الملف السياسي ـ الارادة الفلسطينية أمام دبابات وجرافات العدو، المأزق الاسرائيلي: شارون وعرفات .. من يحاصر من ؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 27 رجب 1423 هـ الموافق 4 أكتوبر 2002 من الصعب تفسير السعي الاسرائيلي المحموم، لاضعاف الرئيس ياسر عرفات واقصائه، بالرغم من أنه هو الذي وقع مع الاسرائيليين على اتفاق أوسلو، المجحف بحقوق الفلسطينيين، وهو الزعيم الوحيد الذي بامكانه اقناع شعبه بالسلام مع الاسرائيليين، بسبب مكانته النضالية والرمزية، وهو القائد الأكثر برغماتية وحضورا في الساحة الفلسطينية. فما الذي يدفع اسرائيل لانهاء دور عرفات السياسي؟ وما هي حقيقة عرفات؟ وقبل الاجابة عن هذه التساؤلات حري بنا التنويه الى واقعة أساسية مفادها أن حرب اسرائيل ضد عرفات لم تبدأ بحصاره في رام الله، قبل عدة أشهر، اذ أن هذه الحرب بدأت قبيل الانتفاضة، وهذه الحرب لم يبدأها شارون وحزبه الليكود، كما يبدو للوهلة الأولى، فالذي بدأها هو باراك وحزبه العمل. والواقع فان المعركة لعزل القيادة الفلسطينية، لتسهيل الطريق أمام صعود قيادة جديدة تكون أكثر قابلية للاملاءات الاسرائيلية، بدأت بعد انهيار مفاوضات كامب ديفيد 2، التي جرت في صيف العام 2000، اذ فوجئت قيادة حزب العمل، آنذاك، برفض عرفات لما أسمته اسرائيل بأطروحات باراك «السخية» المتعلقة بالحل النهائي مع الفلسطينيين. وبدا واضحا، في حينه، أن هذا الرفض حطم الصورة النمطية التي رسمها حزب العمل للقيادة الفلسطينية، التي اعتادت على تقديم التنازل تلو التنازل لاسرائيل، تفهما منها لحساسيات اسرائيل وتفوقها. وعلى خلفية هذا الرفض شن قادة حزب العمل وميريتس مثل: باراك وبن عامي وبيريز وبن اليعازر وساريد، وخلفهم اليسار الاسرائيلي، حملة تحريض ضد عرفات بدعوى أنه فوت فرصة تاريخية كبيرة بالنسبة للسلام! وبعد اندلاع الانتفاضة ارتفعت وتيرة عداء اليسار الاسرائيلي لعرفات، الذي اعتبر مسئولا عن الانتفاضة، وتفاقم الأمر بعد الانتخابات الاسرائيلية، التي جرت في فبراير من العام 2001، والتي كانت نتيجتها سقوط باراك وحزبه العمل ونجاح شارون وحزبه الليكود، حيث اعتبر عرفات مسئولا عن ذلك أيضا! وهكذا فان حرب شارون ضد عرفات هي سياسة اسرائيلية، بدليل وجود حزب العمل في حكومة شارون، أما الجديد فيها فيتمثل بأن شارون يريد أن يذهب بها الى نهاياتها، أي ليس فقط الى حد شطب عرفات وانما الى حد تدمير الكيان الفلسطيني نهائيا وتقويض عملية التسوية برمتها. على أية حال فان اسرائيل، في حربها ضد عرفات، لم تكن مطلقة اليدين، اذ أنه ثمة حسابات داخلية وخارجية متعددة ومعقدة تقيدها، ما دفعها الى انتهاج سياسة متدرجة في صراعها معه، ففي البداية رفعت اسرائيل شعار عدم التفاوض مع عرفات في ظل العنف، وفي مرحلة أخرى شككت بسيطرته على الأوضاع في الساحة الفلسطينية، وبعد تصاعد العمليات المسلحة اتهمته بأنه يدعمها أو يشجع عليها. وعلى خلفية الهجوم الارهابي على واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر 2001 صعدت اسرائيل هجمتها على عرفات، مستغلة المناخات الدولية، اذ اعتبرت أنه لم يعد شريكا في عملية السلام واتهمته بدعم الارهاب وأنه بمثابة ابن لادن بالنسبة لها، يجب القضاء عليه بعزله واستبداله! وقد شجعها على ذلك الموقف الأميركي المتشدد من عرفات. أما مصدر العداء الاسرائيلي المزمن لعرفات، فهو ينبع، أولا، من اصرار عرفات على رفض الانصياع للاملاءات الاسرائيلية بالنسبة لقضايا الحدود والمستوطنات والقدس واللاجئين والتوقيع على اتفاق ينهي الصراع، وقد حدث هذا في كامب ديفيد2 وفي طابا (مطلع العام 2001) أيضا؛ ثانيا، اعتبار عرفات مسئولا عن ضعف الاستقرار السياسي في اسرائيل، اذ أنه منذ دخوله للأراضي المحتلة، لم تستمر حكومة اسرائيلية لكامل مدتها، وسقط عدة رؤساء حكومات وتم اغتيال رئيس وزراء هو اسحق رابين (أواخر العام 1995)؛ ثالثا، اتهام عرفات بالمراوغة والتلاعب كونه لم يبذل جهدا مناسبا لضبط الساحة الفلسطينية وقصة «الباب الدوار» معروفة، وكذلك قصص تهريب السلاح لمناطق السلطة، وهو لم يتوقف عن التصريحات التحريضية، ذات الدلالات الرمزية؛ رابعا، اعتبار عرفات مسئولا ليس فقط عن اندلاع الانتفاضة وانما عن تحولها نحو المقاومة المسلحة بدليل بروز كتائب الأقصى والعودة والأجهزة الأمنية التابعة لحركة فتح، التي يتزعمها، في هذه المقاومة، لدرجة أن الأذرع العسكرية لفتح احتلت مشهد المقاومة المسلحة منذ بداية العام 2002؛ خامسا، وأساسا فان ما يدفع اسرائيل للتخلص من عرفات هو قناعتها بأن القضاء على هذا الرجل، الذي يعتبر رمزا للوطنية الفلسطينية المعاصرة، ويحتل عدة مواقع مركزية في العمل الفلسطيني (رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وزعيم حركة فتح)، من شأنه أن يربك الساحة الفلسطينية وربما من شأنه أن يصعّب من امكانيات قيام الدولة الفلسطينية؛ ولعل هذا ما يفسر تركيز اسرائيل على عرفات برغم معرفتها مثلا أنه غير مسئول عن العمليات التي تنفذها حركة حماس. ويلخص زئيف شيف الموقف الاسرائيلي بقوله:«مجمل تصرف عرفات منذ التوقيع على اتفاقات أوسلو يبرز المطلب التالي: هو قام بتصعيد الوضع مع اسرائيل.. وهو قام بادخال بعد ديني خطير للصراع، وهو الذي سعى الى زرع الخلافات بين الأقلية العربية وبين دولة اسرائيل. وهو لا يريد ايقاف اراقة الدماء لان الارهاب يعتبر في نظره ذخرا استراتيجيا. هو لم يقم بمكافحة الارهاب ولم يعتقل من يمارسونه.. كما انه رفع بشكل مخطط توقعات اللاجئين الفلسطينيين..»(هآرتس،14 نوفمبر 2001). ويرى غيء ياخور أن عرفات:«نقل المجتمع الفلسطيني في عملية متسارعة من العسكرة، وحرض المجتمعات العربية ضد اسرائيل وحاول تخريب العلاقات الاستراتيجية بين اسرائيل ومصر والأردن..ولا يتوانى عن تحريض فئات عربية في اسرائيل ازاء الدولة، والأكثر من ذلك فقد مس عرفات وسلطته بشرعية دولة اسرائيل في العالم العربي وأوروبا».(يديعوت أحرونوت 17 نوفمبر 2001) ويعتبر أوري سمحوني أن: «عرفات هو الخطر الاستراتيجي الأكبر على دولة اسرائيل. ان استمرار وجوده يجعلنا نفقد ثلاثة انجازات استراتيجية مهمة لاسرائيل: اتفاقيات السلام مع مصر والأردن ودعم الولايات المتحدة. انه يتآمر علينا، يدفع من الأطراف ويلقى العون من الداخل، يضرب من الأعلى والبيت آخذ بالتصدع. عرفات يقاتلنا بنجاح في ملعبنا الداخلي، ويناور على الرأي العام بواسطة الاعلام الاسرائيلي..من خلال رسائل متناقضة، يتحدث معنا عن السلام ومع رجاله عن عمليات.. انه يتغلب علينا وسط الرأي العام العالمي..ومن أجل عدم الوقوع في خطأ نقول انه اذا بقي عرفات في المحيط لوقت كاف فان القتل سيصل الى كل واحد في بيته..لقد عاش عرفات أربع حكومات اسرائيلية.. انه يأكلهم بدون ملح ويؤثر على اجندة دولة اسرائيل اكثر من أي رئيس حكومة» (معاريف،3 أغسطس2001). ولكن خطورة ياسر عرفات والتباس مواقفه، خلق مأزقا لاسرائيل تجلى في الاضطراب في التعامل معه أو في كيفية التخلص منه. وفي اطار هذا الجدل المثير بدأت بعض الأوساط الأمنية والسياسية تناقش جدوى التخلص من عرفات، وايجاد بدائل له. وفي هذا السياق كشف بن كسفيت تفاصيل خطة كان قد أعدها جهاز الأمن العام في اكتوبر من العام 2000 لرئيس الحكومة الاسرائيلية السابق ايهود باراك وعاد وقدمها لأرييل شارون رئيس الحكومة الاسرائيلية. وتخلص هذه الخطة الى استنتاج ان عرفات هو الخطر الأشد على أمن الدولة، حيث أن أضرار اختفائه أقل من أضرار وجوده.. وتطرح الوثيقة سؤال: «هل عرفات هو عامل مساعد لحل النزاع التاريخي بين اسرائيل والشعب الفلسطيني، أم أن الحديث يدور عن زعيم يشكل حاجزا أمام احراز هذا الحل؟». والجواب يمتد على ثلاث صفحات: «لماذا عرفات مرغوب به؟» في الفصل الأول الذي يتضمن خمسة ادعاءات مركزية: عرفات اعترف باسرائيل وبدأ معها مفاوضات وملزم بالمسيرة السلمية ويشكل المرجعية العليا وسط الفلسطينيين، وهو الوحيد القادر على اتخاذ القرارات الصعبة، وبدونه ستسود الفوضى وسيزداد الارهاب. والفصل الثاني عنوانه «لماذا غير مرغوب به؟» يتضمن 17 سببا جيدا، أهمها: «عرفات زعيم خطير.. يقود الساحة الى شفا حرب بين اسرائيل ودول عربية.. يهدد بانهيار الذخر الاستراتيجي الأهم لاسرائيل ألا وهو السلام مع مصر والأردن.. يعرض استقرار الأنظمة المجاورة للخطر.. يواصل رؤية العنف والارهاب كأداة شرعية.. لم يستوعب حقا الاعتراف بدولة اسرائيل.. ليس لديه رغبة أو قدرة على تقديم تنازلات في مواضيع مركزية، لم يتنازل أبدا عن القدس وعن حق العودة وعلى المدى البعيد عن كل فلسطين.. عرفات ينجح في لعب لعبة مزدوجة، واقناع العالم بصدق نواياه.. يعزز عداء عرب اسرائيل تجاه دولة اسرائيل.. عرفات ما زال مقاتلا وسيتخذ قرارات غير عقلانية.. يريد أن يظهر كأب الشعب الفلسطيني.. انه زعيم غير صادق وخائن، كذاب عضال، فنان في الاعلام والدعاية ينجح في تحويل كل هزيمة الى انتصار اعلامي وكسب التأييد العالمي.. الفصل الثالث يتضمن تحليل وضع ما بعد عرفات: «في حالة اختفاء عرفات من الحلبة يعتقدون انه سينشب صراع داخلي على السيطرة. وسينشغل الفلسطينيون لفترة طويلة مع أنفسهم، من المتوقع أن تضعف مكانة القيادة الفلسطينية في العالم جدا، والزعيم الجديد سيرتبط بدعم زعماء عرب وبعض قادة العالم، والقيادة الجديدة ستكون اكثر براغماتية ومنفتحة اكثر نحو الحلول. وخطر حرب أهلية فلسطينية سيزداد، ودعم العالم للفلسطينيين سيضعف، وكذلك تأثيرهم على عرب اسرائيل».(معاريف 6 يوليو 2001) وبالطبع فان هذه الرؤية المتناقضة للتعامل مع ياسر عرفات ظلت تطبع المواقف الاسرائيلية، فهذا شيمون بيريز، ينتقد الحكومة التي يشارك فيها، بسبب حصارها لمقر عرفات ثم رفعها للحصار، بقوله: «منذ عام ونصف والوضع يزداد سوءاً، ليس للحكومة أي هدف ومن غير الواضح الى أين نحن متجهون».(29 سبتمبر) . ولكن عضو الكنيست ميخائيل كلاينر من كتلة «حيروت» الذي انتقد رفع الحصار عن عرفات، يوم 29 سبتمبر، طالب بالقضاء على عرفات نهائيا بقوله:«كان يجب تفجير المقاطعة جواً منذ وقت طويل للتخلص من عرفات والمطلوبين المتواجدين معه نهائياً؟» في حين أن اليكس فيشمان كتب مقالا، عكس ذلك، في يديعوت أحرونوت يوم 22 سبتمبر قال فيه:«المهم أن لا يمرض أو يموت فجأة وينسف لنا كل الخطط.. انتهت المرحلة الأولى من الخطوة التي تهدف الى ممارسة الضغط النفسي على عجوز عنيد من اجل اقناعه بحزم حقيبته الصغيرة والذهاب من هنا بارادته الحرة.. من الآن فصاعدا واذا عدنا الى الصور المرئية في المقاطعة، يجب توخي الحذر من اجل أن لا نعد له خروجا بطوليا ينقش كانتصار في الوعي الفلسطيني». على ذلك فقد تساءل عوفر شيلح ساخرا من سياسات شارون عما ستفعله اسرائيل في اليوم التالي لعرفات بقوله: «بين الحين والآخر، يستيقظ قادة اسرائيل، السياسيون والعسكريون، من منامهم، وهم يتصببون عرقا، بسبب ما عانوه في أسوأ كابوس. فقد اختفى ياسر عرفات من أحلامهم، تراجع ذلك الرجل الذي تغطي الشعيرات وجهه، اختفى بواسطة احدى الطرق العجيبة التي تسود في الأحلام. وفجأة، أصبح رئيس الحكومة ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش ووزير الحربية والحائز على جائزة نوبل للسلام على اسم شيمون بيريز، يواجهون الحياة بلا ياسر. كم هي رهيبة هذه الحياة، لم يعد هناك من يمكن اتهامه بكل عملية مسلحة قذرة..ولم يعد هناك من يمكن الغاء وجوده، وعزله، واخراجه وادخاله في قائمة غير ذوي الصلة. لم يعد هناك مشجب آخر يمكنهم أن يعلقوا عليه كل ذنب وخطيئة..لا يعرفون ما الذي سيفعلونه في اليوم التالي لاختفاء عرفات، ليس لديهم أي مفر الا الحفاظ عليه بقوة. انهم يلعبون أمامنا لعبة المضي حتى النهاية..ولكنهم يعرفون في قرارة نفوسهم أنه يتحتم عليهم اقامة سور واق حوله، وارسال ما يكفي من الحمص الى موقع حصاره، كي لا يضعف وزنه لا سمح الله..انهم يخشون اختفاء ياسر من حياتنا، فتتكشف في غيابه قوة تفكيرنا بكامل عريها. (يديعوت أحرونوت 23 سبتمبر 2002) وهكذا بدت اسرائيل بحصارها لعرفات كأنما تحاصر نفسها فهي وبرغم قوة دباباتها وجرافاتها بدت ضعيفة أمام ارادة الفلسطينيين، ومن جهته فانه ما كان بامكان عرفات وهو زعيم الشعب الفلسطيني وقائد كفاحه التاريخي ورمزه الوطني أن يذهب أكثر مما ذهب في التكيف مع الاملاءات الاسرائيلية، بعد أن قدم ما يمكن تقديمه لعملية التسوية في اطارها الانتقالي، لذلك فانه عندما آن أوان الحل النهائي تمسك أبو عمار بالحقوق التي أقرها المجتمع الدولي للشعب الفلسطيني. وبسبب من براغماتيته العالية وحسه التاريخي وولعه بالمراوغة السياسية لم يجد أبو عمار تناقضا، بين تكيفه مع المطالب الاسرائيلية في المرحلة الأولى (الانتقالية) وصده لها في المرحلة الثانية، بعد أن انتابه شعور بأنه نقل شعبه من مرحلة الشتات والضياع الى مرحلة الدولة، وأنه بات رقما في المعادلة الاسرائيلية الداخلية، وأنه أعاد العمل الفلسطيني الى ساحته الأساسية بنقله مؤسسات منظمة التحرير وقواتها الى الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبرغم كل الملاحظات على ادارة عرفات للوضع الداخلي الفلسطيني، فانه من الانصاف القول أيضا أن هذا الرجل، وبرغم كل الظروف الصعبة والضغوط الهائلة، ظل صامدا مسكونا بهاجس دوره التاريخي وقيمته الرمزية ومكانته في قلوب شعبه، وهذا ما جعل منه شخصية عصية على التطويع أو التنميط، لذلك لم يكن مستغربا خروج الفلسطينيين، بأطفالهم وشبابهم ونسائهم، الى الشارع بارادتهم الحرة وبصدورهم العارية متحدين دبابات الاحتلال واجراءات حظر التجول دفاعا عن رئيسهم وقائد نضالهم ودفاعا عن حريتهم وحقوقهم وكرامتهم. بقلم: ماجد كيالي ـ كاتب فلسطيني

Email