الملف السياسي ـ حصار مقر عرفات فجر الوضع الفلسطيني، محاولات صياغة قيادة بديلة تصطدم بالمعارضة الشعبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 27 رجب 1423 هـ الموافق 4 أكتوبر 2002 في مقال كتبته الكاتبة اليمينية «أمونه أمون» ونشرته صحيفة «يديعوت احرونوت» الصهيونية تحت عنوان «صوت يبشر بالهدوء» الاربعاء 25 من هذا الشهر، اظهرت بوضوح كما غيرها الكثيرون من غلاة اليمين، كم هي العقلية العبرية آخذة في الهرولة المذعورة نحو ارتقاء قمة هرم العنف والتطرف مستخدمة كل الوسائل وفي مقدمتها وسيلة التخلي عن القيم!! وقد برز التخلي بوضوح «كشمس النهار» في قولها (... بعد 2-3 اتفاقيات سلام تحولت المقاطعة في رام الله الى حصن منيع لياسر عرفات وسلطته الارهابية). (... كان يجب على السلطة العسكرية الاسرائيلية في رام الله ان تنتهي في كل الاحوال، ولكن ليس من خلال تحويل منطقة عسكرية اسرائيلية الى منطقة عسكرية فلسطينية: قيادة رئيسية لعرفات في حربه من اجل القضاء على اسرائيل). وتخلص أمونه الى القول... (من يدعي ان العملية في المقاطعة ليست سوى عملية استعراضية عديمة المعنى لا يفهم ما يشعر به جموع المخربين الفلسطينيين عندما يشاهدون دماء قيادة زعيمهم، ومن يتهم الحكومة بأن استخدام الجرافات ضد موقع عرفات يورط اسرائيل، ولا يمنع الارهاب ينسى منبع دوافع الارهاب من بدايتها). ... من المهم جداً ردع المخربين المحتملين من خلال نسف منازل المخربين القائمين وابعاد افراد عائلاتهم، ولكن لا تكفي هذه الخطوات لوقف الارهاب على المستوى الوطني الفلسطيني، فقط عملية تدمير المقاطعة من شأنها ان توضح للفلسطينيين بأن زعيمهم مني بهزيمة ماحقة في المعركة، ويجسد لهم هزيمة الارهاب امام جيش دولة اسرائيل وأمام قوة صمود مواطنيها!!. ... وبناء عليه أقول: لقد كشفت هذه الكاتبة ـ وهي عينة ـ كم ان السياسة الاسرائيلية قد اتخذت مساراً حلزونياً هابطاً وانحدرت لحد كبير لدى صناع القرار في جميع الحقب، وتجلت في عدم قدرة القادة الاسرائيليين في التصرف حيال الازمات دون الوقوع في دوامة الاخطاء، مما يعني عقم التأسيس الايديولوجي لهم عبر حقبات متلاحقة مما اكسبهم نمواً متلاحقاً للنزعة السادية المصحوبة بالعنجهية!؟ فلقد انفلتت اسرائيل من عقال الاخلاقيات الدولية وجاست في الديار الفلسطينية عبثاً لتفوق حد الغطرسة بما يتعذر وصفه؟؟ لقد كشفت لنا أحداث اجتياح الاراضي الفلسطينية ودك مباني المقاطعة، وقصف منازل الفلسطينيين وقتل الابرياء، الوجه الكالح لاسرائيل التي تحاول تغيير معالم الوطن وديمغرافيته ورسمها بريشة صهيونية، منطلقة بشكل اخرق مرعب لتحقيق احلام الصهيونية بالقوة والقسر بهدف الامساك بتلابيب الوطن والمواطن واخضاعهم لمنظومة سياسة صهيونية تتوافق مع سياستها الكولونيالية ضمن افتراضات عجفاء تتنافى مع معتقدات ملايين الفلسطينيين، وقد فشلت في الحقب الغابرة وما زال غبار هزيمتها عالقاً على نواصي روادها المهزومين من روابط قرى وعملاء سياسيين. فمنذ ان اعتلى شارون سدة الحكم في الدولة العبرية اطل ببرنامج مفعم بالتطرف ويعج بمعاول الهدم الناوية هدم كل ما تم بناؤه على الرغم من ضآلته. ذلك البرنامج الذي يتضافر مع طموحات المتطرفين اليهود والذي لا يمكن ان يأتي اعتباطاً، بل جاء نتاجاً لحقب زمانية طويلة ترعرع فيها جيل كامل من المتطرفين الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر اعتلاء شارون لسدة الحكم. وهكذا كان.. ففي أول تصريحاته وعد شارون ابناء جلدته في الدولة العبرية بأنه سينهي الانتفاضة ويعيد الأمن ـ المزعوم ـ خلال مدة مئة يوم.. وبهذا فقد كال اول لطمة للجهود السلمية، واعرب صراحة عن نهجه العدائي ضد الفلسطينيين، فبدلاً من ان يعد شعبه بأنه سينهي حالة الصراع من خلال اعتراف بالحق الفلسطيني واعادته بل وعدهم بأنه سيعيد لهم الأمن من خلال سحق المنتفضين متجاهلاً لحقوقهم!! فكم كان حرياً به ان يبحث عن دواعي اندلاع الانتفاضة وليس عن سبل سحقها. وعليه فقد شرع في شطب كل الاتفاقات المبرمة بين اسرائيل والفلسطينيين غير آبه بمواقف الشرعية الدولية او ما يترتب عن مثل هذه السياسة الخرقاء، فأمعن في مصادرة الارض وتدمير البنية التحتية واقتلاع الاشجار وهدم البيوت كمقدمة لقتل المواطنين ومن ثم اجتياح مناطق السيادة الفلسطينية وصولاً الى رأس الهرم حيث مقر القيادة الفلسطينية الشرعية، ظناً منه ان مثل هذه الاجراءات الممنهجة قد تسهم في تحقيق الامن للاسرائيليين، وتكون اساساً لتحقيق السلام. ولكن الحقيقة تقول عكس ذلك، فلقد أدرك الفلاسفة السيكلوجيون اليهود المتبحرين في علم فن الممكن والمدركين لكنه الصراع الدامي الممتد عبر ما يربو على النصف قرن، أدركوا فحوى الولوج في دهاليز نمط السلوك النضالي الوطني الفلسطيني الذي وضع لبن نضاله من تعاليم وطنية، وتربية كفاحية جعلت من الاصرار على استعادة الحق نمطا ايديولوجيا لا مجال للجنوح عنه. لذا فقد جوبهت سياسة شارون ـ سياسة القدم الواحدة ـ بعقبة النضال الفلسطيني الكأداء التي يصعب تفتيتها مما اصابه بحالة من الانتشار العقلي الناتج عن فكر ممغنط لا ينسجم مع العمق الروحي لكينونة الانسان المتمثلة ب«الانسان» الفرد الذي يعتبر نواة «الكل» الذي يشكل المجتمع والذي هو بدوره جزء منه «كل» اضافة لكونه «كل» لمجموعة اجزاء!! وعليه فالانشطار الذي اصابه قد يفضي الى التجزئة وقد يكون انشطارا متماسكا يعني ـ انفطاراً ـ وهو المرض العقلي والروحي الذي يسمى ـ الشرخ ـ وقد احال هذا المرض شارون وساسته الى اشخاص ذوي طباع سوداوية قادتهم الى اسوأ حالات المرض تفاقما حيث وصلوا على السادية ببراعة!؟ وهذه الحالة ـ الشرخ السادي ـ خلق حالات من التخبط تمثلت اضافة لما ذكرت، بالآتي: حملة التحريض الدولي شنت اسرائيل حملة تحريض دولية ضد الشعب الفلسطيني استطاعت من خلالها ايجاد حالة من الاصطفاف الدولي خلف مشروعها الكولونيالي تحت شعار مكافحة الارهاب مستغلة احداث 11 سبتمبر، الامر الذي انعكس سلبا على منطقة الشرق ليجرف في موجته العاتية دولا عربية لا يمكن لها ان تشيح بالوجه ولو لوهلة عن أميركا التي اثقلت كاهلها بالديون المادية والمعنوية، وبهذا وصمت النضال الفلسطيني بالارهاب توطئة لضربة بحجمه اجتثاث الارهاب وهذا خلق وجهات نظر ورؤى متباينة على الصعيد الدولي والصعيد العربي والصعيد الفلسطيني في تفسير وتبرير مشروعية وجدوى نمط النضال الفلسطيني ـ العسكري خاصة ـ مما فتح الابواب على مصاريعها أمام الفهم العولمي للتمييز ما بين النضال المشروع، وما بين الارهاب الممنوع، في حالة من الاسفاف المدقعع في قراءة التاريخ، وطمس للمقدرات المشروعة والقابلة للاستنهاض لدى الدول كما هو الحال في العراق. سبر الغور إثر الخطوة الاولى شرعت قوات الاحتلال بعمليات توغل محدودة لمناطق السيادة الفلسطينية في محاولة منها لسبر غور ردود الفعل الفلسطينية ومدى القدرة القتالية والجاهزية، تمهيداً للخطوة التالية وهي الاجتياح وقد كانت تتعمد المكوث في الاماكن التي تحتلها الى حين وذلك بهدف معرفة التغيرات التي طرأت على كنه القتال الفلسطيني وهل مست الجوهر أم هي في عداد القشرية على الصعيد العسكري. أما على الصعيد الشعبي فهل هناك لقاء ما بين السلطة والشعب على أرض المعركة أم لا، وصولا الى المرحلة الثالثة: ممارسة الاغتيالات وبدأت عملية اغتيال القادة من الصفوف الأولى والثانية اضافة الى القادة الميدانيين ولم تستثن من ذلك القادة السياسيين، وهذا بهدف ايجاد حالة من الارباك في الصفوف اضافة الى ايجاد فجوات زمنية ما بين القائد والمقود، بهدف اطالة حالة الصراع ما بين نزيلين غير متكافئين، ناسية ان مجموعة ما ظفرت به الجماهير الفلسطينية من ظفر تراكمي في ظل مواجهة احدى القوى العسكرية العظمى عالميا قد اتاح لها امتلاك الوريد النضالي على الرغم من عدم امتلاكها العضلة العسكرية. وهذا بدوره قاد الى الخطأ التخبطي الفادح الاخير وهو الاعلان صراحة عن شطب اتفاقات اوسلو وكل الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين كمقدمة لتجريد القيادة الفلسطينية والسلطة من شرعيتها وحقها في قيادة الشعب الفلسطيني الأمر الذي يبرر ضربها خاصة بعد اختلاق الذرائع الارهابية وافتعالها واقرانها بالسلطة الفلسطينية. هذا ناهيك عن تهيئة الاجواء والمناخات السياسية من خلال ايجاد شخصيات منتفعة من البرنامج السياسي الامبريالي الصهيوني في المنطقة وتهيئتها لتسلم زمام السلطة إثر الاطاحة بالقيادة الحالية ورمزها الرئيس ابوعمار الامر الذي جوبه بقضية جماهيرية فلسطينية في كل الوطن واماكن الشتات والتي عنت ان لا بديل عن ياسر عرفات رمز النضال الوطني الفلسطيني، وان لا مكان لبديل ايا كان وان اي صياغة للقيادة الفلسطينية اسرائيليا كانت أم اميركيا ام عربيا فمصيرها الى متحف العاديات حيث ينبغي ان تكون الى جانب الشمعدان والفأس البرونزية. وما لجوء اسرائيل الى عملية تجفيف ياسر عرفات، وايجاد بدائل تفرضها على الشعب الفلسطيني إلا حالات من التخبط السياسي المرغوب، وانها لن تساهم اطلاقا في تحقيق الحلم الصهيوني بل انها تعزز الاصرار الفلسطيني على الاستمرار في انتفاضته، تلك الانتفاضة التي احدثت نقلة نوعية في تاريخ الشعب الفلسطيني عبر سنوات نضاله الطويلة مما جعل القضية ترتقي الى قمة هرم اولويات الهموم السياسية العالمية والتي يعبر الشعب الفلسطيني بها ومن خلالها عن عدم موت الحق بالتقادم ويعيد للاذهان ملكتي «الحس القومي» و«الانتماء الوطني» عبر اداء نضالي مميز تجاوز حدود الصمود، موضحا للعالم بأرادة صادقة وتصميم على السير حتى الهدف ان الانتفاضة ليست نزوة عابرة او عملا ارهابيا، وان «ياسر عرفات ليس مسافرا وأن فلسطين ليست حقيبة». بقلم: محمد الخطيب ـ كاتب فلسطيني

Email