الملف السياسي ـ رهانات تسقطها الانتفاضة، شارون يفشل في اللعب على أوهام الخلافات الفلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 27 رجب 1423 هـ الموافق 4 أكتوبر 2002 رغم كل الاعتراضات الدولية على حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات فإن شارون قد مضى في مخططاته دون أي اعتبار لقرار مجلس الأمن أو حتى للرئيس الأميركي الذي أعلن انه يجب على اسرائيل ان توقف عملياتها في المقاطعة وفك الحصار عن عرفات، مع ان علاقة واشنطن بتل ابيب وصفت في المرحلة الاخيرة على انها علاقة شهر عسل مع توقع استمرارها طويلا خاصة ان هدف واشنطن الاول في هذه المرحلة هو السعي لكسب التأييد للهجوم على العراق وهو عمليا يعتبر هاجساً اسرائيلياً ايضاً، ولكن يبدو ان شارون اراد ان يضرب عصفورين بقذيفة واحدة وفي وقت واحد ضمن الرهان على مجموعة من القضايا التي باتت تعتبر بالنسبة للكيان الصهيوني بمثابة مخطط طويل الأجل لم يعد هدفه فقط تقويض السلطة الفلسطينية وإعادة احتلال الاراضي وكسر عزيمة الانتفاضة بل هو في واقع الأمر أكبر من ذلك بكثير. الملاحظ ان الحكومة الاسرائيلية اجمعت اجماعاً شبه تام على محاصرة المقاطعة رغم ظهور بعض الاصوات التي ترفض هذا العمل وهي بطبيعة الحال اصوات ضعيفة لا تؤثر بقرارات حكومة شارون التي لم يعد فيها عملياً أي صوت يساري بعد ان انضم الى آراء شارون المعارض الرئيسي في الحكومة شيمون بيريز والذي كان اشد حماساً هذه المرة من بعض اصوات اليمين فيما يتعلق بموضوع حصار عرفات، وقد ظهر هذا واضحا حينما اجتمع مع مجموعة من سفراء دول العالم وعلى رأسهم السفيران الأميركي والبريطاني اللذان طالبا بيريز بتقديم توضيحات حول المخطط الاسرائيلي وهدفه في هذه المرحلة التي تسعى كل من واشنطن ولندن في حشد تأييد عالمي لضرب العراق مما يدفع بيريز لتقديم اجابات غير مقنعة لمعظم التساؤلات تلخصت بقوله: «لقد اعدت هذه العملية كي نقرع ناقوس الخطر ولجذب اهتمام العالم الى حقيقة ان الفلسطينيين لا يفعلون ما يلزم في مجال الاصلاحات» ولكن الملاحظ ان النبرة التي باتت السلطات الاسرائيلية تتعامل بها شبيهة بنبرة الولايات المتحدة التي تريد ان تقود بها العالم رغم الخلاف الظاهري في المرحلة الاخيرة خاصة فيما يتعلق بالحصار وهذا الخلاف له ابعاد مختلفة سواء بالنسبة لاسرائيل أو للولايات المتحدة فواشنطن ترى ان الفرصة باتت سانحة لإيجاد قيادة بديلة لعرفات خاصة في ظل الاجواء الخلافية الفلسطينية ـ الفلسطينية التي سبقت الحصار والتي تركز معظمها حول استمرار العمليات الاستشهادية اضافة لتطلعات الادارة الأميركية لضرب العراق مما دفع بعض المصادر الاسرائيلية الى القول: «إن بوش معنى بإرضاء الدول العربية وهذا مشروع الآن وطالما ان هذه المصلحة لا تمس المصالح الاسرائيلية وطالما لا توجد ضغوط أميركية ملموسة فليس هناك ما يستدعي القلق». والواقع ان معظم الخلافات سواء داخل التيارات السياسية للكيان أو على الساحة الأميركية الاسرائيلية تصب في نفق واحد بالنسبة لحصار الرئيس الفلسطيني، فقد باتت الولايات المتحدة مع اسرائيل لا ترى في عرفات شريكاً مستقبلياً لأية مفاوضات قريبة لذلك من المهم ان نلحظ ان هذه الرؤية التي تستبعد أية مفاوضات في المرحلة الحالية لم تعد تمثلها فقط الحكومة الاسرائيلية بل ان الفلسطينيين انفسهم يمثلون هذا التوجه خاصة انهم قد فقدوا الكثير من الآمال بعودة المفاوضات أو حتى تنفيذ ما اتفق عليه بعد أوسلو وعلى هذا الاساس فإن حكومة شارون الماضية في تدمير كل شيء فلسطيني والتي لم تعد تريد حلاً سلمياً رأت ان حصار عرفات من الممكن ان يلعب دوراً مهماً في المرحلة الحالية وضمن الظروف المحيطة بالوطن العربي، ولعل شارون يرى ان القضاء على عرفات قد يؤدي الى استبعاد الفلسطينيين من اية مفاوضات مقبلة والحديث عن القيادة البديلة يروق له كثيراً. واذا استطاعت الولايات المتحدة واسرائيل تشكيل قيادة فلسطينية على مقياسها فإن هذه القيادة ستكون حكومة تابعة ومرفوضة من كافة تيارات الشعب الفلسطيني سواء تلك التي تعارض عرفات او تؤيده وبالمقابل سيتلاعب بها شارون كما يشاء ويدخلها في مفاوضات شكلية فارضاً شروطه ورؤيته على حل نهائي يكون بمثابة الضربة القاضية للقضية الفلسطينية التي ما زالت قائمة في حالتها الصراعية منذ اكثر من خمسين عاماً. والواقع ان شارون هنا ينظر الى هذه المسألة من عدة جوانب فهو يرى انه من المهم تقويض السلطة ومحاصرتها للوصول الى قيادة بديلة اولاً واذا لم تنجح هذه الخطة فإنه سيذهب الى ابعد من ذلك بإبقاء الوضع الراهن في الأراضي الفلسطينية من الممكن ان يجعل التوجه الرسمي العربي يبحث عن حل وهذا الحل قد يستبعد الفلسطينيين نهائياً او يكون تمثيلهم شكلياً وبالتأكيد فإن هذه المسألة تدور في التفكير الشاروني وبشكل كبير خاصة اذا تذكرنا كم من مرة دعا شارون الحكومات العربية لاتصالات ثنائية كان بالطبع مصيرها الرفض العربي ولكن مع دخول العرب في أزمات متعددة منها التفكير الاميركي الساعي لضرب العراق والذي قد يؤدي الى اعادة رسم خارطة جديدة في المنطقة فإن الحلم الشاروني قد يصبح حقيقة نتيجة حسابات قادمة ليس على الفلسطينيين وحدهم بل العرب جميعهم. التحرك من الداخل ان شارون الذي لا يرسم وحده الخطة الصهيونية الكبرى يدرك تماماً ان خطته في حصار الرئيس الفلسطيني لا تكمن فقط في الاهداف القريبة بل لعلها تدخل في صلب الاهداف البعيدة جداً والتي قد تطال حتى اية سلطة مقبلة ومنتخبة من قبل الشعب فهو يحاول ان يقدم درساً لأية سلطة قادمة وفي الوقت ذاته يحاول ان يزعزع اركان السلطة الفلسطينية الحالية ويهزمها من الداخل سياسياً وحتى اجتماعياً، وقد عبر عن هذا التوجه رئيس الاركان الاسرائيلي (يعلون) الذي رسم الخطة السياسية والحربية في حصار عرفات فهو يريد اذلاله كما قال ونتيجة مرونة عرفات واعتداله ستظهر الاصوات المتشددة وتنقلب المنظمات الفلسطينية عليه حتى تلك المؤيدة له كما يتوقع (يعلون) بل انه يذهب الى اكثر من ذلك فهو يتمنى ان يشاهد حرباً اهلية فلسطينية قريبة جداً تكون كردة فعل على تنازلات عرفات اذا ما حوصر!! والواقع ان عرفات لم يتنازل ولم تنشب اية حرب اهلية بل على العكس تماماً فقد اعلن الفلسطينيون انهم على درجة كبيرة من الوعي اظهرها تضامنهم الشعبي خاصة في المسيرة الجماهيرية التي تحدت الحصار ومنع التجول واعلان قيادات المنظمات الفلسطينية دعمهم لعرفات والوقوف معه في محنته مما قوض حقيقة الاحلام الشارونية التي باتت في المرحلة الاخيرة تحلم اكثر من الحقائق وتتوقع خارج الواقع، ويرتبط التفكير الشاروني بشكل ما بالموقف الاميركي رغم اختلافه الظاهري الذي جاء اولاً في مجلس الامن حينما امتنعت واشنطن عن التصويت على القرار 1435 الذي يدعو اسرائيل الى الانسحاب من الاراضي التي اعادت احتلالها منذ يونيو 2002 وانهاء حصار عرفات مدركة حقيقة التصرف الشاروني والى اين سيؤدي هذا الطريق التي تتبعه الحكومة الاسرائيلية خاصة ان الولايات المتحدة ما زالت تطمح بتأييد لها في ضرب العراق سواء من المنظمة الدولية او القوى الكبرى في العالم او حتى الوطن العربي وامام هذا الطموح اتت عملية الحكومة الاسرائيلية لتعيد الولايات المتحدة كل حساباتها وتحاول من جديد اللعب على وتر اخر قد يكون ايضاً من الافكار المشتركة بين واشنطن وتل ابيب. وكل هذه الحسابات ستدخل في حصار الرئيس الفلسطيني فقد حاولت واشنطن ان تظهر انها لا تؤيد العملية الاخيرة للجيش الاسرائيلي وابتعدت نسبياً عن قرار الامم المتحدة بل لقد ارسلت للكيان الصهيوني رسالة واضحة مفادها ان تتراجع عن عملية الحصار ولكن هل حقا تتحدى اسرائيل الولايات المتحدة؟ الواقع ان ذلك لا يمكن ان يحدث بل خيوط اللعب على اوهام الخلافات باتت من الخيوط المحببة خاصة بالنسبة للعرب لأن معظم الوقائع تشير الى ان شارون وبوش يمارسان عملية متكاملة الأطراف فإذا ما فك شارون حصار عرفات فإن الولايات المتحدة ستحاول ان تظهر لاسرائيل بالمظهر الدولي الذي يذعن للارادة الدولية وان الفلسطينيين لا يريدون السلام وكذلك العرب رغم ان العرب والفلسطينيين قد اعلنوا وأكثر من مرة انهم لايزالون متمسكين بقرارات الشرعية الدولية والمثال الواضح ظهر في المبادرة العربية في قمة بيروت. اما اذا اصر شارون على ابقاء عرفات محاصرا فإن واشنطن ستعود الى التفكير الآخر وتتعامل مع قضية البديل بسرعة اكبر وفي كلا الحالتين فإن الرابح في هذه المناورة سيكون الكيان الصهيوني وقد نبه على كارثية واقع الدعم الاميركي لاسرائيل الكاتب المعروف توماس فريدمان في صحيفة نويويورك تايمز قائلا: اذا كان شارون ماضيا في هذا الطريق فإنه سيؤدي الى الكثير من المخاطر واذا سار فريق بوش في الطريق ذاته فسيكون امرا مؤسفا للغاية ولابد ان نتذكر دائما ان السيرة الذاتية لشارون تقول انه لا يتوقف عند الاضواء الحمراء. وهو بطبعه ينوه الى ان شارون لا يمتلك اية خطة لتحقيق الاستقرار مع الفلسطينيين ويركز كل اهتماماته على تأمين أمن المستوطنين في الضفة الغربية بدل ان ينظر حقيقة في ايقاف الاستيطان، اذا انطلقنا من مفهوم التأييد الأميركي الدائم لاسرائيل فإن المسألة تغدو اكثر وضوحا، فالحكومة الاسرائيلية تدرك ان تصريحات واشنطن بشأن عملياتها في الاراضي الفلسطينية مجرد بالون اختبار للكثير من الفلسطينيين والعرب حتى ان احد المسئولين الاسرائيليين في مكتب شارون قال: طالما لا يوجد ضغط اميركي ملموس فليس هناك سبب للقلق ونرفض بشكل مطلق قرار مجلس الامن فهو اقرار تصريحي سيلقى في سلة مهملات التاريخ، والواقع انه ليس القرار الأول الذي تلقيه اسرائيل في سلة مهملات التاريخ فهي قد القت الكثير منذ بداية الصراع العربي الصهيوني بل انها لم تنفذ اي قرار اتخذ بهذا الشأن بينما يطالب العرب دائما بتنفيذ القرارات الدولية واحيانا الأميركية او حتى الاسرائيلية كما هو مطلوب الآن من السلطة الفلسطينية ان تكون حارسا لاسرائيل وتسلم المطلوبين الفلسطينيين الذين يشغلون مراكز مهمة في القيادة الفلسطينية منهم العميد توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة في الضفة الغربية والعقيد محمود ضيمرة قائد قوات 17 في رام الله اي قائد الحرس الرئاسي الفلسطيني، فهل هذا المنطق يستطيع ان يحمل اية توجه نحو حل القضايا العالقة وهو منطق بات يطالب علنا بانقلاب الفلسطينيين على انفسهم؟ ان الحال الفلسطيني اليوم يمر بأكثر المراحل حلكة في تاريخ نضاله الطويل وهذا بالطبع ينعكس على الواقع العربي المهدد اساسا ليس من اسرائيل وحدها بل من الولايات المتحدة التي تسعى جاهدة لجعل كرة الثلج تتدحرج ولا مانع عندها ان تصبح كرة (نووية) تقضي على الوجود العربي وهذه الحالة لابد انها آتية إلا اذا ادرك العرب جميعهم ابعاد ما يجري الان على الساحة الفلسطينية وتنبهوا الى أن المسألة لم تعد تعني الفلسطينيين وحدهم بل هي في واقع الأمر شأن عربي خالص محكوم بالقدرات العسكرية الهائلة للكيان الصهيوني وبالدعم الأميركي اللا محدود لهذا الكيان أمام صمت عربي اصبح في هذه المرحلة لا يجدي القضايا العربية نفعا ولا يرضي اميركا. بقلم: محمد أحمد يوسف ـ كاتب فلسطيني

Email