جوار ليبي متوتر وانتخابات في الانتظار ووضع اقتصادي متردٍّ

تونس على صفيح استحقاقات ساخنة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ولج المشهد في تونس مرحلة الحسم الانتخابي مع فتح باب الترشّح إلى عضوية البرلمان المقبل، في مسعى حثيث لخروج البلاد من نفق مرحلة الانتقال إلى فضاءات الاستقرار السياسي، إذ سيحيي التونسيون ذكرى «ثورة الياسمين» الرابعة في 14 يناير المقبل بحال مختلفة، أصبح لهم في ظلّها رئيس دولة وبرلمان منتخبان يقودان خمسة أعوام مقبلة.

وفي ظل طوابير انتظارات الاستحقاقات السياسية، لا يزال أمام تونس كوم أسئلة من دون إجابات بشأن طبيعة التحدّيات على مختلف الصُّعد الأمنية منها والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا سيّما في ظل استمرار التجاذبات.

واتساع ظاهرة التهديد الإرهابي، وتأزم الأوضاع في الجارة ليبيا، وتردّي الواقع الاقتصادي، إذ يُجمع جل المحلّلين على أنّ الأبواب ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، وأنّ مرحلة ما بعد الاستحقاق لن تقود حتماً إلى الاستقرار السياسي المنشود، وإنما هي امتداد لمرحلة الانتقال الراهنة، وهو أمرٌ أدركه الرئيس المؤقّت المنصف المرزوقي، وعبّر عنه بالدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الاستحقاق الانتخابي.

دعوةٌ سبقه إليها رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي من دون أن يستبعد إمكانية أن تؤول مهمة التشكيل إلى رئيس الحكومة الحالية مهدي جمعة، فيما أوضح زعيم حركة نداء تونس الباجي قايد السبسي أنّ «أي طرف سياسي مهما كان حجمه لن يستطيع حكم البلاد منفرداً»، في إشارة إلى ضرورة البحث عن توافقات تنير عبرها النخب السياسية «النفق المظلم»، وتضمن عدم تكرار تجربة حكم «الترويكا».

قوة حسم

وألفى التونسيون أنفسهم أمام تحدّي مواعيد انتخابية منتظرة ستحسم قطعاً، وتحدّد توجّهات الشارع سياسياً وفكرياً وإيديولوجياً، إذ سيكون الصراع على أشده بين تيّارات الإسلام السياسي، لا سيّما حزب حركة النهضة والقوى الليبيرالية وقوى اليسار وأحزاب وسط اليسار والتكتّل الديمقراطي للعمل والحريات، فضلاً عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يتأرجح موقعه بين اليمين الديني واليمين الليبيرالي وصولاً إلى يسار الوسط.

تبدّل وجوه

تحوّلات مهمّة تقودها الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، إذ يتوقّع خروج بعض الوجوه من دائرة الضوء، أبرزها زعيم حزب التكتل الديمقراطي للعمل والحرّيات، ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر، بعد أن أفقده عصر «الترويكا» المثير من ألقه وبريقه ورصيده في الشارع، فيما المرزوقي ساعٍ إلى ضمان البقاء في المنصب من خلال انتخابات الرئاسة، وهو أمرٌ يستبعده الكثيرون، لا سيّما في حال عدم قيام حركة النهضة بتزكيته تحت تأثير ضغوط خارجية.

ويبقى زعيم الحزب الجمهوري أحمد نجيب الشابي أبرز المرشّحين للتواري عن الأنظار، بعد إعلانه غير مرّة اعتزاله السياسة حال الفشل في السباق إلى سدة الرئاسة، بينما تعمل حركة النهضة على استبعاد بعض قياداتها المتشدّدة، مثل الحبيب اللوز والصادق شورو، عضوي المجلس التأسيسي الحالي، وهو الأمر الذي تبدّى جليّاً من خلال عدم ترشيحهما لانتخابات البرلمان المقبل.

ولم تجد حركتا «النهضة» و«نداء تونس» في غير رجال الأعمال ظهيراً ومزيّناً لرؤوس قوائمهما الانتخابية، ما يمثّل إعلاناً لا مواربة فيه عن توجّه ليبيرالي ذي خلفيتين «دينية إخوانية»، وأخرى «تحرّرية» ترتبط بمدرسة الدولة التونسية الحديثة، كما أسّسها الراحل الحبيب بورقيبة، فيما اقترب عدد من رموز نظام زين العابدين بن علي من العودة إلى واجهة المشهد السياسي، وهو أمرٌ فسّره كثيرون بما أسموه «تراجع الخطاب الثوري».

تحوّلات عميقة

ويتساءل كثيرون: ما الذي ينتظر تونس خلال المرحلة المقبلة؟ ويقول المحلّل السياسي جمعي القاسمي: «المشهد السياسي مقبل على تحوّلات عميقة ترتبط بنتائج انتخابات البرلمان، إذ تدلّل كلّ المؤشّرات على أنّ إعادة تشكيل تنتظر المشهد عبر عملية فرز حقيقي تبقي على الأحزاب الكبرى وتندثر أخرى، ما يعني أنّ الصراع سيكون ضمن إطار ديمقراطي، وعلى أساس فكري إيديولوجي، وستتمخض عنه انعكاسات اجتماعية واقتصادية».

ويضيف القاسمي، في تصريحات لـ«البيان»، أنّ «تونس مقبلة على تحدّيات كبرى، أهمها عملية فرز القوى السياسة الفاعلة، لا سيّما في ظل وجود أكثر من 170 حزباً تبدو أغلبيتها الساحقة من دون تأثير واضح في الشارع»، متوقّعاً أنْ تسفر المرحلة المقبلة عن أربعة أو خمسة كيانات قادرة على الوفاء بمستحقات المشهد.

كما اشترط إقبال التونسيين على صناديق الاقتراع لتجنّب سيناريو تحكّم الإسلام السياسي، على غرار تجربة انتخابات المجلس التأسيسي 2011، لافتاً إلى أنّ تشتّت القوى السياسية التقدّمية سيصب في خدمة حركة النهضة، على الرغم من حضورها المتواضع في الشارع.

تجربة وانتكاسة

ولا يتوقّع المحلّل منذر ثابت تمكّن حركة النهضة التي تمثّل الجناح التونسي لجماعة الإخوان، من أن تظل القوة الأولى في البلاد، بعد ما ورثت من وزر تجربة الترويكا الفاشلة، وانتكاسة المشروعين الإخوانيْين في مصر وليبيا، «ما يحتم عليها التعايش مع قوى أخرى لم تحضر في الانتخابات السابقة، مثل حركة نداء تونس، وتحالف الجبهة الشعبية، والأحزاب الدستورية التي عجزت القوى الثورية الراديكالية على تمرير مشروع عزلها».

وتمر تونس، وفق ثابت، ولأول مرّة «في ظل الدولة الحديثة بأدلجة الخطاب السياسي، ما يتناقض وطبيعة المجتمع المحلي، وهو الأمر الذي سيفرز قوى مقابلة ذات مرجعيات ديمقراطية وتحرّرية ربما تسجل حضورها خلال الانتخابات أو في مرحلة لاحقة، ما يشير إلى صعوبة استمرار الخطاب الإيديولوجي الديني إلا حال الانغماس في الخصوصية المحلية، وارتداء لبوس ديمقراطي حضاري ليبرالي».

تحدّيات أمنية

وفي خضم تحدّيات كثيرة تواجهها تونس، يبقى الهاجس الأمني الأبرز وفق مراقبون وساسة، لا سيّما في ظل التعقيدات الإقليمية، وتمدّد أزمة ليبيا وانتشار السلاح، إذ أكّد رئيس حركة نداء تونس أنّ «خطر الإرهاب يتهدّد التونسيين جدّياً أنّ على الدولة التأهب خلال المرحلة المقبلة لمواجهة كل الاحتمالات.

والاندماج في مشروع إقليمي ودولي جدي وفاعل لإخراج المنطقة من مخاطر التهديد الإرهابي الذي يسعى للانقلاب على الربيع العربي»، ويضيف أنّ «البلاد لا تزال النموذج الأنجح بين دول الثورات، وإنْ كان نجاحها مهدّداً بخطر حقيقي لا سبيل لمواجهته إلّا بوحدة المجتمع، وتوفير استراتيجية عملية لردع التطرّف، وتجاوز التجاذبات السياسية والإيديولوجية والحزبية».

أجراس خطر

كما قرع المرزوقي أجراس الخطر من خطر الإرهاب، عبر الدعوة للتلاحم بين المؤسّستين العسكرية والأمنية، ودعمهما مادياً ومعنوياً، بالقول: «لم تعرف تونس على مر تاريخها مفرق طرق كالذي ستشكله شهور أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 2014 التي ستقرّر مصير التونسيين لا للأعوام الخمسة المقبلة فقط.

وإنما العقود المقبلة»، فيما أقرّ رئيس الحكومة مهدي جمعة بأنّ «الإرهاب في تونس ليس سحابة صيف عابرة، بل معطى دائم يسعى لتعطيل مسار الانتقال الديمقراطي».

وتتصدّر عودة المقاتلين من بؤر الصراع في الخارج، لا سيّما سوريا والعراق وليبيا قائمة التحدّيات الأمنية، وهو أمرٌ علّق عليه جمعة بقوله: «المقاتلون التونسيون العائدون من سوريا قنابل موقوتةو يجب أن نتهيّأ لها».

خطر حقيقي

ويقترح الباحث الأكاديمي والخبير الأمني نور الدين النيفر «وضع استراتيجية متكاملة لمواجهة الإرهاب دواءً، شرط أن تستوعب كل الفاعلين في المجتمع، باعتبار الإرهاب نتيجة لا سبباً، يفرزه التصحّر التربوي والفكري، وغياب المشروع التنموي الجاد.

وفقدان قيمة العلم وثقافة العمل»، فيما يشير المحلّل السياسي والقيادي في حركة نداء تونس ناجي جلّول إلى أنّ «خطر الإرهاب من أخطر التحدّيات التي ستواجه تونس خلال الأعوام الخمسة المقبلة»، مشيراً إلى أنّ «الفكر المتشدّد تغلغل في مفاصل المجتمع خلال فترة حكم الترويكا.

وأنّ الإرهاب بات مشروعاً فكرياً منظّماً له إمكانيات مالية ولوجستية، تمنحه مجالاً لغزو الأحياء الشعبية والمناطق النائية من خلال الجمعيات والمنظمات وفتح الأبواب أمام ثقافات دخيلة على المجتمع، في إطار مشروع إقليمي ودولي تتمظهر تجلياته في العراق وسوريا وليبيا».

ولا يخفي الخبير القانوني عبد الحميد بن مصباح الخشية من إفراز نتائج الانتخابات اضطرابات في البلاد، لافتاً إلى أنّ «فشل الإسلاميين ربما يدفع قواعدهم إلى الدخول في تحالف معلَن مع المتشدّدين، ونجاحهم قد يدفع بمناوئيهم إلى استفزازهم، ووضع البلاد وإمكانياتها لا يسمحان بخوض المغامرات، ولا الارتهان للخطاب الإيديولوجي المؤجّج للصراعات».

تلازم مسارات

ولا يرى زعيم حزب الأمان ومرشحه للانتخابات الرئاسية الأزهر بالي حلّاً غير الوعي بتلازم مسارات حل الأزمات، فيما يطرح سؤال (تونس إلى أين؟)، وفق بالي، «ضرورة النظر بعمق إلى الداخل والخارج الفرد والجماعة وواقع الدولة ومتطلّبات المجتمع والسياسيين.

وهل هم فعلاً في مستوى الرهانات والتحديات أم لا؟ وهل واقعيون براغماتيون، أم يعيشون في ظل شعارات الإيديولوجيا التي عفا عليها الزمن وتتناقض مع طبيعة المرحلة وخصوصيات الشخصية؟».

ويحرّر رئيس الهيئة السياسية للحزب الجمهوري ومرشحه للانتخابات الرئاسية أحمد نجيب الشابي وصفة خروج تونس من الأزمة، مفادها «توافر قيادة سياسية وطنية حكيمة مطّلعة على ظروف التونسيين وتطلّعاتهم»، مبيّناً أنّ «الأعوام الخمسة المقبلة ستكون محدّدة لإنهاء حالة الارتباك.

واستعادة هيبة الدولة، وتفعيل المؤسّسات وما تضمّنه الدستور من مبادئ، وفق رؤى علمية وبرامج عملية تأخذ في الاعتبار مطالب التونسيين بمختلف شرائحهم وتوجهاتهم».

ولا يبدو الخروج من عنق الزجاجة سهلاً ميسوراً، وفق المحلّل السياسي خليفة بن سالم، «في ظل تضعضع الاقتصاد وهشاشة الأمن الإقليمي، واستمرار التجاذبات الفكرية والإيديولوجية، هناك تحدّيات حقيقية تستلزم القدرة على اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة، لتجنّب الفوضى وكبح جماح من يمثّل تهديداً لمصالح الدولة والمجتمع».

واجهات سلطة

ولن يفك الواقع الإقليمي أسر تونس خلال المرحلة المقبلة، كما يرى السياسي جمعي القاسمي، إذ إنّ انتصار منطق الدولة في ليبيا وتحقيق الاستقرار في مصر سيساعدان على تحقيق التوافق في تونس، وضرب معاقل الإرهاب في المنطقة سيسهم في القضاء عليه نهائياً في تونس.

تنافس قطبين

تشير استطلاعات الرأي على مدى شهور إلى أنّ «التنافس الحقيقي على مقاعد البرلمان سيكون بين «حركة نداء تونس» و«حركة النهضة» ومن بعدهما الجبهة الشعبية». وتؤكد أنّ من شأن ذلك الانعكاس على نتائج الانتخابات الرئاسية التي رشّحت الاستطلاعات قايد السبسي للفوز بها في انتظار تحديد المرشّح الذي ستقدّم النهضة من بين قياداتها أو تزكيه من ضمن حلفائها.

ويرجّح كثيرون اختلاف صورة المشهد مع ظهور عنصر مهم في العملية السياسية، وهو الأحزاب المنحدرة من صلب حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي الحاكم سابقاً، مشيرين إلى أنّ هذه الأحزاب، وأبرزها المبادرة الدستورية بزعامة كمال مرجان والحركة الدستورية بقيادة حامد القروي، باتت تحظى بقوة فاعلة في الشارع التونسي.

وتمتلك آليات تأثير شعبي موروثة من النظام السابق، تتقاسم السيطرة عليها مع حركة نداء تونس.

وسيبدو تأثير هذه الأحزاب واضحاً، وبالأخص خلال الدورة الثانية لانتخابات الرئاسة، إذ ستضع كل قواها الانتخابية لفائدة من يبلغ تلك الدورة من مرشحيها الأبرز: كمال مرجان مرشح المبادرة، عبد الرحيم الزواري مرشّح الحركة الدستوري، الباجي قايد السبسي مرشح نداء تونس، وربما مصطفى كمال النابلي المحافظ السابق للبنك المركزي، وأحد وزراء بن علي الذي سيتقدم للانتخابات بصفته مستقلاً.

«الشغل» خارج السباق والسبسي مرشّحاً

 

تمّ قبول 9 قوائم حزبية ومثلها مستقلّة و27 ائتلافية في مكاتب الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات في أول يوم لتقديم الترشيحات بكل مناطق البلاد، فيما تمّ تسجيل قوائم الترشّح في كل دوائر البلاد باستثناء دائرة سليانة، بينما لم يتم تسجيل أي قائمة في الدوائر الست في الخارج.

كما أعلنت هيئة الانتخابات عن قبول 60 رمزا انتخابيا في اليوم الأول سيتم إرجاع بعضها لوجود تشابهات بينها، وستتولى الهيئات الفرعية للانتخابات في تونس والخارج البت في مطالب الترشّح للانتخابات التشريعية المقدمة في أجل أقصاه 7 أيام من تاريخ ختم الترشّحات يوم 29 أغسطس الجاري.

في الأثناء، أعلن الامين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل المولدي الجندوبي، أنّ «الاتحاد قرّر عدم المشاركة في الانتخابات القادمة بقائمات تحت عنوان نقابي»، مضيفاً أنّ «الاتحاد لا يعترض على ترشح نقابييه إلى الانتخابات المقبلة ضمن قائمات حزبية أو مستقلّة».

لافتاً إلى حرصه كمنظمة وطنية على الوقوف على نفس المسافة من مختلف الأطياف السياسية المترشّحة للانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة.

وأضاف أنّ «الهيئة الادارية قررت تشكيل مرصد وطني لمراقبة الانتخابات لرصد كل متعلّقات الاستحقاق الانتخابي من تجاوزات قصد ضمان أكبر قدر ممكن من الشفافية والنزاهة للعملية الانتخابية».

في السياق، نفى القيادي في حركة نداء تونس ما تردّد عن تخلي الباجي قائد السبسي عن نية الترشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة وتعويضه بمصطفى كمال النابلي محافظ البنك المركزي التونسي السابق، معتبراً أنّ «هذه المسألة لم تطرح مطلقا في هياكل الحزب، وتدخل في باب الإشاعات المغرضة التي تحاول التشويش على ترشّح السبسي وتعمل على تقليص حظوظه».

Email