إليها الجيوش، وسمي الخط الفاصل بين الجيوش بـ«خط بروكسل».

Email