السيف الدمشقي.. قصيدة من الفولاذ مكتوبة بماء الذهب

السيف الدمشقي.. قصيدة من الفولاذ مكتوبة بماء الذهب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر السيف الدمشقي مضرب الأمثال في العالم بشكله ونصله ومقبضه وغمده، فقد عرف الصانع الدمشقي الفولاذ وعمل منه السيوف والخناجر التي ذاعت شهرتها في العالم أجمع. وكان أصحاب هذه السيوف يتفاخرون بالظهور بها في المناسبات والحفلات الرسمية ويعتمدون عليها في الدفاع عن النفس والتصدي للعدو.

وكان الفولاذ الدمشقي في عصر ما قبل النهضة الأوروبية من أشهر المعادن وكان تصنيعه يقوم على عملية تفحيم «كربنة» الحديد بأسلوب خاص قوامه عملية إحماء الحديد المطاوع إلى درجة الاحمرار مع مواد كربونية فيسقى ذلك الحديد المكربن للتخلص من زوائد الفحم قبل التطريق إلى قضبان تحول إلى سيوف.

ويتميز الفولاذ بقساوة استثنائية وصفاء متموج تعرف بـ «الجوهر» تدل على جودة الفولاذ الدمشقي ونصل هذا السيف من فولاذ عجز صناع السيوف في العالم عن تقليده وعن معرفة الطريقة التي يحضر بها ويبولد فيها حتى لا يتعرض للصدأ مهما طالت به الأيام.

ويقول الباحث نصر الدين البحرة إن دمشق ظلت على شهرتها بصناعة السيوف حتى سنة 1400 للميلاد، حين غزا تيمورلنك دمشق وحمل معه إلى عاصمته سمرقند صناع السيوف الدمشقيين المهرة مع جملة الحرفيين الآخرين.

ويوضح البحرة أن من الذين خبروا صناعة السيف الدمشقي «أبو يوسف يعقوب شمسى» و«أسد الله الدمشقي» تلميذ أبو يوسف المتوفى منذ نحو 275 عاما وقد تعلم هذه الصنعة عن أستاذه وكانت النصول التي يصنعها مدموغة بخاتم عليه اسم المعلم أسد الله، وقد مارس آل بولاد بدمشق هذه الصنعة ردحا من الزمن أيضاً.

ويقول أحد حرفيي السيوف محمد بيتماني ان السيف العربي كان مستقيما ثم أخذ بالانحناء مع الزمن ثم أخذ شكل نصل منحن ربع حنية الدائرة وله قبضة عربية وأحيانا نجد له سكتين في منتصف النصل ويصنع بتحمية الحديد في الكور حتى درجة الاحمرار وتجري بولدته على نحو من الكربنة والإحماء والسقي والتطريق.

ويضيف بيتماني ان السيف يسلم إلى صانع الغمد الذي كان يصنع من الخشب ويغطى بالجلد الطبيعي أو يزخرف بالنحاس أو الذهب ويصنع المقبض من الحديد أو قرن الجاموس.

نقش الزخارف

وكان من الصناع من يبدع في صقل السيوف والخناجر، ويتفنن في نقش الزخارف عليها وتنزيل خيوط ذهبية أو فضية في نصولها بأشكال هندسية وأشكال وكتابات قرآنية وحكم وأشعار وشمل هذا التزيين أيضا مقابض السيوف وأغمدتها بأسلوب ينم عن الذوق الرفيع والموهبة النادرة ومنهم من يدخل الصدف والعظم والعاج والقصدير في تزيين المقابض والأغمدة.

ويقول شاكر أبو عرب حرفي سيوف دمشقية إنه في أيامنا أصبحوا يصنعون النصل بواسطة المكابس ثم يجلخ «يسن» حده ثم يبولد وينكل لمنع الصدأ، أما الزخرفة فتكون بطريقة الصياغة «الكسرشفت» وهي عبارة عن سحب شريط نحاسي رفيع وجدله وسحبه ثم تنزيله في النصل بواسطة «شفت» أو ملقط ثم يطلى السيف وينكل مجددا حتى لا يصدأ.

ويضيف أبو عرب أن مقبض السيف الدمشقي تجري صناعته عن طريق السكب على حين يكون الغمد «القراب» من قالب خشبي يلبس صفائح نحاسية تلحم بلحام فضة ثم تزخرف بأبدع الزخارف الإسلامية.

وفى مآثر السيف الدمشقي يقول الباحث نصر الدين البحرة ان السيف العربي لا يذكر إلا ويذكر معه السيف الدمشقي الذى كان وراء العديد من البطولات العربية حين انطلق الفارس العربي فاتحا لم يعرف التاريخ أرحم منه، فالسيف لم يكن لدى العربي زينة يتحلى بها في حله وترحاله بل أداة حرب ورمزا للعزة ومجالاً لإظهار الإبداع الفني والبراعة في الصنع حتى غدا السيف بأقسامه الأربعة النصل والمقبض والغمد والحمائل مجالاً واسعاً للإبداع والفن العربي.

ويوضح البحرة ان العرب نسبوا نصل السيف إلى الهند فيما نسبه الغربيون إلى دمشق التي اشتهر فيها الفولاذ الدمشقي المائل إلى السواد ومنه نوعان أحدهما خليط من الفولاذ القاسي والفولاذ اللين وينتج عنه فولاذ أصم لا رنين له وآخر له رنين رائع ويضيف كل حسب لونه الأسود اللامع والأسود الخراساني والشامي.

ويضيف البحرة أن صناع السلاح العرب والفرس والرومان كانوا يعتقدون أن وراء صناعة السيف الدمشقي سرا وكانوا يحاولون دون جدوى تقليد السيف الدمشقي معتقدين بوجود طرائق عجائبية في صناعته، ولأن واحدا فقط من أفراد العائلة يورث حق الاطلاع على أسرار الصنعة وممارستها استطاع الدمشقيون أن يحافظوا على الهالة العجائبية التي أحاطت صناعتهم.

ويقول أحد أشهر صناع السيوف الدمشقية والذي كان قد توارث المهنة على مدى عدة أجيال في العائلة نفسها التي تلقب بها، إن عائلته هي العائلة الوحيدة التي تصنع السيوف وتقوم بتنزيل الذهب والفضة عليها وهم لا يعلمونها إلا لأولادهم حتى تبقى مصونة.

سيف الأمراء

السيف الدمشقي هو سيف القادة والأمراء ومن هنا اتخذ شهرته وهو سيف فعال جدا وقاطع وهو عبارة عن مزيح من معدنين طرى وآخر قاس جدا متحدين معا، وسعر السيف يتجاوز الـ 300 ألف ليرة سورية «ما يعادل ستة آلاف دولار» ويمكن زيادة سعره وفقا للزينة التي تضاف إلى غمده.

ويتم تصديره إلى الخارج ويشتريه السوريون والعرب والأوروبيون، ولقد اشتهر صانع السيوف الدمشقي إلى جانب صناع الديباج والزجاج والفولاذ الدمشقي بترصيع وتعشيق ونقش السيوف واستعمل لذلك المعادن الثمينة كالذهب والفضة والأحجار الكريمة إضافة إلى النحاس والرصاص والحديد.

كما طعم بعضها بالعاج والصدف والعظم بأشكال لا مثيل لها ولقد اشتهرت السيوف الدمشقية على مدى قرون عدة مضت وعرفت بجمالها وقوتها وكانت تصنع لهواة جمع السيوف.

ويقول المؤرخون ان هذه الحرفة اليدوية قد تراجعت بشكل ملحوظ بدءا من القرن الخامس الميلادي عندما اجتاح القائد المنغولي تيمورلانك دمشق وأخذ معه إلى سمرقند حوالي150 ألفا من أشهر حرفيي صناعة السيوف حيث اشتهر هذا الفن هناك وعرف باسم «ازيميني» والتي تعنى بالعربية «العجمي» لينتشر بعدها في أوروبا كلها.

دمشق ـ أحمد كيلاني

Email