50 عاماً على ثورة يوليو ، أحمد سعيد مذيع الثورة الذي اختفى بانكسارها: عبدالناصر ليس فعلاً ماضياً وإنما رمز دائم للأحلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم وفاته منذ اثنين وثلاثين عاما وتصفية أهم منجزاته وتضخيم اعدائه لانكساراته يثير دائما جنون البعض سؤال: لماذا يتم رفع صور عبدالناصر وحده في كل مظاهرات العرب سنة 2002؟ أحمد سعيد مذيع الثورة الأشهر يجيب عن سؤال خصوم العروبة في هذه الرؤية التي قدمها الرجل ضمن تسجيل طويل لاحدى القنوات الفضائية العربية ولم يذع وخص بها «البيان» في الذكرى الخمسين لثورة يوليو 1952: كان احمد سعيد شابا في الاذاعة المصرية أحتجت حكومة الاحتلال البريطاني على أول برامجه في الاذاعة (تسقط معاهدة 36) والذي دعا فيه من خلال تحقيق واستفتاء الى الغاء المعاهدة المصرية البريطانية قبل أن تلغيها حكومة الوفد بعشرة أيام كاملة تحت ضغط الشعب واصراره العنيد، ثم طاردته القوات البريطانية على امتداد قناة السويس ومعسكرات الاحتلال في محافظة الشرقية عندما التحق بالفدائيين المصريين كمراسل للاذاعة المصرية يسجل صور كفاحهم ومعاركهم ضد المعسكرات البريطانية، وقبل أن تقوم الثورة بشهرين اثنين استدعى من اجازة اجبارية فرضتها عليه وعلى نفر من الاذاعيين الاحرار حكومات ما بعد حريق القاهرة ليتولى بالاسم اعداد وتقديم برنامج اذاعي باسم (ركن الجيش) حيث اتيحت له في غزة والعريش وبعض وحدات القوات المسلحة مجالسة عبدالناصر وصلاح سالم وأنور السادات في غزة والعريش ومحاورة كمال الدين حسين وزكريا محيى الدين.. ولم تمض شهور قليلة على بدء تعليقات أحمد سعيد في (صوت العرب) حتى فوجئ صلاح سالم عضو مجلس الثورة ووزير الارشاد (الاعلام) خلال رحلة له مع مراسلين عالميين الى اليمن سنة 1954 بأن بدو الجبال في اليمن وجنوب الجزيرة العربية يطلقون على جهاز الراديو اسم (صندوق أحمد سعيد) ويطبعون صورته مع صورة الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر على كراريس تلاميذ المدارس في عدن، وهو الامر الذي جعل صلاح سالم يستصدر من مجلس الثورة قرارا عاجلا بزيادة فورية لميزانية الاذاعة. ـ في البدء حمل عبدالناصر بثورة يوليو عبء تحرير وطن العرب واسترداد شعوبهم لثرواتها وتوحيد كامل بلادها®. فكيف حدث هذا العجز العربي الذي يعتبر بجميع المقاييس ردة اجتاحت الوطن كله؟ ـ يجب الاقرار أولا بحقيقة ما شهدته المنطقة العربية في حياة عبدالناصر منذ اندفعت بمصر في حمل أماناتها القومية®. فهناك الدعم اللامحدود لثورات تونس والمغرب ثم الجزائر حتى نالت الشعوب الثلاثة كامل استقلالها وبعد أن تعرضت مصر لعدوان ثلاثي سنة 1956 اشتركت فيه فرنسا لاسقاط نظام عبدالناصر حتى يتوقف دعم مصر لثورة الجزائر بالذات®. وهناك وحدة سوريا ومصر في الجمهورية العربية المتحدة سنة 1958، كذلك تأميم عبدالناصر لقناة السويس والذي شجع العرب على استرداد ثرواتهم البترولية من الاحتكار الأجنبي لآبار البترول، ومحاصرة حلف بغداد حتى قضت عليه ثورة العراق، بالاضافة الى ثورة اليمن وتحرير جنوب الجزيرة وادخالهما القرن العشرين. كل هذه الانتصارات التي بقيت رغم هزيمة يونيو 1967 عنوان على صلابة ثورة يوليو وصدمة سياسات عبدالناصر والتي جسدت عظمة ايمان الجماهير بزعامته يوم تنحى عن الحكم ويوم ذهب الى مؤتمر الخرطوم بعد هزيمة يونيو ثم يوم ان مات وخرجت جنازات له في جميع مدن وقرى الوطن من الخليج الى المحيط®. وأخيرا ودائما ما نراه في اخبار جميع قنوات التلفزيون العربية والاجنبية من صوره التي ترفعها الجماهير في مظاهراتها المعاصرة بعد أكثر من ثلاثين عاما من وفاته هاتفة بحكام اليوم ان كونوا مثل هذا الزعيم البطل في صدق نضاله وعظمة صموده واصراره على الحق العربي®. أما ما يبدو اليوم من عجز عربي مناقض تماما لانتصارات يوليو عبدالناصر فهذا أمر يسأل عنه الحكام العرب سواء الذين تخلوا عن النضال وحقوق شعوبهم وكرامتها حفاظا على عروشهم واسلابهم أو أولئك الذين تآمروا على وحدة سوريا ومصر مثلا. ـ عبدالناصر اذن كان اقرب في المفهوم المعاصر بالإنسان المتميز®. أعني بالتسمية الغربية (سوبرمان)؟ ـ أولا عبدالناصر لن يسجل في التاريخ مصحوبا بالفعل الماضي - كان - فأمثاله من القيادات يبقون رمزا دائما لأحلام الناس. أما وصفك له بالسوبرمان وهي تعني انه انسان متميز عن سواد الناس فهذه صفة ينعت بها القادة والزعماء والابطال وقد كان عبدالناصر اردنا أم لم نرد واحدا منهم مهما نزل به من هزيمة مثل الانفصال سنة 1961 وهزيمة يونيو سنة 1967 فهذا نابليون بونابرت الذي احتل خصومه الأوروبيون بلاده فرنسا مرتين في حياته ونفوه مرتين خارجها بعد ان انزلوا به أبشع الهزائم العسكرية لا يراه الفرنسيون غير البطل العظيم الأول في كل تاريخ الشعب الفرنسي، وذلك لأن الزعامة ليست نصرا يحققه الزعيم وانما هي قدرة هذا الزعيم على استخدام قدرات شعبه لتحقيق آمال الجماهير وطموحاتها. ـ وكيف في رأيك برزت في عبدالناصر شرائط الزعامة؟ ـ الزعيم في التعريف شبه المتفق عليه عند المفكرين عبر التاريخ هو القائد الذي يملك القدرة على الرؤية الصحيحة التي تحدد له أهدافاً عظيمة لأمته ولديه شحنة تحريك قوة الجماعة مستفيدا من الظروف المحيطة لايقاظ الأمة وتجديد مسارها لتحقيق آمالها ومصالحها، ومن يتابع مسيرة عبدالناصر منذ بدأ تحركه السياسي قبل الثورة وبعدها حتى الوفاة سيجد فيه ما رآه المراقبون المحايدون والمؤرخون الصادقون من القدرة على صناعة التاريخ حيث أن هذه القدرة كما يقول الاستاذ بجامعة ميتشجان اوجين جينجز - هي التي تحول دون ركود المجتمعات وموات الطموحات عند الشعوب، وهذا الوصف ينطبق تماما على الحالة العربية المتدنية اليوم حيث تفتقد الأمة زعيما صانعا للتاريخ. ـ وكيف برز في عبدالناصر القائد الزعيم وخاصة عند الجماهير العربية غير المصرية والتي لم تره؟ ـ الثابت تاريخيا ان بداية اسطورة زعامة عبدالناصر كانت في الفالوجا اثناء حرب 1948 في فلسطين عندما اكتشف ان الموات العربي يرجع الى نوعية الانظمة والحكام في عاصمة مصر وسائر عواصم الوطن، فبادر الى تجنيد نفر من زملائه الضباط فرض بهم حركة 23 يوليو سنة 1952. هكذا اذن بدأت زعامة عبدالناصر! هذه ارهاصات تزعم لا زعامة®. ذلك أن الزعيم لا يصنعه تحرك نفر من العسكر للاستيلاء على السلطة، وانما الزعيم تصنعه مبادؤه ودعوته لها وسعيه الى حشد الجماهير من أجلها وتقبل الناس له وكل يطالبها به وقد التفت حوله ومضت معه رمزا لارادتها وصلابتها ومثابرتها، وفي هذا يقول وزير الدولة البريطاني انتوني ناتنج والذي استقال فور اكتشافه تواطؤ بلاده مع فرنسا واسرائيل في تدبير العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 من أن صمود عبدالناصر بشعب مصر ومشاركة العرب أكدت مكانته في الشرق الأوسط كزعيم أمة صانع للأحداث من خلال قدرة فائقة على قيادة الجماهير في المنطقة في مواجهة اعتى الاسلحة وأحلك الظروف، وفي يقيني أن زعامة عبدالناصر للمنطقة العربية وصيرورته واحدا من أبطال التحرير في العالم مثل غاندي ونهرو وماو وتيتو وسكارنو وجيفارا وكينياتا ونكروما ولومومبا تكونت بدءا من صيف عام 1953 عقب اعلانه والتزامه بما أورده في كتابه المسمى (فلسفة الثورة) وعرض فيه رؤيته لما يجب ان يكون عليه حال مصر والعرب والمسلمين والشعوب المستعمرة، ثم خوضه أول معاركه ضد الاستعمار الفرنسي في المغرب وتونس ثم الجزائر بكافة أساليب الدعم السياسي والعسكري والاعلامي، ثم اقدامه على تحرير مصادر تسليح الجيش، ثم تأميمه لقناة السويس وصموده للعدوان الثلاثي سنة 1956 واصراره الذكي على مواصلة القتال رغم الفرق الهائل في القدرات العسكرية بين المعتدين والمعتدى عليهم، وكذلك دعوته الناجحة لعرب البترول لاسترداد آبارهم من الاحتكارات الاستغلالية الأجنبية، وكان أن تحولت الجماهر العربية تباعا من عداء له كما كان الحال في سوريا سنة 1954 ولتقبل عليه وتقاتل معه ضد حلف بغداد والعدوان الثلاثي ثم تطالبه بأن يكون رئيسا لجمهورية الوحدة مع مصر. ـ وكيف رأيت سبب هذا التحول عند العرب بالنسبة لعبدالناصر من العداء سنة 1954 الى الثقة به وتتوجيه زعيما شاملا خاصة وانك كنت شاهدا سريا - كما ورد في بعض الكتابات والأحاديث على معاداة الشعب السوري بالذات لعبدالناصر سنة 1954؟ ـ أولا: كان الشعب في سوريا يخشى مآسي ومهازل حكم العسكر بدءا من انقلاب حسني الزعيم حتى انقلاب أديب الشبشكلي، كذلك رأت عناصر حزبية ودينية في سوريا ان موقف ثورة يوليو وعبدالناصر من الأحزاب المصرية. والجماعات الدينية يهدد طموحاتها في تداول السلطة ويثبت في بلادها نظم حكم العسكر، بالاضافة الى ما روجه الشيوعيون اثر تظاهراتهم في مصنع بالدتا من مزاعم عن وجود تأييد اميركي لحركة يوليو، غير ان هذا العداء لم يلبث ان تلاشى تباعا وبسرعة، وكان أن وجدت فيه الزعيم الصادق الذي يجسد أحلامها ويحرز لها نصرا كل يوم. ـ وماذا عن البعض الذي يحاول أن يشوه أو ينكر زعامة عبدالناصر وانجازاته وخاصة اصحاب النبرة التي تتشدق بهزيمة مصر في حرب يونيو سنة 1967؟ أولا®. أن معاداة البعض لعبدالناصر وزعامته ليست وليدة هزيمة 1967، ذلك ان الحملات ضده والتآمر عليه وعلى منجزاته من قبل انظمة عربية ودول أجنبية سابقة وبسنوات على هزيمة 1967 هذه، والمنشور اليوم من وثائق بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة عن فترة الخمسينيات من القرن الماضي يكشف ضراوة الحملات المعادية لعبدالناصر في هذه الدول العربية الثلاث والتي تأكدت افعالا ضد مصر وعبدالناصر مثل اشتراك فرنسا وبريطانيا مع اسرائيل في عدوان 1956، وسحب واشنطن والبنك الدولي لعملية تمويل السد العالي. تحريض نوري السعيد رئيس وزراء الحكومة الملكية الهاشمية في العراق لبريطانيا حتى تضرب مصر وتصفي عبدالناصر يوم تأميم قناة السويس، وتحذير هنري كيسنجر لحكومة واشنطن بضرورة القضاء على ناصر وزعامته حتى لا تتساقط تحت قدميه انظمة عربية صديقة للغرب، ومحاولة احد الملوك العرب اغراء رجل المخابرات السورية عبدالحميد سراج باغتيال عبدالناصر في أولى زياراته لدمشق في اليوم التالي ليوم الاستفتاء على الوحدة بين سوريا ومصر 22 فبراير سنة 1958 مقابل عشرة ملايين دولار، وانزال قوات أميركية في لبنان وبريطانيا في الأردن مع اعلان الوحدة مع سوريا ومصر، ثم التآمر على هذه الوحدة بمشاركة أردنية مع شاه ايران وتهديد أميركي عسكري بضرب سفن الاسطول المصري المسيرة الى سوريا لمساعدة جاسم علوان وعبدالحميد السراج اللذين حاولا التصدي لمؤامرة، الانفصال، ألا يعكس كل هذا العداء ويؤكد كل هذا التآمر ان الحملات ضد عبدالناصر العربية والاجنبية سابقة تماما على هزيمة يونيو 1967 وذلك ادراكا من الأنظمة المعادية والدول الاستعمارية بخطورة السياسات التحريرية الوحدوية الاشتراكية لثورة يوليو وزعامة عبدالناصر الاسطورية لجماهير العرب والشعوب المضطهدة في آسيا وافريقيا. ـ وماذا عن اعتراف عبدالناصر في اخر أيام حرب يونيو بمسئوليته عن الهزيمة السريعة القاسية؟ ـ أولا®. هذه شجاعة من زعيم يدرك تماما مقدار ما أعطته ملايين العرب من ثقة وما علقت عليه من أمل وما توجته به من زعامة وثانيا عبدالناصر ليس بالنبي المعصوم.. ثم هو ابن المجتمع الذي ورثه وعاصره بكل ايجابياته وسلبياته®. كذلك هو تربية المدرسة العسكرية لا المدنية®. اذ تحكم نشأته الشبابية في مرحلة التكوين النهائي قواعد التنشئة العسكرية وأسس العمل العسكري وتسلسل المسئوليات فيه. ـ ولكن الزعيم الشامل للأمة يتعامل مع عموم الشعب بكافة عناصره ومختلف مداركه وعديد مدارسه في العمل الجماعي، فكيف استطاع وهو صناعة المدرسة العسكرية وصرامتها أن يقود مسيرة الأمة كلها لا الجيش المفروض فيه وحدة الانضباط؟ ـ هناك أمثلة كثيرة في مواقف عبدالناصر وقراراته تعكس التزامه بالأسلوب العسكري في التفكير والتقرير والتنفيذ مثل فوقيه الكثير من القرارات - ودرجات الاهتمام باللاجئ العسكري مهما تضاءلت رتبته دون اعطاء اللاجئ السياسي مثل هذا الاهتمام، وان تأكد علو شأنه وكثرة اعوانه وتنظيماته في بلده - أما بالنسبة لتحرر عبدالناصر بين هيمنة الروح العسكرية عليه فإن أبرز الأمثلة عليها موقفان: أولهما اثناء العدوان الثلاثي على مصر عندما أمر بتوزيع الأسلحة والذخيرة على عموم الناس وانطلق مرتين الى حي الازهر في سيارة جيب مكشوفة وسط الجماهير المسلحة معلنا فيها من فوق منبر الجامع الازهر ومسجد الحسين اننا سنحارب وسنحارب وسنحارب، يومها كان عبدالناصر في قمة تجرده من تربيته العسكرية بل من الجيش كله والثقة فيه قاذفا بنفسه في احضان جماهيره التي يؤمن بها في قرارة نفسه في غير ما خوف من اعتدائها عليه بالاسلحة والذخيرة والتي وزعها عليها - أما المثال الثاني على تحرر عبدالناصر من العسكرية فقد كان يوم أن أعلن تنحيه وتحمله مسئولية الهزيمة المفاجئة المروعة عام 67 واضعا نفسه - وقد تجرد تماما من عسكريته وكل جيشه - تحت رحمة الشعب وما بينهما من ثقة غرستها انتصارات لآمال اجيال رغم ما في الصراعات من كر وفر ونجاح وفشل. ـ كيف تفسر اذن ما حدث في يونيو 1967؟ ثم ما يصفه البعض شماتة بسقوط الحلم القومي ويطلق عليه الاخرون تبدد الحلم الناصري؟®. الا يحمل جيل ثورة يوليو مسئولية التردي المهين اليوم للأوضاع العربية؟ ـ أولا وقبل ان أحدد صفات المسئولين عما تصفه بالتردي المهين المعاصر لأمة العرب أود أن أذكر ان الاختلاف المعروف بين الثوري والحاكم وخاصة ان بعض قادة الثورة بأنفسهم في مستنقعات الحكم لوجدنا أنفسنا امام مصالح سلطوية قد يتغلب فيها عنصر الأنا على النحن والجماعة مما أدى الى تقليص اعداد الثوار تباعا وتكاثر اعداد الطامعين والمتسلقين في رؤية للمصالح الشعبية واحترام للإرادة الجماهيرية.. فقد توارى عبداللطيف بغدادي وكمال الدين حسين مثلا وغيرهما من أبرز وانجح قيادات الثورة والحكم وبرز اخرون تباعا في العمل السياسي والحكومي والعسكري وكان اغلبهم دون المستوى المطلوب لحمل مسئوليات ضخمة وبحجم ما صارت اليه مصر والعرب وعبدالناصر مما أحدث تدنياً في التفكير والتقرير وبالتالي في التنفيذ. ـ تقصد أولئك الذين تولوا السلطة مع عبدالناصر عقب تنحي أعضاء مجلس الثورة امثال البغدادي وكمال الدين حسين واقتصار الباقي منهم معه على مناصب رئاسية مثل زكريا محيى الدين وحسين الشافعي وأنور السادات وانفراد عبدالحكيم عامر بالقوات المسلحة؟ ـ دعني من ذكر الاسماء®. فبعضهم في رحاب الله والبعض الآخر رغم جميع قدراته بين سوء الطوية وحسن النية وليس مناسبا في ذكرى يوليو المجيدة وزعيمها عبدالناصر الخروج عن الحديث عنها الى توزيع الاتهامات. ـ الرئيس عبدالناصر كما يدعي البعض قائد يحكمه استعلاء الأنا وتعكس قراراته كبرياء السلطة والقدرة؟! ـ ياأخي بالعقل كده®. كيف يمكن ان تجتمع داخل انسان واحد غلظة الاستبداد بالرأى مع الانتماء الكامل للضعفاء المقهورين كما كان عبدالناصر في جميع قراراته وصراعاته منحازا حتى النخاع مصريا وعربيا واسلامياً وانسانيا الى المعذبين المسحوقين في كل مكان!! ـ أعلن الرئيس عبدالناصر بنفسه عدم رضائه عن مضمون احاديث رمضانية لك خلال خطبة له أمام مجلس الأمة نشرتها جريدة «الاهرام» في عددها الصادر يوم 12 مارس سنة 1956 .. ما قصتها؟ ـ الحق أقول لك ان اعلان عبدالناصر في المجلس النيابي رفضه لمضمون هذه الأحاديث الرمضانية تاج على رأس عبدالناصر قبل أن يكون شرفا لي®. فهو قد قال في الجلسة الخاصة لمجلس الأمة والتي انعقدت بحضوره يوم 25 فبراير من نفس السنة: احنا مش بنكبل الناس ونحدد لهم يكتبوا ايه وما يكتبوش ايه®. احنا عندنا مبادئ®. متفقين على مبادئ وما بنحددشي لحد يقول ايه وما يقولشي ايه®. وعندنا هنا في المجلس أحمد سعيد كان بيذيع في صوت العرب في فجر رمضان كلام أنا كنت بأسمعه يوماتي وفي كلامه حاجات كثيرة أنا ما كنت راضي عنها®. ما فكرتش أمنعه يقولها لان ده رأيه®. وسبته يعبر عن رأيه®. ما طلبتش منه يوقف®. لأني لو تدخلت يفقد صوت العرب قيمته®. هو حر يعبر عن رأيه دون أي تدخل لأن له قيمة من حريته. في اعقاب الهزيمة ـ في ذلك الصيف الدامي الحزين®. كيف كانت ردود فعله معك على ما وصف يومها بتمردك؟ ـ في البدء®. يجب ان أسجل ان عبدالناصر زعيم يدعو الى مبادئ لا يمكن ان يرفضها أي عربي واع شريف القصد.. ظروف الهزيمة احدثت فيه جروحا عميقة نازفة مثلما احدثت فينا جميعا - غير ان من يتبع سلوكه معي بالذات خلال الأشهر الثلاثة التي تلت هزيمة يونيو 1967 يدرك على الفور ان عبدالناصر كزعيم لم يرض لنفسه - كما أراد بعض حاشيته ووزرائه أيامها - ان يهبط بنفسه الى مستوى الحكام الطغاة في تعاملهم مع ما صدر عني من تهديد بقتل أي حاكم يفكر في قبول اسرائيل وذلك ضمن اخر محاضراتي يومها في القيادة المركزية لسلاح الطيران الملاصقة لبيته في منشية البكري. ـ تريد أن تقول ان عبدالناصر تقبل تعليقك الجاد في الاتهام بوجود قصور كما قلت فيه بالحرف®. والمسئول العربي اليوم هو كل مواطن عربي®. وعليه أن يدرك الاسباب الكاملة للنكسة هنا في مصر وفي كل عاصمة عربية اشتركت في القتال أو تعاطفت معه أو وقفت تتفرج عليه®. فالمئة مليون يجب ان يؤمنوا بمسئوليتهم عن النكسة®. لا فرق بين رئيس هنا أو فلاح هناك®. لا فرق بين حاكم هنا أو عامل هناك انها مسئولية الجماهير قبل الحكام®. مسئوليتهم أن يحكموا فوق الحكام®. في كل مكان الشعب مسئول®. داخل قصر كل حاكم وامام وخلف كل مسئول؟ ـ أحمد الله انني واجهت نفسي قبل زعيمي ورددت على ملايين المستمعين هذه الحقيقة التي مازلت أؤمن بها وارى فيها خروج العرب اليوم سنة 2002 من هم فيه من هوان. ـ ولم يغضب عليك عبدالناصر أو حتى يصدر أمرا بفصلك أو نقلك أو حتى ترقيتك بشلوت لفوق كما يقولون في المثل عند غضبه السلطة على أعوانها؟ ـ أشهد الله انني لم أخطر يوما بأن عبدالناصر قد ضاق بتعليقي هذا وما ورد فيه من اشارات واتهامات للنظام في مصر®. كل الذي حدث أن وزير الاعلام استدعاني وحدثني عن التعليق طالبا مني ان اشاوره فيما أكتب واذيع، ولما قمت بالاحتجاج على هذا الطلب الذي يعني فرض رقابة على عملي وهو الأمر الذي لم يفرضه أي وزير سبقه ثقة من عبدالناصر في شخصي وتقديري للأمور تراجع فايق على الفور وخاصة عندما قلت له ان ما حدث مع 5 يونيو يفجر عندي مسئوليتي كعضو منتخب عن الشعب في مجلس الأمة وانه يستطيع استصدار قرار بانهاء علاقتي بصوت العرب ولكنه لا يستطيع الا بالسجن منعي من التأكيد على رفضي لما حدث وادى الى الهزيمة المروعة عسكريا وسياسيا، ثم سألته عما اذا كان ما يطلبه من فرض رقابة على عملي بأمر من الرئيس فأجابني مسرعا بالنفي وهو يطلب مني عدم تكراره في نشرة الظهر كما اعتدت فأجبته بأنني ذاهب الى الاستديو بنفسي للتأكد من تكرار الاذاعة وانه يستطيع منعه بتليفون منه للهندسة المسئولية على أن يتحمل وحده مسئولية ذلك المنع امام مجلس الأمة وجمال عبدالناصر. ـ عبدالناصر اذن لم يكن يضجر من الرأي الآخر حتى وهو مجروح في يونيو 1967؟ ـ هذه احدى عناصر التميز عنده - على الاقل معي شخصيا طوال خمسة عشر عاما من الدعوة للتحرير والوحدة واسترداد ثروات العرب - فالرجل وقد صار حاكما يعيش وسط حذر الحكام والحسابات الجامدة للفعل ورد الفعل وحشد المستشارين واختلافهم مع اخلاصهم وما قد يشوب عالمهم من تطلعات مشروعة وغير مشروعة وسموم المتسلقين والمنافقين: كان دائما واسع الصدر والأفق قادرا على رؤية الصالح العام في أكثر الأحوال يحميه غالبا ويتوجه اصرار على مبادئه التي استلهمها من واقع العرب وتطلعات الجماهير. ـ وكيف - رغم كل هذا التقدير الذي حظيت به عند عبدالناصر - حدثت القطيعة - التي بدأت رسميا بطلب وزير الاعلام منك في سبتمبر 1967 تقديم طلب اجازة مفتوحة واحتمال نقلك الى وزارة الخارجية واجابتك على هذا الطلب بإرسال استقالتك إلى مكتب سكرتارية الرئيس وما تلى ذلك من صدور قرار انهاء خدمتك؟ ـ سبق أن حدثتك عن طلب الفريق مدكور أبوالعز الخاص بقيامي بحملات توعية واعادة البناء النفسي لافراد سلاح الطيران بعدما اتهموا به ظلما من أنهم سبب النكسة، وكان اساس تحاوري معهم واسترداد ثقتهم بأنفسهم واستثارة روح الفداء والاستشهاد فيهم التأكيد لهم بأن مصر لم تعد ملكا لأحد بحيث يحكمها كما شاء أو يفرض من الشرطة واجهزة الرقابة ما يفقد الناس ايمانها بذاتها وبكرامتها ومسئوليتها قبل الحكام وقد اثارت هذه المعاني اثنين من الطيارين في اخر محاضراتي بالسلاح وكانت في مبنى القيادة المركزية للسلاح وموقعها يومها ملاصق تماما لبيت الرئيس عبد الناصر بمنشية البكري، فسألني أحدهم مغيظا ثائرا عما يفعل وهو يشعر انه مراقب في وحدته وفي راحته وحتى وسط اسرته فأعلنته انه ليس من حق احد ان يراقبه هكذا وان عليه ان يقاتل فيقتل أو يقتل هذا الذي يرتكب، اثم التجسس، وتحمس لخيار آخر وسألني عما يمكن ان يفعله أو نفعله جميعا ان قبل حاكم عربي - وكان يعني لحظتها ملك الأردن حسين - الذي تردد يومها قبوله لمشروع اسرائيلي بالانسحاب من الضفة الغربية مقابل اعلان الاعتراف بإسرائيل - وكان جوابي حاسما داميا وايضا متنبئا - باعتبار ما حدث - بين أن الجماهير لن تعدم مواطنا يصفى هذا الحاكم. ـ لابد انه فهم من هذا التهديد الدموي والنذير بالقتل وصل عبدالناصر على انه موجه له فكان قراره بمنحك اجازة مفتوحة واستقالتك وانهاء خدمتك. ـ أعوذ بالله يا أخي من أن يتهم عبدالناصر بكل صلابته واصراره وكبريائه ويقينه من الله وشعبه في مصر وسائر انحاء الوطن أن يتوهم لحظة انني أعنيه.. لقد ذكر لي أمين هويدي بعد ان انتهت الأزمة الخاصة بمهزلة 15 مايو في معرض حديث حول عبدالناصر ان وزير الداخلية قبل 15 مايو (شعراوي جمعة) طلب اعتقالي مرتين بزعم هذه المحاضرة مرة وبزعم تأليبي للنواب صيف 1967 وجمعي توقيعات 63 نائبا لعقد جلسة فورية لمجلس الأمة للتحقيق في أسباب النكسة عسكريا وسياسيا وأشر عبدالناصر بأنه لا يتم أي اجراء ضدي دون العرض عليه®. يا أخي عبدالناصر أكبر بكثير جدا ممن يرتجفون من همسة. ـ استاذ أحمد سعيد®. بعد هذا الحب الموضوعي والنقد التقييمي لعبدالناصر وزعامته وحكمه: هل لك في كلمة توجز بها هذا الايمان لجماهير عرب سنة 2002 وخاصة الذين لم يعاصروا البطل. ـ يقول نزار قباني في رثاء عبدالناصر قتلناك يا آخر الانبياء وأنا أقول لعرب 2002 اننا نقتل انفسنا بقتل مبادئ عبدالناصر صباح مساء®. ولن يرحمنا الله.

Email