الملف السياسي ـ المنطقة العربية تتعرض لحرب نفسية شرسة، اسرائيل تحاول فرض عقلية الحصار على صانع القرار العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 27 رجب 1423 هـ الموافق 4 أكتوبر 2002 تثير الاجراءات الاخيرة التي اتخذتها السلطات الاسرائيلية بفرض الحصار على الرئيس ياسر عرفات العديد من التساؤلات التي تدور حول الهدف من فرض الحصار على الرئيس الفلسطيني، والى أي حد يأتي هذا الاجراء في نطاق ماتشهده المنطقة من ضغوط أميركية بهدف اعادة رسم خريطة المنطقة، وما إذا كان هذا الاجراء يأتي في سياق السياسة الأميركية التي تحاول في بعض الأحيان الربط بين الملف العراقي والملف الفلسطيني، بفرض تحقيق أهداف تكتيكية معينة في اطار استراتيجيتها في المنطقة. وسنحاول في هذا المقال تناول الاحتمالات المختلفة لتفسير هذا الاجراء في محاولة للكشف عن أهدافه. أولا - قد يكون فرض الحصار على الرئيس عرفات بهدف التعرف على ردود الفعل العربية تجاه هذا الحصار مقارنة بردود الفعل عن الحصار السابق، وذلك للتأكد من ان العرب قد تكيفوا مع السياسة الاسرائيلية الرامية الى القضاء على السلطة الوطنية الفلسطينية، وعندما ننظر الى ردود الفعل العربية في هذا الصدد، سنجد أن انفعال الشارع السياسي العربي بهذا الحصار الجديد كان محدودا مقارنة بالتجربة السابقة الا أن المفاجأة التي اسفر عنها هذا الاجراء الاخير، جاءت من الداخل الفلسطيني، حيث تضامن الشعب الفلسطيني في الاراضي الفلسطينية المحتلة مع قيادته الوطنية ممثلة في الرئيس عرفات، فخرجت المظاهرات الشعبية المؤيدة لعرفات، الأمر الذي رآه العديد من المحللين انه يمثل استفتاء مبكرا على قيادة ياسر عرفات، تلك القيادة التي حاولت اسرائيل والولايات المتحدة التشكيك فيها خلال الأشهر الأخيرة، ومن ثم وفر الحصار الجديد على عرفات المزيد من الشرعية الديمقراطية لقيادته للشعب الفلسطيني وهو مايعد بمثابة رفض شعبي واضح على محاولات شارون والادارة الأميركية فرض قيادة بديلة لعرفات على الشعب الفلسطيني وهو مايؤكد الرؤية العربية التي عبر عنها المسئولون العرب للادارة الأميركية من قبل، والتي تتمثل في أن التغيير السياسي الداخلي هو مسئولية الشعوب العربية، التي لا تقبل بفرض التغيير من الخارج، ومن ثم فالحصار الجديد وان كان قد أوضح ان هناك انخفاضا في درجة رد الفعل الشعبي العربي مقارنة بالحصار السابق: الا انه أدى الى ازدياد قوة وشرعية الرئيس عرفات على المستوى الفلسطيني، كما أنه أوضح بما لا يقبل أي قدر من الشك لكافة القوى السياسية الفلسطينية والشخصيات السياسية الفلسطينية، أنه مهما كانت المرونة التي يمكن لأي من هذه القوى أو الشخصيات ابداؤها في التعامل مع اسرائيل، فإنها لن تكون ذات مردود ايجابي، خاصة وان ياسر عرفات قدم الكثير في هذا الشأن ومع ذلك فإنه يتعرض للحصار وللضغوط الشديدة من أجل المزيد وهو ما لا يملك تقديمه، بل ولا تستطيع، وقد لا تستطيع أي قيادة بديلة تقديمه. ثانيا - قد يكون الهدف من فرض الحصار على الرئيس عرفات هو استعراض القوة الاسرائيلية من اجل تعميق الأحساس بالهزيمة لدى الشعب الفلسطيني واظهار الضعف العربي، وعدم القدرة العربية على تقديم أي نوع من الدعم والعون للشعب الفلسطيني في محنته الراهنة، خاصة بعد الصاق تهمة دعم الارهاب لأي جهود عربية تبذل لتقديم المساعدات الانسانية للشعب الفلسطيني، والهدف البعيد الأمد هو كسر ارادة المقاومة والنضال لدى الشعب الفلسطيني، خاصة وان هذا الحصار يأتي مع دخول الانتفاضة عامها الثالث واستمرار اصرار بعض القوى الفلسطينية على مواصلة الانتفاضة والمقاومة، بالرغم من الظروف البالغة الصعوبة المحيطة بقوى المقاومة، والواقع ان استمرار وقوع العمليات الفدائية وان كان بشكل أقل حدة، هو دليل ذو أهمية استراتيجية في هذه المرحلة من مراحل نضال الشعب الفلسطيني، اذ انه يحمل في طياته اشارة واضحة الى ان المحتل الاسرائيلي لن يتمتع بالأمن مهما بلغت قوته وسطوته، وان لهذه القوة سقفا لا يمكن ان تتعداه، فحتى في ظل معادلة القوة الحالية، فإن اسرائيل لم تستطع منع اعمال المقاومة، التي تتحين الفرصة لتوجيه ضرباتها المقلقة للمؤسسة العسكرية الاسرائيلية، المدججة بأحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا المتطورة. ثالثا ـ يمكن تفسير هذا الحصار في اطار قيام اسرائيل بدور في سياق الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، فقيام اسرائيل في هذا الوقت بهذا العمل، سوف يثير الدول العربية ويوجه احزابها صوب الملف الفلسطيني، وبالتالي ستلجأ الى الولايات المتحدة من أجل حل هذه الأزمة، ويمكن ان تقدم بعض التنازلات للولايات المتحدة فيما يتعلق بملف الازمة العراقية القائمة الآن أو من ثم فهذا الحصار يساعد على توفير آليات الضغط الأميركي على الدول العربية بخصوص الملف العراقي، الا ان الملاحظ ان الدول العربية قد لجأت الى مجلس الأمن، الذي أصدر قرارا يطالب اسرائيل برفع الحصار عن الرئيس عرفات، وامتنعت الولايات المتحدة عن التصويت بعد ان اشترطت الا يتضمن القرار أي ادانة مباشرة أو غير مباشرة، والقرار الذي صدر لا يمثل أي ضغط على اسرائيل اذ صدر طبقا لاحكام الفصل السادس من الميثاق الأممي، ومن ثم فإنه لا يتضمن أي آليات ملزمة لاسرائيل لتنفيذه وهو ماحدث بالفعل، اذ رفضت اسرائيل الالتزام بهذا القرار، وجاء الموقف الأميركي باهتا واهنا لا يساوي قيمة الورق الذي كتب عليه. رابعا - من ناحية أخرى يمكن تفسير هذا الحصار على الرئيس عرفات بأنه يأتي في اطار هدف استراتيجي للسياسة الاسرائيلية وهو فرض عقلية الحصار على صانع القرار السياسي العربي، وتضييق هامش الحركة والمناورة امامه باستمرار، ومن ثم فإن كان أبوعمار يتعرض للحصار بشكل مادي ملموس، الا ان الاخطر هو ان مراكز صنع القرار العربي أخرى محاصرة بشكل أو بآخر، والهدف من فرض عقلية الحصار على الجانب العربي، هو اشعاره بالعجز وعدم القدرة على الفعل أو رد الفعل، تمهيدا للاعتراف بالهزيمة، وتقبل مالم يكن من الممكن تقبله، وبحيث يكون الحصار هو المبرر في فعل مالا يجب فعله، أو ما كان لا يتصور من قبل امكانية فعله، كما ان الهدف من فرض عقلية الحصار على العرب، هو دفعهم لاتخاذ قرار معين، أو القيام بسلوك معين، يزيد من شدة الضغوط التي يعاني منها العرب، وبما يتيح الفرصة لتوجيه ضربة بالغة الاثر من جانب اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، ويبدو ان اسرائيل والولايات المتحدة تريد تحقيق هذه الأهداف دفعة واحدة ومن ثم فإن السؤال الآن يدور حول الأسس التي يجب اخذها في الاعتبار في التعامل العربي مع هذه الأزمة البالغة التعقيد، وفي هذا الصدد يمكن ان نشير الى مايلي: أ) إن أولى الخطوات للخروج من دائرة هذا الحصار هو التخلص من عقلية الحصار التي تريد اسرائيل والولايات المتحدة فرضها على العرب حكاما وشعوبا، مستخدمة في ذلك شتى أساليب الضغط المادي والمعنوي، بحيث اننا نستطيع القول ان المنطقة العربية تتعرض اليوم لحرب نفسية شرسة من أجل زرع الهزيمة في العقول والنفوس. ب) على العرب أن يدركوا ان مايحدث الآن على أرض الواقع ليس نهاية الصراع، بل هو مرحلة من مراحله، بل ان شارون نفسه يدرك هذا، فأحد عناصر مشروعه هو المدى الزمني الطويل لانهاء الصراع. ج) ان ماتقوم به اسرائيل اليوم من عمليات عسكرية، تسخدم فيها أحدث ماهو موجود من تكنولوجيا السلاح في الترسانة الأميركية انما هي عمليات موجهة ضد مدنيين لا يملكون سلاحا، وان امتلك البعض سلاحا، فهو لا يعدو أن يكون سلاحا خفيفا، ومن ثم فنتائج العمليات العسكرية الاسرائيلية لا تعني ان الجيش الاسرائيلي جيش لا يقهر، بل ان نتائج المواجهات مع الشعب الفلسطيني الأعزل تؤكد هذا، وما بطولات جنين ونابلس الا دليل على ذلك. د) ان أزمة الحصار أوضحت لمن يريد ان لا يفهم، مدى الترابط بين مصير الاقطار العربية، والتشابك في المصالح والمشاعر بل ان العدو يدرك هذا ويحاول الربط بين الملفات العربية في اطار حملته الشرسة على العرب من اجل تحقيق مصالحه وأهدافه. ه) إن هناك أمما اخرى قد تعرضت لمواقف مشابهة، واستطاعت ان تخرج منها قوية قادرة، ألمانيا، فرنسا، الصين، اليابان، نماذج واضحة في هذا المجال، يتعين علينا الرجوع الى تجاربها والاستفادة منها في التعامل مع الازمة الراهنة، كما ان هذه ليست المرة الاولى التي تتعرض فيها الأمة العربية عبر تاريخها الطويل لمثل هذا الموقف، ومن ثم يجب الرجوع الى هذه التجارب لاستخلاص الدروس منها. وأخيرا فإن الأزمة التي تعيشها الامة العربية، قد كشفت عن أوجه ضعف وقصور على المستوى القطري والقومي، يمكن علاجها اذا ماأردنا الخروج من نفق الحصار، ومن ثم فأوجه الضعف والقصور ليست من النوع المستحيل علاجه، كما يحاول البعض الترويج له في نفوس الأمة في اطار الحملة النفسية التي تشنها اسرائيل والولايات المتحدة على العرب. ويبقى ان نشير الى أن هذه الأزمة ربما تكون نقطة انطلاق جديدة لغد أفضل، اذا ماأدرك صانع القرار العربي ان المدخل لفك الحصار المفروض على القرار العربي، هو العودة الى الشعب والأمة وتوسيع دائرة المشاركة في صنع القرار، ولله في خلقه شئون! بقلم: د.محمد سعد أبوعامود ـ استاذ العلوم السياسية ـ جامعة حلوان

Email