كانت منطقة الخليج ـ ومازالت احدى المناطق التي تجلت فيها مظاهر الاهتمام الاميركي سياسيا واقتصاديا حيث اخذ ذلك الاهتمام بعدا اقتصاديا ثقافيا في بداية الامر مع ارسال البعثات التبشيرية واكتشاف النفط الا انه اكتسب ابعادا اخرى اضافية تشمل العلاقات الامنية والعسكرية، حيث تعدى الاهتمام الامريكي بالمنطقة الشأن الثقافي الى الشئون الدفاعية والحيوية والاستراتيجية ككل، وبعد ان كانت المصالح الامريكية تتمحور في فترات سابقة حول النفط واستخراجه واستثماره فحسب، صار للولايات المتحدة الان وربما مستقبلا ايضا استراتيجية متكاملة وخطوط حمراء تتحكم بمجل مسارات العلاقات مع منطقة الخليج العربي. وقد يعتقد الكثيرون أن تاريخية العلاقات الخليجية الأميركية ترتبط بما سُمي باستراتيجية شرق السويس، حيث الانسحاب البريطاني من الشرق الأوسط والخليج تدريجياً وحلول الولايات المتحدة محل التاج البريطاني لملء الفراغ الاستراتيجي الناتج عن ذلك، ومن ثم الدور الأميركي في الترتيبات التي تم اتخاذها للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة من منظورها وضمان حماية مصالحها هناك في وجه أي تهديدات محتملة أو قائمة. غير أن ذلك لا يعبر عن الحقيقة بكاملها، فقد يكون الدور الأميركي أكثر ظهوراً من حيث الكثافة والجهد في قضية هي من أخطر القضايا التي مازالت تتعامل المنطقة معها، وهي أمن الخليج والترتيبات المفترض أن يتم اتخاذها لتحقيق هذا الأمن، لكن الدور الأميركي في المنطقة يسبق ذلك الواقع، ويرجع إلى عهود سابقة على الانسحاب البريطاني من المنطقة. ويبدو أنه يصعب فصل هذا التواجد الأميركي في الخليج عن الوجود الأميركي في الوطن العربي بأسره، والذي يعود إلى أواخر القرن الثامن عشر عبر محاولات الولايات المتحدة إيجاد مناطق نفوذ لها في المنطقة تضارع بها احتلال كل من المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا لجزء معين من العالم العربي وفقاً لمبادئ اقتسام مناطق النفوذ التي وُجدت خلال هذه الفترة. بيد أن الولايات المتحدة لم تكن مشغولة في هذه الأثناء باحتلال واقتسام مناطق النفوذ البعيدة عنها، وتركت الأمر للقوى التقليدية الكبرى آنذاك لتمارس صلاحيات هذا الدور، في حين ركزت هي -أي الولايات المتحدة- جهدها في تلك الفترة على إقامة نهضتها ودعم قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية وترسيخ أقدامها. البدايات الاولى لكن ذلك لا يعني عدم وجود أي أثر للدور الأميركي في المنطقة العربية والخليج، حيث بدأت المحاولات الأميركية للانخراط في شئون المنطقة بدعوى حماية طرق التجارة الدولية من عمليات القرصنة البحرية تارة وتوفير التسهيلات اللازمة لرجال الأعمال المغامرين والدبلوماسيين ورجال الإرساليات التبشيرية الأميركيين تارة أخرى. ولتحقيق ذلك فقد عقدت اتفاقيات عدة عام 1787-1797 مع حكام مراكش والجزائر وطرابلس وتونس، تضمنت تقديم تسهيلات مختلفة للسفن الأميركية في المنطقة، والحفاظ على أمنها وسلامتها لقاء تقديم مبالغ محددة من الأموال. ونظراً لتعاظم تكلفة هذه الحماية وعدم جدواها أحياناً لخضوع الولايات المتحدة لابتزاز حكام تلك المناطق، فقد أرسلت واشنطن عام 1800 أسطولاً بحرياً -يعد نواة الأسطول الأميركي الخامس المتواجد في مياه المتوسط الآن- إلى البحر الأبيض المتوسط بحجة عدم كفاية الإجراءات الأمنية المتبعة آنذاك. وعلى الرغم من أن مبدأ الرئيس الأميركي مونرو المعروف بمبدأ العزلة، لم يتح للولايات المتحدة في هذه الفترة التوغل في شئون المنطقة شأن القوى الاستعمارية التقليدية، لكن ذلك لم يمنع الولايات المتحدة-كما ذُكر- من توقيع اتفاقيات مع الدولة العثمانية مكنتها من الدخول إلى الخليج ومياهه وتعيين وكلاء قناصل لها هناك والحصول على نفس الحقوق المتاحة للقوى الاستعمارية الأخرى. وكانت أبرز النتائج المترتبة على ذلك هي تكريس التواجد الأميركي عبر تكثيف أنشطتها التجارية مع كيانات المنطقة الوليدة وإرغام المملكة المتحدة على قبول مبدأ التنافس المتوازن بين شركات البترول الأميركية وغيرها تحت دعوى الالتزام بسياسة «الباب المفتوح»، وهو ما مكن الشركات الأميركية في النهاية من الحصول على نصيب الأسد من امتيازات التنقيب عن النفط في منطقة الخليج. البعثات التبشيرية والنفط بيد أنه ومنذ انتهاء الحرب العالمية الأولى والتخلي نسبيًا عن سياسة «عدم التدخل» والنكوص على ذلك ثانية بالانسحاب من مسرح السياسة العالمية بعد قرار الكونجرس عدم الانضمام إلى عصبة الأمم وتوقيع معاهدات الصلح - أدارت الولايات المتحدة ظهرها مجددًا لمطامع الدول الأوروبية في تقاسم الوطن العربي، بل اعترفت لفرنسا وبريطانيا بالتفوق السياسي في المنطقة العربية مادامت هاتان الدولتان ضمنتا مصالح الأفراد والشركات الأميركية وتقومان بحل جميع القضايا ذات الصلة بالمصالح الأميركية والتي تقتضي تدخلاً في الخارج مع الدول الأوروبية صاحبة العلاقة، واستمرت مع ذلك في رعاية أنشطتها غير السياسية في المنطقة الاقتصادية منها والثقافية، ويمكن بيان ذلك من ناحية الخليج بالنظر إلى أهم مظاهر التواجد الأميركي. ـ كان النشاط الدبلوماسي الأميركي في أراضي شبه الجزيرة العربية أكثر الأنشطة الأميركية ظهورًا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، لكن مصلحة الولايات المتحدة الحيوية آنذاك لم تدفعها إلى التحرك بجدية لإثبات دور لها في أحداث المنطقة، وبالنسبة لليمن قامت واشنطن بعقد اتصالات مع الإمام يحيى إمام اليمن ورفضت الاعتراف باستقلال بلاده ولم تعقد معاهدة تجارية مع اليمن إلا في عام 1941 ولم تبدأ علاقات دبلوماسية كاملة معه إلا في عام 1945، وكذلك فعلت مع المملكة العربية السعودية؛ حيث وجدت الخارجية الأميركية أن حجم مصالح واشنطن هناك لا يسوغ قيام علاقات رسمية وجاء دورها سلبيًا على طلب الملك عبدالعزيز آل سعود منها ومن الدول الكبرى الأخرى الاعتراف بالوضع السياسي الجديد في المملكة ولم يبدأ التفاوض لعقد معاهدة صداقة بين البلدين إلا عام 1933 ولم يبدأ تبادل التمثيل الدبلوماسي رسميًا إلا في عام 1942 في جدة، ولم يكن الأمر بالنسبة لعمان بخير من ذلك المُشار إليه سلفًا بالنسبة للكيانين اليمني والسعودي؛ حيث لم يكن للمصالح الأميركية دور يتجاوز أكثر من بعثة طبية للكنيسة الإصلاحية وبدأت العلاقات الرسمية بينهما عام 1934 وحل السلطان سعيد بن تيمور ضيفًا على الرئيس روزفلت عام 1938. ـ استمر نشاط الإرساليات الأميركية التعليمية التبشيرية في المنطقة العربية عمومًا، وبعد أن أقامت في عام 1823 أول إرسالية دينية بروتستانتية في لبنان والكلية البروتستانتية في سوريا، تحولت هذه الإرساليات إلى منشآت تعليمية كالجامعة الأميركية بالقاهرة أو جامعة بيروت الأميركية عام 1920، وتوسعت شبكات هذه الإرساليات لتشمل بالإضافة إلى المجال الديني والتعليمي المجال الطبي والأثري التي كان لها أكبر الأثر في تعريف الرأي العام الأميركي بالمنطقة العربية محدثة بعض التغيير لصورة العرب في الذهن الأميركي المستمدة من الأساطير والقصص الخرافية، ومن ثم تشجيع المستكشفين والمغامرين والذين دفعوا بدورهم والمنقبين عن النفط إلى البحث عن مواطن جديدة يمارسون فيها هواياتهم. ـ أكدت الولايات المتحدة عزمها على إيجاد موطئ اقتصادي لها في المنطقة من أجل السيطرة على البترول العربي دون أن تتجاهل ولو لحين المصالح البترولية البريطانية الفرنسية، ففي عام 1920 قدم السفير الأميركي في بريطانيا مذكرة رسمية باسم بلاده إلى رئيس الحكومة البريطانية طالبه فيها بضرورة السماح للشركات الأميركية بالتنقيب عن البترول في المناطق العربية الواقعة تحت الانتداب البريطاني عملاً بمبدأ الباب المفتوح، ولم تزل رافضة الاعتراف بنظام الانتداب حتى حصلت على ترضية خاصة عام 1924 أقرت بمبدأ مساواتها بالامتيازات الاقتصادية، لاسيما الاستثمارات النفطية، ففي عام 1935 حصلت على امتيازات التنقيب عن النفط في السعودية وبدأ استخراجه في عام 1939، وكانت قد حصلت على امتياز مماثل في البحرين عام 1933 وفي الكويت عام 1934. ونظرًا للأهمية التي تعطيها كل الدراسات التي تتناول بالتحليل للدور الأميركي في الخليج ومحورية النفط كمحرك أساسي من محركات السياسة الأميركية هناك، فإنه يلاحظ مدى التنافس الذي شهدته المنطقة للاستئثار بالنصيب الأكبر من مواردها النفطية التي اكتشفت أو في طور الاكتشاف، وهو ما يمكن ملاحظته كالتالي : 1ـ التحايل الأميركي على الاتفاقات التي عقدتها حكومة التاج البريطاني مع حكام منطقة الخليج والتي عرفت باسم الاتفاقات المانعة والتي كانت تقضي بمنع إعطاء حكام المنطقة حقوق التنقيب لأي شركة غير بريطانية قبل موافقة المقيم السياسي البريطاني، وقد وقع على هذه الاتفاقات شيخ الكويت عام 1913، والبحرين عام 1914، وسلطان نجد آنذاك عام 1915 .. وبعد شد وجذب دار بين حكومتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة البريطانية اضطرت الأخيرة إلى الاستجابة للاختراق الأميركي رغمًا عنها، خاصة أن واشنطن استخدمت وسائلها المعروفة ومنها الضغط الدبلوماسي على لندن بإرسال مذكرة شديدة اللهجة إلى حكومة التاج البريطاني لإجبارها على قبول المشاركة الأميركية في امتيازات التنقيب عن النفط بجانب الشركات البريطانية، وتقديم الإغراءات المالية-شراء حقوق الامتيازات- لحكام المنطقة التي صَعُبَ على البريطانيين مجاراتها، والالتفاف القانوني عبر الاتفاق مع أطراف ثالثة تضمن لها اختراق الحاجز القانوني الذي تمسكت به لندن لفترة بدعوى أنه لا يحق لشركات غير بريطانية أن تعمل ما لم تكن مسجلة في بريطانيا ومعظم مالكيها ومديريها من البريطانيين، والتلويح بأن الآخرين أو حلفاء الحرب العالمية الأولى مدينون بانتصارهم في الحرب ضد دول المحور لمشاركة الولايات المتحدة في الحرب إلى جانبهم ومن ثم فإنه من اللازم الحصول على مقابل هذا الدور وقضاء ثمنه من الدول الراغبة في الاستئثار بثروة المنطقة دون أن يكون للأمريكيين نصيب فيها. 2- تبلور سياسة القسر كأحدى مظاهر السياسة الخارجية الأميركية ناحية الشرق الأوسط عامة والخليج خاصة وناحية أي من الأطراف التي تحاول الافتئات من الدور الأميركي أو القفز فوقه أو تجاهله. وقد لا تكون هذه السياسة ملموسة الجوانب بشكل كامل فترة القرن الثامن عشر وحتى انتهاء الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب العالمية الثانية؛ إذ إن استخدام هذه السياسة لم يتم في الحقيقة إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث خرجت الولايات المتحدة منها كأكثر الأطراف إحساسًا بالنصر والقوة دون أي طرف آخر، لكن وصول الولايات المتحدة لهذه المرحلة لم يكن إلا مرحلة متقدمة من التطور سبقتها مراحل كثيرة في الإعداد واستكمال البنيان السياسي والاقتصادي والعسكري للدولة الأميركية، وتجلت مراحل الإعداد تلك في منطقة الخليج بالإشارة إلى الإقرار البريطاني لدور أمريكي في المملكة السعودية نتيجة لاجتماعات الرئيس روزفلت مع الملك عبد العزيز آل سعود فوق المدمرة «كوينزي» في خليج السويس في فبراير 1945، ومن ثم الاتفاق البريطاني-الأميركي بتوزيع جديد للمصالح النفطية في الجزيرة والخليج العربيين يأخذ في الاعتبار المصالح الأميركية وحماية هذه المصالح عن طريق سلسلة من القواعد العسكرية في شمال بحر العرب وشرق الجزيرة العربية. وتضمن مراجعة تطور الدور الأميركي في المنطقة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية قاعدة من المعلومات التي تفسر أسباب تفضيل الولايات المتحدة القيام وحدها ودون غيرها بالدور الرئيسي في ترتيبات المنطقة الأمنية ومن ثم اعتماد كل الوسائل التي تتيح إمكانية الردع والإجبار حتى لحلفائها إذا ما حاولوا التقليل من هذا الدور الصاعد للولايات المتحدة أو عرقلته عن الاستمرار في مؤشرات صعوده، وليس أدل على ذلك في نظر الكثير من المحللين من استغلال الانهيار التدريجي للقوى الأوروبية التقليدية في الخليج والحلول محلها. 3- احتلت منطقة الخليج أهمية قصوى لدى الاستراتيجيين الأميركيين خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ويعود ذلك في نظر الكثيرين إلى انهيار القوى الأوروبية القديمة وبروز أقطاب عالمية جديدة : الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي «السابق». ومثلما قامت بريطانيا في وقت سابق بالتخلص من منافسيها التقليديين وخاصة فرنسا وإحكام السيطرة على منطقة الخليج العربي وذلك عن طريق دبلوماسية المقايضات والاتفاقيات الثنائية، كذلك فعلت الولايات المتحدة وأزاحت تدريجيًا منافسها التقليدي وهو بريطانيا عن المنطقة، لاسيما بعد أن تبدت أهمية الخليج كأحد أبرز الطرق المهمة لتوصيل الإمدادات البريطانية الأميركية للمجهود الحربي السوفييتي ضد الغزو الألماني. والتخوف من الاحتكار البريطاني الهولندي لاحتياطي النفط العالمي، وتوقعات الكشف عن احتياطي عالمي واسع رخيص التكاليف في المنطقة، وتكاليف الحرب العالمية التي جعلت الدول الكبرى ومنها الولايات المتحدة أكثر تحسسًا لحاجاتها من النفط - دفعت كل هذه العوامل إلى وضع المنطقة على رأس أولويات الاستراتيجية الأميركية الكونية واقتنعت واشنطن بضرورة حماية مشروعات النفط في الخارج ودعمها ولما كانت الذريعة التي تذرعت بها إمبراطورية التاج البريطاني لاحتلال منطقة الخليج العربي هي تأمين مصالحها في الهند عن طريق شركة الهند الشرقية وضمان تحقيق أهدافها التجارية البحثية، كذلك فعلت الولايات المتحدة في بداية عهدها مع المنطقة عن طريق الإرساليات التعليمية والتبشيرية التي مهدت الطريق للشركات التجارية الأميركية للتواجد والعمل فوق أراضي المنطقة التي مهدت بدورها الطريق للولايات المتحدة لكي تمارس دورًا سياسيًا. وإذا كانت الولايات المتحدة قد استطاعت أن تستغل ظروف الحرب العالمية الأولى لتبلور سياسة لها إزاء المنطقة تعتمد التسلل والقسر وضرورة حماية المصالح الاقتصادية-فإنها لم تغفل أن تستكمل مقومات هذه السياسة بدور عسكري يحقق لها هدف الاستمرارية في البقاء في المنطقة وإيجاد المبرر الكافي لنفسها أولاً وللآخرين ثانية بأن تواجدها أمر لا غنى عنه لمواجهة التهديدات التي تتعرض لها المنطقة سواء من داخلها أو من خارجها . مبدأ ترومان والستينيات ويلاحظ مدى التطور الذي صاحب الاستراتيجية الأميركية في تعاطيها مع الأزمات الكونية، وخاصة ناحية المنطقة العربية عمومًا والخليج بشكل خاص، إذ بدا الاهتمام الأميركي واضحًا مع صدور أول إعلان سياسي «مبدأ ترومان» يؤكد الأهمية الاستراتيجية للخليج العربي ويُلزم البيت الأبيض بتحمل مسئوليات سياسية وأمنية مباشرة في الشرق الأوسط يحفظ بها مصالحه النفطية هناك، ولم تكد تنتهي مسئولية إدارة الرئيس هاري ترومان حتى أعلن الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور في يناير 1957 عن مبدئه المشهور هو الآخر والذي ربط فيه للمرة الأولى بين النفوذ السياسي الأميركي لوقف «الزحف الشيوعي» وقوة الردع العسكري لتأكيد هذا النفوذ وحمايته، وقد وافق الكونجرس الأميركي على هذا المبدأ الذي خول الرئيس سلطة تقديم مساعدات عسكرية بما في ذلك استخدام القوات المسلحة - إلى أي دولة أو مجموعة من الدول في المنطقة لضمان حماية وسلامة أراضيها واستقلالها السياسي عند تعرضها لأي عدوان مسلح من أي دولة تسيطر عليها الشيوعية، واستهدف هذا المبدأ ملء الفراغ السياسي في المنطقة المتأتي عن هزيمة بريطانيا وفرنسا في حرب السويس التي شنتها قواتها إثر إعلان مصر تأميم قناة السويس، ويقوم هذا المبدأ على : ـ حماية القوات الأميركية لأي دولة تتعرض لعدوان مسلح تشنه دولة تابعة لنفوذ الاتحاد السوفييتي. ـ تقديم المساعدات العسكرية الأميركية للدول الحليفة التي تطلب ذلك. ولقد عملت الولايات المتحدة في بداية عقد الستينيات في القرن الماضي على تدشين سياسة ذات طريقين متوازيين يكمل بعضهما الآخر، الطريق الأول يعتمد نفس السياسة الخاصة بمنع وصول السوفييت إلى مراكز إنتاج النفط بالخليج بشتى السبل الممكنة، وقد نجحت في ذلك بالفعل بدليل تكريس قدمها وعلاقاتها مع دول المنطقة وخاصة السعودية والحيلولة دون سقوط أي من كيانات المنطقة المستقلة حديثًا في قبضة السوفييت أو أعوان لهم في المنطقة أو حتى الوقوع تحت تهديد دول مجاورة تبنت الخيار السوفييتي، أما الطريق الآخر فكان يقوم على تقليل الاعتماد الأميركي الغربي على النفط الخليجي إلى أقصى حد ممكن دون الاستغناء عنه؛ وهذا بالطبع لم يكن تحقيقه ممكنًا لأسباب كثيرة، ونجحت واشنطن على ما يبدو في ذلك الطريق أيضًا بدليل أنها فوتت على الدول العربية آنذاك إمكانية استخدام النفط كسلاح سياسي في حرب الأيام الست العربية-الإسرائيلية عام 1967؛ حيث الخلافات العربية البينية آنذاك بين ما سُمي بدول محافظة وأخرى راديكالية واعتماد الأولى في اقتصاداتها على عوائد الموارد النفطية الخاصة بها، هذا فضلاً عن تطوير الشركات الأميركية لمناطق الإنتاج النفطي بعيدًا عن الخليج وخاصة في إفريقيا وغيرها. لقد كانت الولايات المتحدة - تبعًا لما جاء به نيكسون ذاته في يونيو 1969- مستعدة لتقديم المساعدات العسكرية للدول التي تتعرض للتهديد والعدوان إذا أرادت هذه الدول أن تتحمل مسئولية الدفاع عن نفسها، وأعلن نيكسون في مايو 1972 ثانية عن استعداد بلاده لأن تبيع لإيران كل ما تطلبه من أسلحة ومعدات، وهو ما أسهم في تحقيق أهداف الجانبين من استراتيجيتهما العالمية بالنسبة للولايات المتحدة والإقليمية بالنسبة لإيران، فمن جهة انتفعت واشنطن بإيجاد «وكيل» لأعمالها في المنطقة، فضلاً عن إنعاش صناعتها العسكرية التي واجهت أزمة بعد انتهاء الحرب الفيتنامية، ومن جهة ثانية تحققت رغبة شاه إيران آنذاك في بناء قدرة عسكرية كبرى بحيث تكون قوة إقليمية مهيمنة استنادًا إلى أطروحاته بإحياء القومية الفارسية وإنشاء سوق آسيوية مشتركة وإقامة نظام للدفاع عن الخليج تحت الزعامة الإيرانية، وهو ما ووجه برفض عربي وخليجي عارم. ولكن إذا كانت إدارة نيكسون قد تخلت، بشكل ما، عن دور مباشر في منطقة الخليج، وأوكلت الأمر لقوى المنطقة الإقليمية، فإن ذلك لا يعني ترك دول المنطقة للانفراط كحبات العقد، وإن كان يمكن القول بأن نيكسون بوصفه خصمًا لدودًا للشيوعية ويتمتع بشيء من الصرامة الأيديولوجية في هذا السياق قد وضع أولويات أخرى على رأس اهتمامات إدارته تفوق تلك المتعلقة بمنطقة الخليج. ولكن يشار هنا إلى الموقف الأميركي من قضية استخدام النفط كسلاح سياسي، حيث أقلق الحظر النفطي العربي الإدارة الأميركية، وكشف نيكسون في مذكراته عن أنه «اعتبارًا من اللحظة التي بدأ فيها حظر النفط العربي، عمدت حكومته باستمرار إلى إنهائه». وقامت في سبيل ذلك بشن حملة تهديدات دبلوماسية أكدت فيها رفضها ما أسمته ب«الضغط العربي» وأن واشنطن لن تغير سياستها تحت تأثير هذا الضغط، معلنة صراحة أحقيتها في اتخاذ «تدابير مضادة» ضد منتجي النفط إلى الدرجة بالتهديد بالتدخل العسكري في الخليج. نظام كارتر الأمني ولم يكن أمام الولايات المتحدة من خيار لمواجهة تقلص حجم نفوذها في الخليج ولمواجهة تداعيات سقوط حائط صد الخطر السوفييتي المقبل إلى مياه المنطقة الدفيئة ولمواجهة نظرة حلفائها بتضاؤل قدرتها على حماية نظمها الداخلية، فضلاً بالطبع عن خفض الإنتاج النفطي الناتج عن تناقص الإنتاج الإيراني لمواجهة التداعيات السالف ذكرها، وأخذت إدارة الرئيس جيمي كارتر على عاتقها في خريف عام 1979 تأسيس إطار أمني جديد في الخليج يقوم على زيادة الوجود البحري الأميركي بشكل أساسي في المحيط الهندي وإعداد وحدات أمريكية للتدخل السريع في المنطقة. وبمناسبة يوم الاتحاد في عام 1984 ألقى الرئيس كارتر خطابًا تطرق فيه إلى الوضع السائد في الخليج معلنًا موقف بلاده من الأحداث الجارية هناك قائلاً : «ليكن موقفنا واضحًا، إن أي محاولة من أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج، ستعتبر تهديدًا للمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركية، وستستخدم كل الوسائل الضرورية للرد عليها، بما في ذلك القوة العسكرية». تداعيات حرب العراق وايران ولعل الحرب العراقية الإيرانية، في نظر الكثير من المحللين، هي النموذج الواضح الذي يمكن بقراءته قراءة الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، فالولايات المتحدة ولإدراكها خطورة العراق كقطب إقليمي عربي له طموحاته التي تناهض الخطط الامريكية في المنطقة. وسعيا لشغل العراق بقضايا تحقق مصالحها عملت على اشعال حرب الخليج الاولى ثم عملت على إطالة أمد الحرب وفي الوقت ذاته التلويح بالقوة العسكرية إذا ما تعرضت مصالحها أو مصالح أحد من أصدقائها إلى التهديد بداية من أي محاولة للتأثير على حرية الملاحة عبر مضيق هرمز الذي تمر عبره أكثر من 60% من الحركة التجارية النفطية وانتهاءً بالحضور العسكري الفعلي في مياه الخليج لحماية سفن الدول الحليفة المارة ورفع العلم الأميركي على بعضها وجذب بعض الأهداف الإيرانية وإعلان حالة التأهب القصوى في صفوف القوات الأميركية المرابطة في الخليج. وكان من الطبيعي في ضوء ذلك أن تعلن الولايات المتحدة عن نيتها عدم سحب قواتها البحرية من الخليج بدعوى أهميته الحيوية لتأمين مصالحها الاستراتيجية الواجبة الحماية. واضطرت واشنطن في سبيل ذلك إلى إعادة النظر في سياستها ناحية المنطقة وتدشين سياسة جديدة تقضي بتحمل أعباء حماية المجرى المائي والسفن المارة به في وجه أي اعتداءات، وهو ما يُعمل به حتى الآن. غزو الكويت ومشروع بوش وحينما حدث الغزو العراقي لدولة الكويت كان بمثابة الأزمة الأولى التي كان على الإدارة الأميركية مواجهتها في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، بل يمكن القول بأنها كانت الأزمة الأولى والاختيار الحقيقي الذي واجه الرئيس جورج بوش منذ صعوده إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض عام 1988، وهي أيضًا الأزمة التي استدعت تدخلاً دوليًا لمواجهة تداعياتها نتيجة عجز النظام الإقليمي عن مواجهتها، خاصة بعد أن استقطبت تلك الأزمة الأطراف المعنية، إقليميًا ودوليًا، بين مؤيد ومعارض لكيفية حلها. وتميزت الأزمة بعدة سمات استدعت تحركًا أمريكيًا شاملاً وحاسمًا، منها استخدام القوة العسكرية من جانب بغداد للتعبير عن مطالبها في أجواء دولية كانت لا تسمح بذلك، مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديدا لمصالحها في المنطقة بداية من دعم اسس ما ارادته ان يكون نظاما دوليا جديدا في طور التشكيل وانتهاء بتحطيم ارادة اي دولة تظن انها قادرة على فرض سياسة الامر الواقع ومرورا بالطبع بحماية المصالح والدفاع عن الاصدقاء. ولم تضيع الولايات المتحدة هذه الفرصة للتخلص من القوة العسكرية العراقية فشكلت تحالفها الدولي تحت شعار تحرير الكويت لكنها تخطت هذه الهدف المعلن الى التدمير الشامل للعراق، عسكريا واقتصاديا واجتماعيا وسياسياعبر عزله عربيا ودوليا. واستطاعت الولايات المتحدة الامريكية تحقيق اهدافها باخراج العراق من الكويت واعادة الاسرة الحاكمة الشرعية الى الكويت ولم يكن ذلك كله سوى تعبير عن نية الادارة الامريكية في استكمال مقومات وجودها في المنطقة كمرحلة جديدة من مراحل تطور دورها هناك، وذلك بتحقيق هدفي الردع والدفاع لوجودها في المنطقة عبر التواجد الفعلي. والحقيقي وبقوة كافية وبمسوغ قانوني وشرعي من الامم المتحدة ايضا يحظى بالقبول الاجتماعي في ارض ومياه واجواء المنطقة بعد ان كان مقتصرا على الوجود البحري في مياه الخليج والوجود الرمزي في قاعدة الجفير البحرينية. وقد اظهرت هذه التطورات رسوخ المعتقدات الامريكية في ان المنطقة بحاجة الى قوة عسكرية رادعة تفوق تلك التي تملكها اي من الدول الاخرى كالعراق، ويبرز السلوك الامريكي في هذه الازمة وحشده لهذه القوات الضخمة، كمحاولة لتأكيد قوته وان الحديث عن تعدد القوى في النظام الدولي لا ينسحب على القضايا الامنية والاستراتيجية، فهي رسالة موجهة الى الاخرين من القوى الاقليمية والدولية على السواء انها ليست بصدد امر يقبل التفاوض فيه او المساومة. لم تعد المنطقة كسابق عهدها قبل الثاني من أغسطس 1990، إذ إن الغزو وتداعياته فرض شكلاً جديد للأوضاع بعد هذا التاريخ، مما حتم إعادة ترتيب بعض الأوراق لضمان الاستقرار في المنطقة ومنع تكرار ما حدث. ـمن الطبيعي أن تقترح أشكال مختلفة للترتيبات الأمنية في المنطقة، غير أن العماد الرئيسي لتلك الأشكال هو التواجد الغربي المتمثل في القوات الأميركية التي أنيط بها عبء حماية استقرار المنطقة. ـينبع السعي الأميركي لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة بعد حرب تحرير الكويت من حماية مصالحها فيها وضرورة الدفاع عنها، وارتكز هذا السعي على أساس ثنائي بالدرجة الأولى وذلك بالتعاون مع حلفائها بالمنطقة وحصر دورها العسكري في أي أزمة مستقبلية على ما يأتي: - إقامة مخازن طوارئ للعتاد العسكري والذخائر في دول المنطقة. - إقامة مركز متقدم للقيادة والسيطرة يكون مستعدًا لإدارة أي أعمال طارئة مستقبلاً. - إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع دول الخليج. - زيادة مبيعات الأسلحة والمعدات العسكرية لدول المنطقة. - زيادة الوجود البحري الأميركي في مياه الخليج. - مضاعفة الجهود الأميركية لتدريب القوات المسلحة لدول مجلس التعاون. 1ـ احتواء العراق ومنع ظهوره من جديد كقوة إقليمية قادرة على تهديد الاستقرار في المنطقة. لا شك أن السياسات الأميركية ناحية المنطقة تتغير بتغير سير البيت الأبيض، لكن ذلك لا يقلل من القناعة بوجود ثوابت تحكم الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة ناحية المنطقة والتي تضمن استمرار التفوق والتفرد الأميركي على مقدرات المنطقة بما يحقق مصالحها الحيوية من جهة ويحمي حلفاءها المقربين من جهة أخرى. ويلاحظ أن تلك الثوابت قد كانت بمنزلة الإطار أو السقف الذي حدد للرؤساء الأميركيين التحرك في سياقه وتحت ظلاله دون تجاوزه إلا في حالات استثنائية لا يتسع المجال هنا لذكرها، وكان التغيير متمثلاً في الأدوات والوسائل أو الطرق التي يمكن بها تحقيق هذه الثوابت، فإذا كان نيكسون قد أوكل مهمة الدفاع عن المصالح الأميركية الحيوية بالمنطقة إلى «رجل الشرطة» يعفيها من احتمالية التدخل المباشر، فإن كارتر عكف على تأسيس إطار أمني جديد يضمن لبلاده حماية مصالحها وذلك عبر إنشاء وحدات عسكرية للتدخل السريع، وهو ما تطور بشكل ما مع قدوم إدارة ريجان التي دعت إلى توزيع القوات الأميركية في كل من منطقتي حلف الأطلنطي والخليج التي باتت تحتل أولوية رئيسية «أولوية ثالثة بعد منطقتي اميركا الشمالية ومنطقة حلف الاطلسي»، مما يتطلب في النهاية مزيدًا من القواعد العسكرية، وكذلك كان مشروع الرئيس بوش الأب الشرق أوسطي الذي تضمن - كما تبين - ترتيبات أمنية تقضي بإقامة اتفاقيات دفاعية أمريكية مع دول الخليج والاحتفاظ بتواجد بحري أمريكي مستمر. ـرسمت الترتيبات التي وافق عليها الجانب الخليجي والأميركي بعد حرب تحرير الكويت الصورة التي استمرت زهاء السنوات العشر دون تغيير جوهري.