بيان الاربعاء ــ إضاءة سورية ــ في معضلات الاصلاح السوري ــ بقلم: محمد جمال باروت

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو ان العلاقة الاضطرادية مابين (لبرلة) الاقتصاد او (تحريره) وما بين مأسسة المجتمع المدني قد غدت قاعدة ضرورية في كل البلدان التي شهدت او تشهد تحولا ملموسا من نمط اقتصاديات التخطيط المركزي الشامل الى اقتصاديات السوق, وما يميز هذه العلاقة في سوريا هو تعقيدها, اذ يصح على تجربتها خلاصة الدرس المتفق عليه من ان اقتصاديات التخطيط المركزي الشامل تنجح عادة في التشييد الا انها تفشل فشلا ذريعا في الادارة, وبلغة الاقتصاديين فان القطاع العام ينجح عادة بانجاز مهام النمو عن طريق التراكم التوسعي, الذي يبني المرتكزات التحتية الاقتصادية الاساسية, ويخلق نمطيا طبقة بيروقراطية جديدة, يفترض نمط التخطيط المركزي احكام سلطته المركزية على شتى نواحي المجتمع الاقتصادية والادارية والثقافية والسياسية والاجتماعية, في حين انه يفشل فشلا ذريعا في الادارة او في انجاز مهام (النمو عن طريق التراكم المكثف) الذي يقوم اساسا على اطلاق آلية الاستحداث الاداري والتقني والسياسي. ان المضمون السوسيولوجي لعملية التحول مما يسميه الاقتصاديون من (النمو التوسعي) الي (النمو المكثف) هو على وجه الدقة ما يتعارف المشتغلون في العلوم السياسية والاجتماعية على تسميته بـ (المجتمع المدني) وما حدث في سوريا ان مناقشة عملية التحول تلك قد اخذت داخل الطبقة البيروقراطية المسيطرة ابعادا سجالية استقطابية حادة, كانت مركزة بشكل جوهري على المفعولات السياسية لذلك, ويبدو واضحا ان برنامج الرئيس السوري الدكتور بشار الاسد قبل استلامه السلطة وبعدها لم يقم في حل معضلات ذلك التحول على تنفيذ وصفة (الخصخصة) الليبرالية الجديدة للقطاع العام, بل على محاولة اكسابه آليات السوق في اطار الحفاظ على طبيعة الملكية الاجتماعية العامة له, اي في النهاية ملكية الدولة, ولكن عبر الفصل مابين الادارة والملكية . ويكمن هنا مغزى الخطوة التجريبية التي تمت قبل استلامه السلطة في استبدال نظام الادارة بالاوامر بنظام الادارة بالاهداف الذي ووجه بتضييق مباشر من الطبقة البيروقراطية الحزبية والسياسية العليا. وبكلام ابسط ينبني البرنامج على مايبدو على تبني اقتصاد السوق وليس مجتمع السوق, وهو ما يقترب بشكل غامض في بعض النقاط من اطروحة جيدنز عن (الطريق الثالث) الذي يفترض هنا في التجربة السورية ان الدولة مازالت متمسكة بوظائفها كدولة رعاية اجتماعية تتخطى حدود دولة الجباية. لكن المشكلات الفعلية اكثر تعقيدا بكثير من هذه الاطر النظرية, واثارت في سوريا وما زالت تثير اشكالية الاندماج في الاقتصاد العالمي اي اشكالية التعولم, لاسيما وان سوريا قد دخلت في شراكات اقليمية ودولية تدفع بهذا الاتجاه وصحيح ان القيادة السورية قد تميزت منذ ثلاثين عاما على الاقل باحكام سيطرتها على سلطة القرار الاقتصادي الا ان هذ الاحكام لم تحقق نتائج في نسبة النمو, وفي اطار حكومة الدكتور محمد مصطفى ميرو الحالية التي صممها الرئيس الشاب قبل استلامه السلطة بشكل تعكس فيه توازنات عملية التحول تلك ثار جدل حاد بين بعض اعضاء الحكومة الذين يدفعون نحو مزيد من (اللبرلة) الاقتصادية دون المس مبدئيا بالقطاع العام وبين بعض آخر يتمسك بدور الدولة وبأولوية اصلاح القطاع العام. وقد مثل الدكتور عصام الزعيم وزير التخطيط الذي استقدمه الدكتور الاسد من عمله في منظمة الامم المتحدة الى الوزارة هذا المنحى الثاني الذي يمكن تلخيص وجهة نظره بالمثال التالي: قبل ان نفتح سوقا لاسهم علينا ان نقوم باصلاح البنية المصرفية الرثة جذريا. ويطرح هذا المنحى المثال التالي: قبل ان نفتح سوقا للاسهم علينا ان نقوم باصلاح البنية المصرفية جذريا. ويطرح هذا المنحى بالتالي اصلاحا اداريا وتقنيا جذريا للقطاع العام قبل الاقبال على اية خطوات (ليبرالية) اقتصادية اخرى. لا ريب ان الخلاف هنا يعبر على نحو ما عن الاستقطاب مابين عقليتين لكل منهما مرجعية مختلفة. وقد سبق للدكتور الاسد قبل توليه السلطة ان اعتبر عدم التجانس هذا من قبيل ضرورة وجود آراء متعددة ومختلفة يحدد المستوى السياسي في النهاية اختيارها وصياغتها في قرار, كما اكد ذلك بعد استلامه السلطة ولكن هذه المرة في شكل صريح, وفي كل الاحوال يمكن القول ان برنامج الرئيس يقوم على اولوية الاصلاح الاقتصادي والاداري في اطار منهج مفتوح لا يرهن الاصلاح باي صيغة نهائية مسبقة, وبما يتسق اتساقا كاملا مع فلسفة الاستقرار وسيطرة الدولة على قرارها السياسي. الا ان هذا البرنامج يرجىء الاصلاح السياسي الذي يقوم على بناء مؤسسات المجتمع المدني الى مرحلة اخرى, فالبرنامج يعترف بالترابط ما بين ميادين الاصلاح الاقتصادية والادارية والسياسية, الا انه يعيد ترتيب اولوياته من داخل الاعتراف بالاصلاح السياسي كمرحلة تالية. وهنا يكمن جوهر الاشكالية السورية. اذ ان مصدر التخوف الاساسي يتمثل في تخوف الجهاز من احتمال عدم مقدرته على استيعاب مفعولات ومضاعفات الاصلاح السياسي بالشكل الذي يطرح؟ لكن ذلك السؤال يبقى قائما: هل يمكن تحقيق الاصلاح الاقتصادي والاداري بمعزل عن هذا الاصلاح السياسي؟ ومن الواضح ان برنامج الرئيس يتفادى الحديث عن اولويات الاصلاح السياسي, الا ان هناك افعالا ملموسة تتم بهدوء وعلى الارض ودون اكتراث اعلامي وطني رسمي ام غير رسمي بها, تصب في اطار تقديم نوع من مقدمات موضوعية لذلك الاصلاح؟ هل هذه المقدمات كافية؟ ما شكلها وما آفاقها؟ لكن ماهي؟ لنا موعد مع ذلك في المقال المقبل.

Email