هدنة جديدة تمنح غزة بعض الفسحة من التنفّس وانتشال الشهداء ودفنهم، ولملمة بقايا المقتنيات الضرورية من تحت الركام.

وتمنح المتفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين في القاهرة وقتاً إضافياً لجسر الهوة بين موقفين متقابلين على خط الـ 180 درجة، موقف فلسطيني يطرح مطالب تشبه الحق بالأوكسجين، وموقف إسرائيلي يتمسّك بخنق مليوني فلسطيني في غزة ومنعهم من ارتداء القبّعة أو نزعها من دون إذنه، ويحاول الهرب من أصل المشكلة، وهي الاحتلال، وتوصيف عدوانه على الشعب الفلسطيني باعتباره «حرباً مع حركة حماس».

ضوء أحمر

ربما يصلح تحذير المسؤول الإنساني لدى الأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، جيمس رولي، من أن الحرب في غزة ستتجدد ما لم يرفع الحصار عنها، ليكون حجر الزاوية في المعالجة المحدودة والمحدّدة للمنسوب العالي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على إحدى جبهاته، وليس في وجهه الشامل كقضية فلسطينية.

رولي الذي طرح قضية رفع الحصار كعنصر جوهري في تبريد جبهة غزة، يتبنى جوهر مطالب المقاومة التي تصب بمعظمها في هذه الخانة إذا استثنينا المطالب المتعلّقة بالأسرى باعتبار أنها تشمل الضفة أيضاً.

هذا الضوء الأحمر الذي يشعله المسؤول الدولي يشد انتباه الحائرين والواضعين رؤوسهم بين أكفهم في محاولة لتوقّع مخرج ما لهذه الجولة الدامية التي شطبت فيها إسرائيل كل المحرمات واستباحت كل ما يقع تحت سماء غزة من بشر وشجر وحجر.

مصدر الحيرة بالطبع هو الهوة الواسعة بين مطالب المقاومة التي هي مطالب أهل غزة وكل الشعب الفلسطيني وبين رفض إسرائيل لها وإضافتها مطلب نزع سلاح غزة، وأن يسمح لجيشها بدخول غزة وقتما يشاء بذريعة تدمير الأنفاق.

خلطة سحرية

سواء هدأت هذه الجبهة مؤقتاً باتفاق أم بتوقف تلقائي، من المستبعد تماماً أن يوافق أي من الطرفين على مخرج يظهره مهزوماً أمام منتصر، وبالتالي فإن الحل يقتضي خلطة سحرية، الآن أو في المستقبل القريب، يستطيع كل طرف أن يسوّقها لجمهوره كإنجاز.

لكن إذا كان الحليف الأميركي يقول إن غزة لا يجب أن تبقى معزولة عن العالم، وإذا كان مسؤولون أمميون يبكون على شاشات الفضائيات بسبب الأهوال التي رأوها في غزة، فإن إسرائيل لن تصمد طويلاً أمام مطلب رفع الحصار، وستحاول فقط إخراج هذا المطلب على نحو مكبّل بالقيود، من نوع ربط فتح المعابر بعودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة، وربما تحاول تكرار المطالبة بفك حكومة الوفاق وإخراج «حماس» منها، لكي تبقي المشهد الفلسطيني تحت سقف اتفاقيات أوسلو بترجمتها العبرية.

المحللون، وكذا الأمر بالنسبة لمسؤولي ومندوبي المنظمات الإنسانية، يجمعون على أن تكرار اتفاقات 2006 و2008 و2012 سيفتح المجال أمام انتظار موعد العدوان المقبل باعتبار أنه سيكون مسألة وقت، مع ملاحظة أنه أصبح مكلفاً للصهاينة أيضاً، بعدما كان الفلسطينيون في النسخ السابقة هم من يدفعون الثمن وحدهم.

مداخل ومخارج

لسبر أغوار المداخل والمخارج لهذا المشهد المعقّد، من المهم قراءة مواقف الطرف الآخر بشكل معمّق وحذر. ثمة محلّلون إسرائيليون يرون أن حكومتهم ستضطر في النهاية، الآن أو بعد حين، للقبول بمعظم شروط المقاومة، وتليين مواقفها تجاه المطالب التي تعتبر صعبة إسرائيلياً، ومنها الميناء والمطار، وكذا التراجع عن نزاع سلاح المقاومة.

ويقر المحللان إيلئور ليفي وأتليا شوفعلبي في صحيفة «يديعوت أحرنوت» أن إسرائيل وجدت نفسها مضطرة للسماح بتحقّق إنجازات لصالح المقاومة من أجل عودة الهدوء إلى المستوطنات والعمق، وهو ما لم تنجح في تحقيقه عسكرياً. ويقدّران أن مطلب «الميناء» يعلو سقف التوقعات، ومع ذلك يتوقّعان صيغة اتفاق مبدئي يتضمن القبول بالميناء كجزء من تطوير مستقبلي.

حرب استنزاف طويلة

من المؤكد أن محاولات إسرائيل تتمحور حول عدم التورط في حرب استنزاف طويلة الأمد في رمال غزة، فهذا ما لا يحتمله المجتمع الإسرائيلي، وستلجأ كعادتها للخداع والالتفاف على المطالب الفلسطينية الجوهرية والأساسية، واستبدالها بإجراءات شكلية من نوع إدخال مساعدات دولية «متفق عليها مسبقاً». لكن المقاومة المتسلّحة بتوازن القوى والرعب، والشعب الفلسطيني خلفها، لن تقبل بأن تنتهي هذه التضحيات وهذا الشلال من الدماء، على النحو الذي جرى سابقاً وثبت عقمه.

فن التفاوض

تعلم المقاومة أن مطالبها ليست كلها قابلة للتحقق بشكل مطلق وواضح في هذه الجولة، وإلا لكانت أضافت لها مطالب أعلى، عملاً بفن التفاوض.

وعلى هذا الأساس لن يكون سيئاً بالنسبة للمقاومة أن يصار إلى اتفاق واضح ومضمون برفع الحصار من خلال معابر غزة مع الكيان، وتوسيع منطقة الصيد في بحر غزة إلى 12 ميلاً بحرياً، وفتح معبر رفح كقضية فلسطينية مصرية لا شأن لإسرائيل بها، بالإضافة لالتزام إسرائيل عدم الاعتداء على غزة كلما «دق الكوز بالجرة»، بالإضافة لتحقيق اختراقات على صعيد الأسرى.

أما مسألة إقامة مطار وميناء بحري في غزة، فإنها قد تحال إلى المفاوضات على ما يسمى الحل النهائي.