كتاب الجماعات الاسلامية تعلن توبتها، الحلقة الثالثة، يجب وقف القتال اذا لم يحقق المصلحة التى شرع من أجلها

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعد هذا الكتاب الأول في سلسلة من الكتب المنتظرة أراد لها كاتبوها أن تكون بياناً لمفاهيم أسيء فهمها وتصحيحاً لممارسات اتضحت مجافاتها للصواب وتكميلاً لأمور ظهرت الحاجة ماسة إليها في مسيرة العمل الاسلامي، وهو يستمد أهميته من مضامينه، ومن كونها روجعت وأقرت بأيدي مجموعة من القادة التاريخيين للجماعة الاسلامية المصرية. وقد ألف هذا الكتاب أسامة حافظ وهو خريج كلية الهندسة جامعة المنيا، من مؤسسي الجماعة الاسلامية، ويعتبر المنظر الفكرى والسياسى للجماعة، وشارك في تأليف كتاب ميثاق العمل الاسلامى «الذى وضعته الجماعة الاسلامية ليكون بمثابة منهاج لعملها. وهو عضو بمجلس شورى الجماعة، وصدر بحقه حكم بالسجن عشر سنوات في قضية الجهاد الكبرى، وخرج من السجن عام 1991، لكنه عاد إليه مرة أخرى بداية عام 1993 ولا يزال سجينا حتى الآن في سجن ليمان طرة.أما المؤلف المشارك للكتاب، عاصم عبد الماجد محمد، فهو أيضا من مواليد محافظة المنيا، وتخرج من كلية الهندسة جامعة أسيوط، وشارك في الهجوم على مديرية أمن أسيوط عام 1981 وأصيب في المعارك التي دارت هناك مع الشرطة وألقي القبض عليه حيث صدر بحقه حكم بالسجن المؤبد، ولا يزال سجينا في سجن مزرعة طرة، وشارك أيضا في تأليف كتاب «ميثاق العمل الاسلامي». كيف بدأت الجماعة الاسلامية ولماذا تحولت الى العنف؟ سؤال مهم نحاول الاجابة عليه، ربما لمحاولة فهم كيف تدار هذه الجماعة من الداخل وتأثير مراجعاتها على أعضائها، الذين تقدرهم جماعات حقوقية بنحو 30 ألف شخص داخل السجون، بينما تذكر احصاءات وبيانات عن الداخلية المصرية انهم لا يزيدون على أربعة او خمسة آلاف. ونذكر هنا شهادتين، الأولى لصلاح هاشم، مؤسس الجماعة الاسلامية، والثانية لكمال حبيب أحد قادة فصائل تنظيم الجهاد عام 1981. يقول صلاح هاشم: «بدأت فكرة الجماعة الاسلامية عندما تركت بلدتى سوهاج وسافرت الى اسيوط للالتحاق بكلية الهندسة، كانت هناك جماعة دينية بالجامعة تمارس نشاطا طلابيا يقتصر على ندوة اسبوعية يحاضر فيها علماء الازهر كان ذلك عام 1972 بدأت الاستماع الى تلك المحاضرات، ولاحظت انه يغلب عليها الطابع الصوفى بينما تربيت أنا على فكر جمعية انصار السنة، والجمعية الشرعية فى سوهاج، لذلك اتفقت مع عدد من زملائى الطلبة على تغيير طابع الندوة الصوفى الى صبغة أهل السنة وبدأنا الاستعانة بعدد من المشايخ لالقاء المحاضرات تمثل هذا الفقه، منهم عبد الله السماوى ومصطفى درويش واستمرت هذه المحاضرات لمدة عامين تخللها اقناع الاخوات بالزى الاسلامي». ويضيف صلاح هاشم: عام 1985 كان العام الذى أعلنا فيه الجماعة الاسلامية فى هذا العام حضرت مجموعة من محافظة المنيا للالتحاق بكلية الطب فى اسيوط وتوسعنا مع المجموعة داخل المدينة والجامعة وفى مساجد الكلية، وأقمنا معسكرا اسلاميا فى نهاية العام الدراسى اتفقنا فيه على تغيير اسم الجماعة الدينية الى الجماعة الاسلامية. هكذا نشأت الجماعة الاسلامية بين طلبة جامعة اسيوط وكان اعضاؤها من محافظات الصعيد فى الوقت الذى كانت فيه جماعة الجهاد تعمل فى القاهرة وبعض محافظات الوجه البحرى اضافة الى جماعة الاخوان المسلمين. وحتى سنوات التأسيس الأولى لم يكن العنف طابع الجماعة. التحول البارز أما التحول البارز في مسيرة الجماعة فجاء فى بداية الثمانينيات خاصة حين بدأ بعض قادة الجهاد ومنهم محمد عبد السلام فرج فى السفر الى الصعيد ولقاء اعضاء الجماعة الاسلامية ووقعت احداث الفتنة الطائفية عام 1980 فى محافظة المنيا وهرب عدد من قيادات الجماعة الى القاهرة واختبأوا لدى قيادات الجهاد وبدأت افكار توحيد الجماعات الاسلامية وصولا الى لحظة التوحيد الكامل التى انتهت باغتيال الرئيس السادات عام 1981. وبعد المحاكمات بدأت المرحلة الثانية وهى مرحلة اعادة بناء الجماعة بعد سجن قادتها التاريخيين وانتشرت الجماعة الاسلامية مرة اخرى فى جامعات الصعيد، وشهدت سنوات الثمانينيات معارك مع جماعة الاخوان المسلمين ثم مع قوات الأمن على الرغم من ان الجماعة كان لها وجود علنى حتى قتل الناطق الرسمى باسمها علاء محيى الدين فى القاهرة عام 1990 ورأت الجماعة الاسلامية ان أجهزة الأمن هى التى اغتالته وردت باغتيال رئيس مجلس الشعب الاسبق الدكتور رفعت المحجوب لتدور طائفة العنف وظل الطرفان يتبادلان الاتهامات حول من بدأ العنف الأمن أم الجماعة الاسلامية؟ الموانع الشرعية نعود الى كتاب مبادرة وقف العنف وتحديدا الى الفصل الثالث الذى يحمل اسم «المانع» تقول الجماعة الاسلامية: يعرف الاصوليون المانع بأنه: ما يلزم من وجوده عدم الشيء أى: أنه أمر يحول وجوده دون وجود الحكم كالأبوة المانعة من القصاص عقوبة للقتل العمد العدوان. يقول الشوكاني: فى ارشاد الفحول الى تحقيق الحق من علم الأصول: «ان المانع وصف ظاهر منضبط يستلزم وجوده حكمه تستلزم عدم الحكم أو عدم السبب، وبمثل هذا قال الآمدى من قبله» ويقول د. عبد الوهاب خلاف فى تعريفه «هو ما يلزم من وجوده عدم الحكم او بطلان السبب » وقد قسمه الأصوليون الى قسمين وفقا لتأثيره فى الحكم ذاته أو فى سبب الحكم فمثال المانع المؤثر فى الحكم قتل الوارث لمورثه فهو مؤثر فى حكم الارث فيمنع التوارث ومثال المانع المؤثر فى السبب وجود دين على من ملك نصابا فهو مؤثر فى سبب وجود الزكاة الذى هو النصاب كما هو معلوم فلا تجب الزكاة على من ملك نصابا من المال وان حال عليه الحول طالما ان عليه دينا ينقص هذا النصاب أو يستغرقه كله فالدين هنا يسمى مانعا، وقد اثر هذا المانع فى الحكم على الرغم من توفر السبب الذى هو ملك النصاب وكذا فى الجهاد هناك اسباب توجيه مثل وجود عدوان أو خطر يتهدد ديار الاسلام او يتهدد أهل الاسلام وكذا وجود فتنة ونحو هذا من أسباب توجب الجهاد إما دفعا وإما ابتداء وطلبا وهناك كذلك موانع متى توافرات أو أحدهما سقط حكم الجهاد وحالت هذه الموانع بين المسلمين وبينه وهذه الموانع هى التى سنتحدث عنها بشئ من تفصيل. وقبل ان نسوقها مستدلين عليها بالكتاب والسنة وموضحين إياها بأقوال علماء الأمة من السلف الصالح نود ان نوضح ان بعض عبارات السلف وألفاظهم فى فتاواهم قد لا تنطبق تمام الانطباق على الواقع الذى نعيشه اليوم فنحن نتحدث اليوم عن قتال بين طائفة من الشباب المسلم وبين ضباط وجنود الشرطة ونحن لا نقول بكفرهم كما هو معلوم عنا لكن عبارات العلماء المنقولة عنهم تتحدث عن قتال بين مسلمين وكفار ولذا لزم التنويه لئلا يظن أحد أننا نقصد بالاستدلال بها تكفير افراد جهاز الشرطة مع أن هذا ليس مذهبنا. وانما سقنا هذه الأقوال لأمرين: الأول الاستدلال بها على ان الموانع المذكورة موانع معتبرة قال بها فقهاء السلف. الثانى الاستدلال على انه اذا كان هذا المانع معتبرا فى زمانهم ومع الكفار الأصليين المجمع على كفرهم فهو معتبر من باب أولى فى القتال الدائر اليوم بين طائفتين لا يكفر بعضهم بعضا أعنى الشباب ورجال الشرطة. ويمضى الكتاب بعد ذلك لعرض موانع القتال والتى يقسمها قادة الجماعة الاسلامية الى عشرة موانع. المانع الأول: إذا غلب على الظن ان الجهاد لن يحقق المصلحة التى شرع من أجلها، من المعلوم ان الجهاد لم يشرع لذاته، وليس مطلوبا لما فيه من إراقه دماء وأزهاق أرواح وقتل أنفس وتقطيع أطراف بل هو مشروع لغيره ولتحقيق مصلحة أو مصالح مشروعة من نصرة الدين وإزالة الفتنة ونحو ذلك. قال ابن عابدين رحمه الله فى هذا المعنى: ليس الا للايمان واقامة الصلاة فكان حسنا لغيره. وقال ايضا عن المقصود من الجهاد هو اخلاء الأرض من الفساد. قال ابن دقيق العيد: الأصل عدم اتلاف النفوس انما أبيح منه ما يقتضى دفع المفسدة. وقال شيخ الاسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية نحو ذلك وزاد: ان قتل الأنفس ولو كافرة مفسدة وانما ابيح للمصلحة، فإذا غلب على الظن ان الجهاد لن تتحقق من جرائه المصالح التى شرع لأجلها فقد انتفت مشروعيته وصار غير مطلوب شرعا أى: أن المكلفين غير مخاطبين به من قبل الشرع وناحيته.فمن أقدم عليه على الرغم من علمه بذلك فليس هو ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله عى العليا فهو فى سبيل الله» بل إنه يوشك ان يدخل ضمن من سئل عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن فى سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله العليا فهو فى سبيل الله» فإن غلب على الظن ان القتال لن يعلى دين الله وشرعه فلا يحل الخوض فيه ومن فعل ذلك فإنما يقاتل شجاعة اوحمية او ليرى مكانه أو لأى غرض آخر نحو ذلك وكله مذموم. يقول الشاطبى رحمه الله تعالى في كلام نفيس له: «لما ثبت أن الاحكام شرعت لمصالح العباد كانت الاعمال معتبرة بذلك لأنه مقصود الشارع فإذا كان الأمر فى ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال وان كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لنفسها وإنما قصد بها أمور أخرى هى معانيها وهى المصالح التى شرعت لأجلها». بقى أن يقال أنه إذا كان أى من طرفى القتال، وهما شباب الحركة الاسلامية ورجال الشرطة، لا يتهم الآخر بكفر أو خروج من الملة وكان القتال لا يفضى الى مصلحة فينبغى المسارعة الى إيقافه لأن الدماء المراقة دماء مسلمة حتى وإن كان بعضهم ظالما لبعض او باغيا عليه أو كان كل منهما يتهم الآخر بهذه التهمة. المانع الثانى: اذا تعارض القتال مع هداية الخلائق. ومعلوم ان الحكمة من إرسال وإنزال الكتب هى هداية الناس وقد قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأيها النبى إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعيا الى الله بإذنه وسراجاً منيراً)، وقال: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) وقال:» (ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى الى صراط مستقيم صراط الله الذى له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) وقد ورثت الأمة الاسلامية عن نبيها هذه المهمة هداية الخلائق قال الله سبحانه وتعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). وقد حث رسولنا صلى الله عليه وسلم على دعوة الناس والسعى فى هدايتهم فقال:« لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حمر النعم » وقال:« من دعا الى هدى كان له من الاجر مثل اجور من تبعه لاينقص ذلك من أجورهم شيئا». وكان خلفاؤه صلى الله عليه وسلم من بعده يقولون: «ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا» والآيات والأخبار المرفوعة والموقوفة والمقطوعة فى هذا كثيرة مشهورة وهداية الناس هى المطلب الأعظم لأى حركة اسلامية مقتفية أثر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن، بها تتحقق عبودية الله تعالى. والقتال ذاته لم يشرع الا لخدمة الدعوة وحمايتها من عدوان المعتدين وفتح السبيل أمامها وتحطيم القوى الجاهلية التى تمنع وصول الدعوة الى الناس أجمعين ولم يكن القتال قط مطلوبا لذاته أى لغاية وقد ورد فى الأحاديث ـ وقد تقدم بعضها ـ أمره صلى الله عليه وسلم لأمراء جنده ان يقدموا الدعوة على القتال واتفق الفقهاء على حرمة قتال من لم تبلغه الدعوة قبل دعوته وقالوا فإن كانت الدعوة قد بلغت فيستحب تكرارها: وكذا اتفقوا على ان من يطلب الأمان ليسمع القرآن ويعرف الى اى شئ يدعو هذا الدين وجب اعطاؤه الأمان وحرم قتله وقتاله حتى يسمع كلام الله ثم يجب بعد ذلك ان نبلغه مأمنه سواء آمن أو أعرض. كذا أجمعوا على ان أهل الكتاب يقرون فى ديار الاسلام بعقد الذمة والحكمة من وراء ذلك أن يسر لهم سماع الهدى والتأثر بالدين لعلهم يسلمون وهو ما حدث بالفعل فى بلاد كثيرة بعد الفتح الاسلامى. بل ان غالبية رسل الله لم يؤمروا بقتال ولا قاتلوا أقوامهم إنما هو البلاغ والدعوة وإقامة الحجة المجادلة بالتى هى أحسن. وأيضا ظل رسولنا صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة يدعو بمكة ولا يؤذن له بقتال ولو دفاعا او ردا لعدوان ولما أذن له فى القتال ظلت مهمة الدعوة منوطة به جنبا الى جنب مع الجهاد. كل هذا يدل على ان هداية الناس هى المطلب الأسمى وأن الدعوة والبلاغ والبيان مقدمة على القتال والنزال. وروى ابن اسحاق بسنده مرفوعا الى النبى صلى الله عليه وسلم:« لإسلام رجل واحد أحب الي من قتل الف كافر » فإن كانت كل من الدعوة والجهاد فى موطن ما يؤديان الى المطلوب من هداية الخلائق فلا شك فى ان الدعوة تقدم فى هذا المضمار ويكتفى بها وفيما ذكرناه آنفا الدليل على ذلك أما لو كان الجهاد غير مؤد الى المطلوب بل يؤدى الى عكسه أو لا يؤدى الى شيء أصلاً وكانت الدعوة هى العلاج الناجح فالدعوة وحدها هى الواجبة وهى الفريضة التى لا تزاحمها فريضة أخرى. «المانع الثالث العجز أي عدم القدرة» قال الله سبحانه وتعالى (لا يكلف الله نفسا الا وسعها). وقال عز وجل (فاتقوا الله ما استطعتم) وقال جل ذكره: (لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها ) ، وقال:(وما جعل عليكم فى الدين من حرج). وقد أجمع علماء المسلمين قاطبة من الصدر الأول الى يومنا هذا على أن مناط التكليف هو القدرة وأن العجز غير مكلف أصلا أى: أن الشارع لم يخاطبه بما يعجز عنه من أمر أو نهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى: وقيد الأمور بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة فقال الله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقال تعالى:(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ، وقال: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها)، (ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا)، (وليس على الضعفاء ولا المرض ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله). قال الشاطبى رحمه الله: إن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وقال ابن عابدين فى حاشيته الشهيرة «رد المختار» يجب على الإمام ان يبعث سرية الى دار الحرب كل سنة مرة او مرتين اذا غلب ظنه أنه يكافئهم والا فلا يباح قتالهم. وقال الشيخ محمد علاء الدين الحصكفى فى شرحه على تنوير الأبصار المعروفة بالدر المختار ما نصه: « لابد لفرضية. وقال صاحب تنوير الأبصار: وشرط لوجوبه القدرة على السلاح أضاف ابن عابدين فى حاشيته «وعلى القتال وملك الزاد والراحلة الى أن قال: وإلا سقط الوجوب لأن الطاعة بحسب الطاقة فتأمل». فإن قيل: هذا الذى ذكرتموه وذكره العلماء من العجز وعدم القدرة وعدم مكافأة العدو فى السلاح ونحوه يصلح حجة على إسقاط وجوب الجهاد لا مانعا منه وفرق بين الاثنين كبير لأن العجز يمنع الوجوب، لكنه لا يحظر الفعل فلعلكم وهمتم اذا جعلتموه مانعا يحظر الفعل. قلنا: ليس فى جعله مانعا وهم وذلك لأن الجهاد من الأمور الخطيرة، اذ فيه تستحل دماء وأموال بل وأبضاع وتحدث فيه غالبا نكايات شديدة في طرفى القتال كليهما فإن أقدم عليه البعض مع عجزهم وعدم قدرتهم فسيكون تحت ذلك ومن جرائه مفاسد عظيمة وفتن شديدة وهلكة للمسلمين فمن ثم لا عجب إن جعلنا العجز مانعا لا لذاته بل لما يترتب عليه. يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطى فى مؤلفه القيم: «فقه السيرة » أجمع جمهور الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدة بحيث يغلب على الظن أنهم سيقتلون من غير أى نكاية فى أعدائهم اذا ما اجمعوا قتالهم فينبغى ان تقدم هنا مصلحة حفظ النفس لأن المصلحة المقابلة وهى مصلحة حفظ الدين موهومة او منفية الوقوع ويقرر العز بن عبد السلام حرمة الخوض فى هذا الجهاد قائلا: «فإذا لم تحصل النكاية وجب الإنهزام لما فى الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكفار وإرغام اهل الاسلام وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس فى طيها مصلحة». قلت: القائل هنا هو الدكتور البوطى - وتقديم مصلحة حفظ النفس هنا من حيث الظاهر فقط أما من حيث الحقيقة فإنها فى الواقع مصلحة دين اذ المصلحة الدينية تقتضى فى مثل هذه الحال ان تبقى ارواح المسلمين سليمة لكى يتقدموا ويجاهدوا فى الميادين المفتوحة الاخرى والا فإن إهلاكهم يعتبر اضرار بالدين نفسه. والخلاصة: أنه يجب المسالمة أو الاسرار بالدعوة اذا كان الجهر أو القتال يضر بها انتهى والامر كما قال. المانع الرابع الهلكة قال الله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة) هذا نهى والنهى على ما تقرر فى علم الأصول يفيد التحريم فإن كان الجهاد لا يحقق شيئا سوى إهلاك الطائفة الداعية الى دين الله وإبادتهم واستئصال شأفتهم ومحو دعوتهم فلا مناص من القول بحظره ومنعه. قال الشوكانى فى تفسيره الآية السابقة: الحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكل ما صدق عليه أنه تهلكة فى الدين او الدنيا فهو داخل فى هذا وبه، وقال ابن جرير الطبرى ومن جملة ما يدخل تحت الآية: أن يقتحم الرجل فى الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين وأخرج ابن أبى حاتم عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أنهم حاصروا دمشق فأسرع رجل الى العدو وحده فعاب ذلك عليه المسلمون ورفع حديثه الى عمرو بن العاص فأرسل اليه فرده وقال: قال الله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة). فإن قيل لكن من الفقهاء من جوّز للفرد ان ينغمس فى صف العدو طلبا للشهادة قلنا إنما جوزوه اذا كانت وراءه مصلحة وكانت فيه إعانة على تحقيق النصر، أما إن كان انغماسه سيفضى الى قتله وسيصاحب ذلك تجرئه العدو والفت فى عضد المسلمين فلا مجال لإباحته ولو تصورنا ان احدا قال بإباحته فإنما قال فى حق فرد من جملة جيش أما ان يقال: ان الطائفة القائمة على امر الله الداعيه الى دينه ستنغمس كلها لتقتل دون ان يكون لديها مطمع فى تحقيق نصر أو إعلاء كلمة الدين فهذا لا يتصور إباحته بأية حال من الأحوال. قال الشيرازى فى كتابه الشهير «المهذب» ـ فيما إذا زاد العدو على ضعف جيش المسلمين ـ ما نصه: وإن غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمهم أن ينصرفون لقوله عز وجل: (ولاتلقوا بأيديكم الى التهلكة). والثانى: أنه يستحب لهم ان ينصرفوا ولا يلزمهم. فأقل ما قال به فى حق الجيش هو كراهة القتال وأما القول الأول فحرمة القتال وينبغى أن يكون القول بالحرمة هو الرأى المعتمد خاصة عندما لا يكون الهلاك مقصورا على جيش المسلمين بل سيتعدى الى الطائفة الصادعة بالحق الداعية الى الهدى الحاملة لواء الدين فما دام القتال سيؤدى الى إبادتها فلا أقل من القول بخطره. وبفارق هذا حال السابقين حيث كان الجيش وحده هو المعرض للهلاك أما الطائفة المؤمنة فبلاد الاسلام بها عامرة وأيضا يسهل على الامام تعويض الجيش ذاته أما حين يتقلص أهل الصلاح والهدى وينحصرون فى طوائف وجماعات قليلة العدد فلا يحل المغامرة محمود فكيف تجعله محظورا فى بعض الصور وقد بايع اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم نبيهم على الموت. قلنا لاتعارض يقول النووى رحمة الله: معنى البيعة على الموت ان نصير إن آل بنا ذلك الى الموت لا ان الموت مقصود فى نفسه. فطلب الشهادة ممدوح متى كان فى الإقدام والصبر على الجهاد والتعرض لأسباب الموت بالحرب والنزال مصلحة للإسلام. أما طلب الشهادة بمعنى: تمنى الموت وطلبه ذاته فلا وجه له وقد قال القرطبى رحمه الله بذلك وهذا فى حق الفرد او الافراد فكيف به فى حق المجموعة والطائفة بأسرها لا شك أنه أشد منعا. ولعل هلاك المسلمين هى احدى علل منع الجهاد وحظره بمكة حيث كان المسلمون افرادا معدودين فى مجتمع جاهلى لا شوكة لهم ولا منعة يمتنعون بها وليست لهم دار يأوون اليها فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الى المدينة وصارت دارا للاسلام أبيح الجهاد ثم فرض حيث لم يعدهناك احتمال لاستئصال الفئة المؤمنة نعم قد ينهزم جيشها كما حدث فى أحد أما استئصالها بالكلية فبعيد بل قد يستحيل أن تستأصل دولة ما دولة أخرى من الوجود وهذا ما لم يحدث قط حتى مع استخدام اشد الاسلحة فتكا فى عصورنا الحديثة أما الطوائف المتفرقة فى الديار والبلاد فيسهل استئصالها وإبادتها.

Email