الدكتور عبد الرحمن عرنوس أحد المبدعين من ابناء ثورة يوليو، هو مؤلف تلقائي ومخرج مسرحي على مدار خمسين عاما، أنتج خلالها ما يزيد على مئتي أغنية وطنية وعشرات التجارب المسرحية، نذكر منها «مسرح المقهى» و«مسرح العربة» و«مسرح الشارع» ،ويعترف د. عرنوس صاحب إنشودة الوداع «يا جمال يا حبيب الملايين» في أوراقه الخاصة أنه لولا ثورة يوليو ما تغير مستقبله من مدرس إبتدائي إلى فنان قدير وأستاذ للتمثيل والإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ولولا الثورة ما إستطاع أن ينتج هذا الكم الهائل من الأغنيات الوطنية التي ألهبت مشاعر الجماهير في زمن النضال ولولاها ما تجرأ على إقتحام مجال التجريب في المسرح سابقا عصره وجيله. ـ سألنا د. عرنوس ابن مدينة بورسعيد بداية عن ذكرياته مع ثورة يوليو بعد مرور نصف قرن على قيامها فقال: ــ أولا لابد قبل الحديث عن ثورة يوليو أن أتكلم عن «بورسعيد» قبل قيام الثورة لأن هذه المدينة بالذات كانت لها طبيعة خاصة بورسعيد في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي كانت تعاني من إزدواجية الشخصية نظرا للتواجد الأجنبي الكثيف بها ولذلك وجد هناك ما يسمى بالحي الأفرنجي ونشأ في المقابل ما أطلق عليه «حي العرب»، وكانت هذه الإزدواجية تظهر بشدة في الإحتفالات الكبرى فكان يوم 14 يوليو عيدا فرنسيا احتفالا بالقناة فتتحول الشوارع إلى مهرجانات وكان يوم الأحد من كل أسبوع يشهد احتفالات مختلفة على مستوى الطوائف الأجنبية تستخدم فيها الآلات الغربية مثل البيانو والأوكورديون، لذلك كان لابد أن يظهر في المقابل تيار يتمسك بالشخصية المصرية ويبرز هويتها أمام المستعمر فكانت الاحتفالات الدينية أول ما توجه إليه الحي الشعبي فانتعشت المدائح والأغنيات الدينية في إحتفالات رؤية هلال رمضان ووداع وإستقبال الحجاج فيما يسمى بـ «التبريزة» والمولد النبوي وعاشوراء وظهرت آلة السمسمية في مواجهة البيانو والأكورديون وظهر في حي العرب وحي المناخ فتوات لمعت اسماؤهم مثل أبو دنيا وأبو رفاي وكانت هذه النماذج تمثل القوة الشعبية في مواجهة القوة العسكرية المتمثلة في الإحتلال، هذه الإرهاصات وهذا الإحساس الوطني والإهتمام بالشخصية المصرية الذي تولد ونما قبل الثورة كان كفيلا بأن تجد الثورة تأييدا لا حدود له بين أبناء بورسعيد، فقد وجدوا فيها القوة التي كانوا يحلمون بها والخلاص من سيطرة الاجانب على مدينتهم وفرصة للقضاء على الازدواجية التي عانوا منها عشرات السنين. ويكفي أن الثورة انهت التواجد الاجنبي في بورسعيد واحكمت السيطرة تماما على قناة السويس بعد قرار التأميم ولكن لا ننسى ان الثورة اعطت اهتماما خاصا بالفئة الشعبية الفقيرة في بورسعيد واعادت بناء وتخطيط حي المناخ وعزبة أبورفاعي وانشأت مساكن شعبية مقسمة على سبع مناطق فلم يعد هناك خوف من انهيار المساكن الخشبية وحصل معظم الأهالي على مساكن جديدة. ـ كيف عبر الفن الشعبي في بورسعيد عن ثورة يوليو؟ ــ قلت ان الوجدان الشعبي في بورسعيد كان حريصا قبل الثورة على التأكيد على الشخصية المصرية وكان ينتظر التأكيد عليها أكثر فجاءت الثورة لتحقق هذا الحلم وبالتالي ازداد الحماس في الاغاني الشعبية لتصبح كلها اغان وطنية كانت «السمسمية» هي الوسيلة الأولى للتعبير عن فرحة أهالي بورسعيد بالثورة وبعد أن كان التركيز على الموشحات والاغاني الخفيفة في حفلات الضمة «التي تضم الأصدقاء» وفي حفلات الزواج والسبوع تسيدت الأغنية الوطنية حتى في هذه الحفلات كان لابد أن يكون للأغنية الوطنية نصيب للتعبير عن الفرحة وظهرت فرقة باسم فرقة «الضمة» كان اعضاؤها نجوم في بورسعيد كلها منهم محمد أبو يوسف مؤلف الأغاني والمطربون أحمد كنش ووليم وكوثر عازف «السمسمية» كمال عضمة ومحمد عبدالعال وأذكر احدى اغنياتهم الشهيرة كانت تقول: «في بورسعيد الوطنية شباب مقاومة شعبية حاربوا بشهامة ووطنية وحاربوا جيش الاحتلال مبروك ياجمال» المسرح ايضا انتعش بقيام الثورة وخاصة بعد بناء مسرح بورسعيد الصيفي وساحة الاحتفالات الكبرى التي كان يخطب فيها الزعيم جمال عبدالناصر عند زيارته لبورسعيد وأذكر أن الحركة المسرحية كانت متوهجة وشديدة الحماس في تعبيرها عن الثورة منها ضياء بحر الجميل و«شاطئ الزيتون» و«القتال الدامي» وكان لهيئة التحرير والاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي دورا كبيرا في دعم النشاط المسرحي على كافة المستويات في بورسعيد سواء التابع للثقافة الجماهيرية أو في المدارس ونادي المسرح. الشعب البورسعيدي معروف عنه الكفاح على مدار حياته وكلمة فدائي كانت مرتبطة ارتبطا وثيقا بالمواطن البورسعيدي الذي كافح ضد الاستعمار قبل الثورة وازداد كفاحه بعد الثورة في عدوان 1956 ونكسة 1967 وكانت هناك رموز لهذا الكفاح أذكر منها البطل محمد حمد الله السباح الدولي الشهير الذي اختطف الضابط الانجليزي مورهاوس ابن عمة ملكة انجلترا عام 1956 ومجموعة محمد هلال الفدائية والبطل البورسعيدي عسران الذي اغتال وليامز قائد المخابرات الانجليزية الذي اشعل النيران في المعسكر الانجليزي، أليست هذه بطولات كتبت بحروف من نور قصص كفاح لأهالي بورسعيد هل يتذكر الناس أن أهالي بورسعيد كانوا يحملون الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بسيارته من شدة حبهم له. قدمت تجارب هامة اذكر منها «مسرح المقهى» الذي قدمت من خلاله بمقاهي استرا وسوق الحميدية مسرحيات قصيرة مثل عوضين وماالذي حدث في الصالة و«الفخ» وهذه التجربة مؤرخة في كتاب للمستشرق ادوارلين وقدمت مسرح العربة قدمت من خلاله عروضاً على سيارة نقل في مواقع مختلفة بالقاهرة والاقاليم، والمقهى الثقافي الذي كان بمثابة مؤسسة ثقافية متكاملة لكنها لا تخضع لأي سلطة وقد استعارت الفكرة الهيئة العامة للكتاب وطبقتها في معرض الكتاب كل عام وقدمت مسرح البواخر في البدايات ببورسعيد ومسرح الصيادين ومسرح الشارع وفي مجال الأغنية كانت الثورة هي المحرك الأول لموهبتي في التأليف فكتبت اغنيات كثيرة تزيد على مئتي أغنية كلها وطنية وعقب نكسة 1967 اسست فرقتي شباب البحر وأولاد الأرض وكان الهدف هو التغلب على المحنة واشعال حماس جنودنا واحياء روح البطولة من جديد وكانت فرقة شباب البحر التي هاجرت معي الى القاهرة بعد نكسة 67 هي التي قادت الشعب في جنازة الزعيم جمال عبدالناصر عام 1970 ورددت أنشودة الوداع ياجمال ياحبيب الملايين.. ثورتك ثورة كفاح عشتها طوال السنين.. انت عايش في قلوبنا ياجمال الملايين..