البحرين المتجددة بين النسيم والعاصفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت انوي الكتابة عن حادثة اعلامية جرت في الكويت طرفها الدكتور شفيق الغبرا، المستشار الإعلامي لدولة الكويت في واشنطن، لكن الحدث المهم في البحرين فرض نفسه، ورغم تفاعلي مع قضية الدكتور الغبرا، فان الحديث عن البحرين امر يتعدى حدودها ويمس الحضن الخليجي بشكل مباشر ومؤثر. منذ عامين ذهبت إلى واشنطن لالقاء محاضرات ومشاركة في ندوات رتبها المركز الإعلامي باشراف الدكتور الغبرا، ووجدت البرنامج مزدحماً باللقاءات والمحاضرات والزيارات، وفيت بها جميعاً تقديراً لحاجة الكويت إلى طرح آرائها حول قضايا اقليمية خليجية «علاقاتها مع ايران والعراق»، وقضايا عربية ودولية، وتنقلت معه إلى مختلف المنتديات، لأنه رتب هذه اللقاءات بسبب قوة اتصالاته ودقة التنظيم في عمله، وحسن اختيار مساعديه، وكان شفيق يساعدني في الندوات، وفي مداخلات تصب كلها لخانة التوضيح والتعريف والتثقيف. لأننا في الكويت، اصحاب قضية، لم تكتمل جوانبها، واصحاب ترابط استراتيجي وعسكري مع واشنطن، ونحن، مع الآخرين، ندور ضمن مناطق النفوذ التي تديرها الولايات المتحدة، لابد لنا من التواصل في الحوار والافكار. ابلغت الاعلامي الكويتي البارز، المشحون بالديناميكية، والطارد للقيود والبيروقراطية، رأيي في عمله في واشنطن، واقترحت عليه العودة بعد عام إلى الكويت، لأن انتماءه الاكاديمي ونزعته في العمل تدفع به إلى العودة إلى جامعة الكويت، وقد وافقني على ذلك، ولم يتمكن لأسباب كثيرة من العودة في الصيف الماضي، لكنه رسم برنامجه على العودة في الصيف المقبل. لم تمهله الظروف الكويتية السياسية التي يتداخل فيها حق التشريع مع امتيازات التنفيذ، والتي تضيع فيها الحدود والاختصاصات، البقاء إلى الصيف المقبل، لانه راح ضحية ليس بسبب اهمال من وزارة الإعلام، وليس بسبب حوارات مع النائب الطبطبائي، ولا بسبب اختلاف مع التجمعات الاسلامية، وانما هو ضحية اخرى للحالة الكويتية التي نعيشها منذ زمن وبالاخص منذ التحرير. وطالما نتحدث عن الحالة الكويتية فيكمن لنا ان نلتمس الاعذار للاشقاء في البحرين اذا ما اصابهم التهيب من المستقبل بعد خطاب الملك حمد بن عيسى آل خليفة «امير الدولة» يوم الخميس الماضي، الذي أعلن فيه اتخاذ خطوات جوهرية على الصعيدين الداخلي والاقليمي، بعد ان وافق مجلس الوزراء البحريني على مشروع مرسوم يقضي بانتخاب أعضاء المجالس البلدية، تمهيداً لرفعه إلى الملك حمد بن عيسى، وابرز ملامح المشروع هو اشراك المرأة في الانتخابات والترشيح لعضوية المجالس البلدية، واعتبار كل محافظة منطقة انتخابية تشمل الواحدة منها عشر دوائر يصدر قرار تشكيلها من رئيس الوزراء. وفي الخطاب التاريخي للملك حمد، أعلن امير الدولة، التعديلات الدستورية التي تحول البحرين من امارة متوارثة، إلى ملكية دستورية باسم يختلف عن الماضي، وبدء الحياة البرلمانية. كما هو متوقع اثارت تعديلات الملك الكثير من ردة الفعل من التجمعات السياسية، وكلها تلتقي في نقاط يجمع عليها اهل البحرين، وأبرز هذه النقاط حصر التعديل داخل صلاحيات المجلس التشريعي المنتخب، وصلاحية هذا المجلس، وعلاقته بالمجلس الاستشاري المعين، وكيفية اتخاذ القرارات، وهل من حق المجلس المنتخب وحده اتخاذ قرار التشريعات، أم يشارك المجلس الاستشاري؟. وهذه اسئلة في جوهر النظام النيابي المستقبلي في البحرين. وتتخوف المنابر السياسية من توسيع حقوق التشريع التي يجب حصرها في المجلس المنتخب، واعطاء جزء من هذه الحقوق للمجلس الاستشاري، وبما يسلب المجلس المنتخب حقوقه ويحيله إلى شبه رديف للمجلس الآخر. هناك تجربتان لابد من البحرين ان تستفيد منهما، وتستخلص العبر منهما، اولهما تجربة البحرين نفسها في بداية السبعينيات، وثانيهما تجربة الكويت التي تلقي بظلالها على واقع البحرين. في التجربة الأولى، عاشت البحرين جواً من الحرية الواسعة، واقرت برلماناً حيوياً ومتحركاً ومشاركاً، لم يكن فترينة زينة ولا ديكور واجهة، وانما كان مجلساً مجادلاً، اخذ مسئولياته بجدية، ولم تنجح التجربة ليس لضخامة العيوب في البرلمان، ولا بسبب استبدادية السلطة وضجرها، وانما لأسباب رددناها في تجربة الكويت، وأبرزها انعدام الشرط الدستوري الذي لا غنى عنه في الحياة البرلمانية، وهو قدرة الحكومة على اقرار التشريعات التي تطرحها على البرلمان من خلال الأغلبية المساندة لها. ولم تنجح تلك التجربة التي عاشتها البحرين لأن حكومة الشيخ خليفة بن سلمان واجهت برلماناً منفصلاً عنها، ليس لها فيه قواعد ولا مؤازرة برلمانية، مما ادى إلى اخفاقها في تمرير التشريعات التي تريدها، ولم يكن البرلمان آنذاك في مزاج يدفعه نحو الحلول الوسطية، وانما كان متمسكاً بالسقف العالي من الصلاحيات، وأدى ذلك الوضع إلى الشلل السياسي والتشريعي. واذا كان أهل البحرين نسوا تلك التجربة القديمة، فربما من المناسب الاطلاع على واقع الكويت الذي اخذت منه البحرين تجربتها الأولى، فكان الاخفاق نصيبها لأن البحرين غير الكويت البنية السياسية والاجتماعية وفي القدرة المالية وفي توفر المساحة الواسعة في هضم المخالفات المالية والدستورية والسلوكية. واذا القينا نظرة على واقع الكويت في الحالي، نتوصل الى تأخرها في اتخاذ التشريعات الجوهرية التي تتطلبها المرحلة الدقيقة، فمثلاً ما زال قانون التخصيص يعيش في ادراج مجلس الأمة، وقوانين اخرى، ترشيد الانفاق، الاستثمار في حقول الشمال، تدعيم القطاع الخاص، اعادة هيكلة الاقتصاد، مراجعة القوانين الاجتماعية التي خلفتها دولة الرفاة، التخلص من البيروقراطية المعوقة للتنمية، التوسع في دور القطاع الخاص في الخدمات والاتصالات. إلى آخر اللائحة الطويلة التي تثير الجدل وتشكل عقدة تجمدت حولها مساعي الكويت للحداثة والتطوير. لكن الكويت تعوض ذلك باجراءات توفرها الموارد المالية الضخمة، وكذلك سماحة أهل السلطة وتعودهم على المشاغبات و«النجرة». لابد ان يحرص اهل البحرين على سلامة المسيرة الحديثة، ولابد ان يتمثل هذا الحرص في الحفاظ على التجربة وحمايتها من الاخفاقات، وهناك شروط لابد من الالتزام بها، واحدد بعضها كأمثلة. أولاً: لا تستطيع البحرين، ولا دول الخليج القفز السريع والذهاب بالبحرين إلى أعلى نقطة في المنظومة الديمقراطية، فلا احد يتوقع ذلك، والبحرين ليست الدنمارك في تطورها الاجتماعي والسياسي وفي تقاليدها الديمقراطية.. ويجب قبول التدرج المتواصل. ثانياً: المطلوب من الجميع صياغة اجماع وطني شعبي تلتف حوله جموع الشعب بمختلف مشاربها، وصوغ مثل هذه المنظومة أمر لا مفر منه لنجاح مشروع الديمقراطية، ومهما قلت عن تجربة الكويت، فان لها خصائص أبرزها التلاحم والاجماع على الثوابت، ومن أهم هذه الثوابت الحفاظ على النظام السياسي الذي يحتمي به الجميع، ويدافع عنه الجميع، ولا يشكل جدلا أو خلافاً. ثالثاً: ستتعرض تجربة البحرين في البداية إلى الضجر والاخفاق، وسينتاب النظام خيبة أمل من بطء أو من مصطلحات نارية، أو من مواجهة عنترية، وعلى النظام ان يتقبلها ويستوعبها ويروضها، ولا يبالغ في عيوبها، ولا يغضب من نواقصها، واذا كان النظام في الكويت استوعب الصدمات والايذاءات بسبب فضيلة السماحة، فان النظام في البحرين مطلوب منه أكثر في هذه الفترة ان يوسع مساحة هذه السماحة التي هي من أبرز حراس التجربة في هذه المرحلة. رابعاً: ما مدى تأثير تجربة البحرين على مجلس التعاون؟، سؤال كلنا نواجهه، وأجزم بأنها تجربة تميل نحو التمديد الافقي، وانها ستكون، مثل تجربة الكويت، وتجارب اخرى في الدول، مادة غنية للدراسة والمتابعة والاقتباس.. مبروك للبحرين، عاشت لنا البحرين وعاش أهلها.

Email