الملف السياسي ـ في ظل مباريات الشد والجذب في الحرب ضد العراق، واشنطن وتل أبيب .. حسابات متعارضة على الساحة الفلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 27 رجب 1423 هـ الموافق 4 أكتوبر 2002 لا يكاد المتطرف يدرك حدود وابعاد ونتائج ممارساته اذ انه يكون مدفوعاً بنزعات غامضة لا تسمح له بمبارحة التوتر وممارسة التفكير التحليلي الهاديء للاهداف والوسائل والخيارات المتاحة وامكانات النجاح واحتمالات الاخفاق وهذا هو بالضبط الوضع الذي زج بنفسه فيه رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون، وبعد هذه الشهور الطوال لا يستطيع شارون ولا يستطيع مناصروه الزعم بأن الجيش الاسرائيلي باسرافه في البطش بالفلسطينيين قد حقق أيا من تلك الاهداف الخيالية الشاطحة التي ظن شارون وظن قطاع كبير من الشعب الاسرائيلي ان حكومة الليكود المتطرفة قادرة على انجازها طالما انها فوضت محليا وعالميا وخلي بينها وبين الفلسطينيين تفعل بهم ما تشاء. لم يرد في خاطر هؤلاء ان عكس ما توخوه تماماً من اهداف يمكن ان يتحقق فقد اضاع الاسرائيليون بتطرفهم انجازاً غالياً سبق ان حققوه واكدوه لاكثر من عشر سنوات وهو الانجاز المتمثل في عزل القيادة الفلسطينية عن قواعدها الشعبية فقد فقدت تلك القيادة بالتدريج معظم مصادر شعبيتها وتبخرت حتى ارصدتها البطولية التاريخية وغدت مدعاة للسخرية والتندر والتنكر، ولكن ها هو مشهد عرفات الاخير وهو يحيي الجماهير الفلسطينية وهي تحييه يؤكد للاسرائيليين جميعا ولمن مالؤوهم عالمياً، استعادة الشعب الفلسطيني لوحدته السياسية ودعمه لعرفات الرمز نكاية في شارون واحباطا لمساعيه لتغيير عرفات والاتيان بحكومة فلسطينية جديدة يتحكم فيها عن طريق ممارسة الضغط السياسي والاقتصادي والاميركي عليها مع التلويح بوسائل التأديب العسكري الاسرائيلي وفي مقدمتها باحكام الحصار بناء على سابقة عرفات. كان امل شارون ومناصريه ان تتمخض ايام الحصار لمقر عرفات عن استسلامه استسلاماً ذليلاً، أو طلبه اللجوء للمنفى كما فعل في 1982 حين اجلى من بيروت او على افضل الفروض ان يبقى محاصراً حتى يتقوى عليه اتباعه الذين يطالبونه بتوزيع اساسي للقوة وتعيين رئيس وزراء يقاسمه السلطة، وينتزع مع مجلس الوزراء الذي يكونه اغلب مفاصل السلطة ولا يبقى له إلا المنصب الشرفي او نحوه، ولكن كما تؤكد معظم استطلاعات الرأي العام ان عرفات قد خرج منتصراً وانه يستطيع الآن ان يلتف على مطالب منازعيه من قيادات فتح كما يستطيع ان يشكل حكومة جديدة يكون ولاؤها الغالب له شخصياً وفي ذلك ما فيه من اجهاض لجهود اعدائه ومنازعيه على السواء. لم تكن حسابات شارون سوى حسابات قاصرة ولذلك آلت الى الاتيان بنتائج لصالح الطرف الفلسطيني. لقد تجاهلت تلك الحسابات المشهد العالمي برمته بل تجاهلت ابرز ما فيه وهو مباريات الشد والجذب ما بين اميركا ومعارضيها بشأن ضرب العراق، ربما كان في حسابات شارون ان انهاء الانتفاضة الفلسطينية سيتم قبل موعد ضرب العراق، وربما كان يحسب ان آوان ضرب العراق هو الوقت الافضل بالنسبة له حيث يتمكن بمعزل عن مراقبة الرأي العالمي من تصفية الانتفاضة الفلسطينية، فالرعب الذي سينصب على الفلسطينيين حينها سيكون بلا شك اقل بكثير من الرعب الذي سيطال العراقيين، وكفى بذلك حجابا يحول دون رؤية ما يدور بفلسطين او الاهتمام به. لكن رؤية الحكومة الاميركية لنفس الشأن كانت على النقيض، كان لابد ان يتوقف التصعيد الاسرائيلي تماماً حتى يتهيأ المجال لضرب العراق ، ان حسابات واشنطن لا تتحمل كل هذا التضارب والتعقيد، فهي لاتزال تأمل في مساندة العالم العربي لها ضد العراق واستخدام اراضيه وتسهيلاته لذلك الغرض، وهو ما يتعارض تماماً مع استمرار تصاعد الاحداث على الساحة الفلسطينية سواء بدعم اميركا او بدون دعمها لحكومة شارون. اذ المفهوم عربيا ان اسرائيل لا تتمادى في عتوها إلا استناداً الى الظهر الاميركي ومن هنا جاءت اشارة البيت الابيض القوية الحازمة لحكومة شارون بضرورة انهاء حصارها فوراً لمقر عرفات. فقد اوشكت عنجهية شارون ان تفسد على بوش قراره الذي يصر عليه ويريد ان يمليه على اوروبا وعلى العالم اجمع بغزو العراق. حسابات متعارضة ان مخطط غزو العراق لايزال يعاني من صعوبات ومعارضات شتى تحاول واشنطن ان تذللها وتحتويها بوسائل الاغراء والضغط المختلفة، وقد جاء دور اسرائيل الآن لتصاب ببعض الضغط وهذا ما لم يكن وارداً في مخيلة شارون على الاطلاق فقد كان تطرفه يصور له ان حملته على الفلسطينيين انما هي جزء لا يتجزأ من حملة الادارة الاميركية على العرب وعلى الارهاب، فلتضرب واشنطن اذن بغداد ولتشارك تل ابيب في تلك الضربة ان استطاعت ولتستمر في ممارسات القمع ضد الفلسطينيين فهذه اهداف متسقة وتصب جميعها في مصلحة الطرف الاسرائيلي ويجب تحقيقها كلها بلا ادنى تنازل او تفريط. هذه الحسابات الشاطحة ما كان لها على علاتها ان تجد القبول من المحللين الاميركيين ذوي النفس البارد الذين يطمحون الى تحقيق الممكن لا احراز المحال، وقصارى ما يطمح اليه هؤلاء الآن هو ان يدفعوا بهدف ضرب العراق لكن ليدخل في حيز الامكان وان يذللوا اكثر المخاطر التي تكتنفه وتلك التي تستتبعه ودون ذلك تتضاءل مطالب شارون باستسلام بضعة اشخاص يصفهم بالارهاب ثم يدير آلة قمعه كلها من اجل اعتقالهم او قتلهم غير مبال دون ذلك باثارة الرأي العام العالمي بمجمله، ولا بانعقاد مجلس الامن ولا انفضاضه، ولا بما يسببه من تشويش لحسابات الحرب الاميركية القادمة. حصاد التجربة وهكذا ووجه انفلات شارون بما يكبحه الى حين ولا ريب انه سيعود الى خط التطرف عندما تسنح الفرصة من جديد ودونه في المستقبل خيارات شتى. وامثال شارون لا ييأسون وعندما يخلى بينه وبين الفلسطينيين فإنه سيعود الى اسوأ مما كان وهنا لابد من وقفة لاستنباط بعض العبر واهم تلك العبر على الاطلاق هو تجربة الوحدة الرائعة في نسيج النضال الفلسطيني، وهي الوحدة التي بدت كأقوى ما تكون في ظرف تفسخ وتآكل نال السلطة الفلسطينية من الداخل، ولكن القيادة الشرعية تمكنت بفضل صمودها من انتزاع تأييد شعبي واسع، فاعظم الدروس اذن هو ان مشروعية اي نظام للحكم ، وفي اي ظرف كان، انما هي المشروعية الداخلية لا الخارجية فمن يستند الى اوسع قطاعات وسط شعبه ستكف الاطراف الخارجية عن التلاعب به وعن استمراء الضغط عليه، وستضطر مرغمة على الاعتراف به والتعامل معه باسلوب يسوده التقدير اللازم، والاحترام الواجب. العبرة الثانية وهي مستنبطة من الاولى تفيد بأن هذه الوحدة الفلسطينية الرائعة ستكون هي مناط لاستهداف اسرائيلي في القريب العاجل، ان القوى الامنية الاسرائيلية تراهن على تحقيق مزيد من الاختراق للعمق الشعبي الفلسطيني، وهذا ما كشف عنه المحلل الصحفي الاميركي النافذ توماس فريدمان في مقاله بـ «واشنطن بوست» بتاريخ 30 سبتمبر اذ ذكر انه بعد يوم واحد فقط من احداث الحادي عشر من سبتمبر كان قد اتجه الى مبنى وزارة الدفاع الاسرائيلية ليحادث كبار مسئوليها عن كيفية مقاومة اسرائيل للهجمات «الانتحارية» فأكدوا له بالاجماع ان اسرائيل لا تمتلك اي آلية لوقف تلك الهجمات وانها لا تراهن إلا على الطرف الفلسطيني وحده لكي يفعل ذلك، وانها ستبدأ بالفقهاء ورجال الدين ليصدروا الفتاوى التي تحرم تلك الهجمات، ثم تثني بالقادة السياسيين ليضغطوا على تنظيمات الجهاد وحماس، ثم تثلث بالقوى الأمنية الفلسطينية فتوكل لها باختراق تلك الجماعات لاجهاض العمليات الارهابية التي تزمع القيام بها وعملية الاختراق اذا كان مقررا لها ان تنجز ذلك الغرض فإن ثمة غرضاً اضافياً برز الآن هو غرض اجهاض قوة عرفات الشعبية، وقوة الشعب الفلسطيني بشكل عام. والعبرة الثالثة تتعلق بعملية حصار القيادة الفلسطينية كوسيلة مفضلة لاخضاعها وتركيعها للارادة الاسرائيلية، ومثل هذه العملية من المرجح ان تتكرر حينا بعد حين ولذلك فلابد من وضع العقبات من جانب الطرف الفلسطيني للحيلولة دون نجاحها. وقد كانت وسيلة اعتصام قوى السلام مع القيادة سواء في مارس ومايو الماضيين وسيلة ناجعة ازعجت الطرف الاسرائيلي واحرجته واحبطت مخططه في النهاية. وإذا كان الطرف الاسرائيلي قد تمكن في الحصار الآخير من ابعاد اي جانب من قوى السلام من مكتب عرفات، فإنه ينبغي الا يتمكن من ذلك في اي محاولة قادمة وذلك حتى لايتاح له هدم ما شاء من المباني على رؤوس الأبرياء. وأما العبرة الرابعة ـ وهي ليست العبرة الاخيرة! فمفادها ان حسابات تل أبيب السياسية والعسكرية لا تتطابق دائما مع الحسابات السياسية والعسكرية لواشنطن، فقد اتضح ان في واشنطن من يميزون بين مصالح أميركا ومصالح اسرائيل عندما تتعارض تلك المصالح ولا يضحون بمصالح اميركا لحساب اسرائيل. وهذا سيزداد كلما وجد دعما عن طريق الاعلام والدراسات التي تعدها مراكز البحث المتخصصة. ويحتاج العالم العربي الى ان يبذل جهدا مطلوبا في مجال (العلاقات العامة المهنية) وهو ليس بالجهد الميسور ومن الضروري في هذا المضمار تفادي جماعات كثيرة تتظاهر بامكاناتها وهي لا تهدف الا لابتلاع اموال الاقطار العربية التي تنازعها نفسها لبذل ذلك الجهد. ويمكن اعتبار لحظة الانتصار الفلسطيني الراهن على شارون لحظة مناسبة للانخراط في مشوار التنوير والاعلام والتبشير بأن المصالح الاميركية تترابط مع المصالح العربية، بأكثر مما تترابط مع المصالح الاسرائيلية، وان انفلات العنف الاسرائيلي هو اكثر ما يضر بالمصالح الاميركية في العالم العربي، ويؤجج نزعات التطرف فيه، وان الضغط الاميركي على اسرائيل هو صمام الأمان الاكيد لاحداث التوازن في الاقليم وانهاء جانب كبير من متاعب السياسة الخارجية الاميركية. ان اي جهد عربي في مجال العلاقات العامة بأميركا بامكانه ان يستصحب حاليا بذور الوعي الاميركي بخطورة التطرف الاسرائيلي ـ كما يستصحب معه مشاعر التضامن العالمية التي بدت واضحة مع الحق الفلسطيني. بقلم: د. محمد وقيع الله ـ استاذ العلاقات الدولية ـ الولايات المتحدة

Email