بيان الاربعاء ــ شارون وأحكام لوكيربي يمددان بقاء الحظر, بوش لن ينجو من إدمان العقوبات

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت الامور تمضي في مسار طيب .. فحين تولت ادارة الرئيس بوش مهامها الشهر الماضي بدا وكأن واشنطن بدأت رحلة الشفاء من ادمان فرض العقوبات الاقتصادية على عباد الله في كل مكان .. ففي التسعينيات وجد الكونجرس ان بوسعه ان يقحم انفه في شئون السياسة الخارجية, وهي عادة من اختصاصات البيت الابيض, فبدأ يفرض العقوبات الاقتصادية على هذا البلد, ثم ذاك, ثم هذا وذاك, ثم الجميع بعد ذلك, حتى بدا وكأن هذا المجلس التشريعي سيفرضها على من يمر في الشارع المواجه لمبنى كابيتول هيل. ثم ما لبثت الامور ان وصلت الى مستويات عبثية, فقد قرر الكونجرس ان يفرض العقوبات على اي شركة تتعامل مع اي بلد مستهدف, فاذا كان هذا البلد هو ليبيا او سوريا او ايران او السودان, واذا كانت الشركة ايطالية او روسية او فرنسية او بلجيكية, فان الكونجرس قرر ان يجلس في المساحة بين الطرفين, اي حيث لا مكان له من وجهة نظر القانون الدولي, اذ ما شأن اي برلمان في العالم بالعلاقة بين طرفين يبعدان عنه آلاف الاميال؟ ثم قرر الكونجرس ان يعاقب الطرفين معا. البعض منا يتذكر معركة المقاطعة العربية لاسرائيل, ومنطق واشنطن الرافض (لادخال السياسة في التجارة والاستثمار) سمعنا وقتذاك خطبا فصيحة حول ضرورة انهاء هذه المقاطعة ــ العادلة ــ بسبب تناقضها مع القانون الدولي, ولكن لهذا القانون الدولي ــ كما ندرك الآن ــ تعريفات كثيرة, واحد منها يخص الولايات المتحدة وحدها, والبقية تتوزع على الآخرين. المهم ان الكونجرس ــ والادارة الى حد ما ــ رأى في (سلاح) المقاطعة الاقتصادية اسلوبا بسيطا ورخيصا لفرض اهداف محددة في سياسة الولايات المتحدة قد لا تتفق مع مصالح .. الولايات المتحدة. ذلك ان الكونجرس ــ باعتباره سلة تتفاعل فيها كل اللوبيات والتبرعات والتحالفات والصفقات لا يسن بالضرورة قوانين مدروسة تتفق مع مصالح البلاد .. بدليل رفض الادارة في مئات الحالات لتطبيق تشريعات الكونجرس .. فاما ان الادارة لم تكن تمثل مصالح الولايات المتحدة برفضها لهذه التشريعات, واما ان الكونجرس هو الذي لم يهتم بهذه المصالح خلال اصدارها, اذ ليس من المنطقي ان يكون من سن القانون ومن رفض يمثلان مصلحة واحدة. حرب بلا سلاح لقد كانت المقاطعة حربا بلا سلاح, بلا جنود, بلا اعلان حرب, بلا قتال, بل وبلا اطلاق رصاصة واحدة, فاذا سأل احدهم عن مصدر (السلطة) التي منحتها واشنطن لنفسها على ساحة العالم, او عن سبب اذعان بقية الدول لتشريع يمس صلب سيادتها على قرارها المستقل, لكانت الاجابة كلمة واحدة: العضلات .. من لديه العضلات الاقتصادية والعسكرية والسياسية بوسعه ان يطلب تفصيل تفسير خاص للقانون الدولي (على مقاسه) هو, لا يشاركه فيه احد غيره. ولكن فلنعد الى حكاية بوش . ذلك ان الرئيس الجديد قال خلال حملته الانتخابية ان سياسة فرض العقوبات الاقتصادية (بالجملة) تؤدي الى الاضرار بالمصالح الامريكية من حيث كونها تتيح الفرصة لشركات دول اخرى ان تلعب وحدها على ساحة الدول المدرجة على (القائمة السوداء). في حالة شركات النفط مثلا حقق الاوروبيون انجازات هامة في ليبيا منذ تعليق العقوبات عام ,1999 اي حين سلمت ليبيا المتهمين في قضية لوكيربي الى المملكة الاسكتلندية. ولمنع المنافسين من دخول هذه الساحات التي قررت واشنطن ـ بمزاجها كما يقولون ــ الا تدخلها قرر الكونجرس معاقبة اي شركة تستثمر في الدول المغضوب عليها اكثر من 20 مليون دولار كان المنطق تعسفيا بصورة واضحة, ذلك ان الامريكيين كانوا يقولون (لن نرحم ولن نترك رحمة الله وشأنها) . لن ندخل هذه الدول, ولن يدخلها احد غيرنا .. بالعافية. وقال بوش ان هذا المنطق مرفوض ليس لانه متعسف وجائر ويخالف القانون الدولي, ولكن لانه يحرم الشركات الامريكية من فرص كثيرة اقتنصتها شركات دول اخرى بعد ان تمكنت من الالتفاف حول قوانين العقوبات الامريكية بشكل او بآخر . ولكن المهم على اي حال ان بوش تعهد بانهاء هذه السياسة اذا فاز بالانتخابات, وكذا فعل نائبه ديك تشيني الذي كان وقتها يرأس شركة هاليبرتون النفطية المعروفة (تبين مؤخرا ان هاليبرتون كان لها طول الوقت مكتبا في طهران ولكن تحت اسم آخر). وفاز بوش وتشيني وبدأ الحديث حول الغاء سياسة العقوبات الاقتصادية يعلو في واشنطن, حتى بدا الامر وكأنه (قضية منتهية), عزز من ذلك ان الجنرال كولن باول انتقد هذه السياسة بعبارات واضحة خلال جلسات اعتماد تعيينه وزيرا للخارجية امام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ, بل ان باول قال لاعضاء اللجنة بعبارات لا تخلو من حدة اقول لكم توقفوا عن هذا توقفوا اسألونا اولا وسوف نرى معا ما يتعين علينا عمله .. عقب ذلك كرر تشيني تعهده باعادة النظر في قانون العقوبات المسمى (قانون العقوبات على ليبيا وايران). ولان مفعول هذا القانون ينتهي في اغسطس المقبل فقد توقعنا جميعا ان تبدأ الادارة مشوار تفكيك القانون تدريجيا حتى نصل الى قرار بعدم تجديده في اغسطس الا ان (احدهم) اشار على الادارة بان اسقاط مفعول هذا القانون سوف يترك (فراغا) وان على الادارة ان تملأ هذا الفراغ بوضع شروط (عامة) لتطبيع العلاقات مع الدولتين, وتمت صياغة هذه الشروط في ثلاث نقاط: التوقف عن معارضة عملية السلام, والتوقف عن محاولات امتلاك اسلحة الدمار الشامل, والتوقف عن دعم الجماعات الارهابية. ملء الفراغ ولو نظرنا اولا الى حكاية ملء الفراغ هذه لوجدناها هي نفسها فارغة, ذلك ان اسقاط قانون العقوبات المذكور لن يترك فراغا من اي نوع, انه فقط سيعيدنا الى منطق الولايات المتحدة نفسها عند رفضها لاسلوب مقاطعة الدول العربية للشركات الدولية التي تتعامل مع اسرائيل. ثم اننا لو نظرنا الى (شرط) معارضة عملية السلام فسوف نكتشف فورا مدى قابلية تفسيراته لطلبات التوصيل الى المنازل, او التفصيل حسب المقاس. ذلك ان كل الدول العربية بلا استثناء لها رأيها الخاص في مواقف اسرائيل والفلسطينيين, وهي اراء لا تتفق بالتمام والكمال مع بعضها البعض, ولا مع الاراء الفلسطينية في كل الحالات, انها تتباين في هذا الجانب او ذاك, ومن باب الحرص على اقرار سلام حقيقي, ليس من باب الرغبة في مواصلة النزال بسبب وبلا سبب, اذ ليس هناك نزال من الاصل, الا بين الحجر الفلسطيني والدبابة الاسرائيلية. ويسري الوضع نفسه على (شرط) تجنب اسلحة الدمار الشامل. اذ ان لدى اسرائيل هذه الاسلحة, ولكنها ليست لدى ليبيا مثلا . الا ان الشرط يوضع على .. ليبيا, وعلى ايران وعلى سوريا, وعلى الجميع وبوسع واشنطن التي وصلت بفنون مط اللغة وتوسعة مقاس الكلمات ــ الى حد الاعجاز, اذ انها حين ترفض امتلاك الدول لاسلحة الدمار الشمال, فانها لا تقصد اسرائيل, ولكنها تقصد تشاد وبوروندي مثلا. وهكذا الحال بالنسبة لجماعات الارهاب .. اننا لا نزال نذكر ان ادارة الرئيس ريجان رفضت منح ياسر عرفات تأشيرة دخول الى الولايات المتحدة لالقاء كلمة امام الامم المتحدة بدعوى انه اخطر ارهابي في العالم, ثم ما لبثت ان دعته بعد ذلك بسنوات لدخول البيت الابيض حين تغير مزاجها. كثيرا ما تبدو السياسة الامريكية وكأنها تعاني من (ادمان) ما .. احيانا فوق, واحيانا تحت, وقد آملنا ان تعيد ادارة الرئيس بوش النظر في سياسة العقوبات هذه وذلك بحكم املنا انها دخلت مرحلة الـ (فوق), ولكن هذه الشروط السياسية الثلاثة لا تطمئن, ذلك انها تتيح لجماعات التأثير الاسرائيلي تفسيرها على هواها, ومن ثم احراج الادارة نفسها. فضلا عن هذا فان المفترض الا تخلط بين السياسة والتجارة كما (علمتنا) واشنطن في خطب سابقة مسهبة ومملة, وهي خطب لا تطبقها الولايات المتحدة على نفسها, ولكنها تطلب ــ فحسب ــ من الآخرين تطبيقها على انفسهم. والمشكلة ــ مثلا ــ ان احداث الايام القليلة السابقة قد تعرقل مسعى الادارة نفسها نحو تفكيك قانون العقوبات وذلك بسبب التحفظات التي وضعتها هذه الادارة نفسها على هذا الالغاء, اي حكاية استبدال القانون بالشروط الثلاثة المذكورة, ذلك ان انتخاب آرييل شارون جعل من كل الدول العربية رافضة للتفاوض مع اسرائيل بشروط الحكومة الجديدة, فهل يعني ذلك انه يحق علينا جميعا التمتع بنصيبنا من لعنة العقوبات الامريكية؟. ليس بوسع ليبيا او ايران او اي دولة عربية او اسلامية ان تدعم تفاوضا مع شارون يبدأ من عبارة ان القدس ستبقى عاصمة ابدية موحدة لدولة اسرائيل, فاذا اصرت الحكومة الامريكية على فرض شرط عدم معارضة عملية السلام كبديل لقانون العقوبات فان ذلك يعني ان العقوبات ستبقى. فضلا عن هذا فان الرئيس بوش اوضح بسبب القيد الذي وضعه بنفسه على سياسته ــ انه لن يستطيع رفع العقوبات عن ليبيا بعد ادانة احد المتهمين الليبيين في حادثة لوكيربي. ورغم ان هناك (اخذ وعطاء) الآن للبحث عن مخرج, ربما عن طريق تعويض عائلات المفقودين في الحادث بعد الاتفاق على مبالغ معقولة تدفعها طرابلس دون ان تقبل بالضرورة بتحمل مسئولية الانفجار, فان هذه الاتصالات سوف تستغرق وقتا اطول بكثير من المسافة الزمنية التي تفصلنا الآن عن اغسطس المقبل. من الصعب ــ باختصار ــ فهم الطريقة التي يمكن بها للرئيس بوش وادارته ان يسقطا قانون العقوبات الاقتصادية المشار اليه وذلك عندما تحين لحظة النظر فيه الصيف المقبل, ولكن الاخطر هو ان الادارة الجديدة لم تعلن بصورة مبدئية واضحة, وبنبرة لا يشوبها التردد, انها ترفض الربط بين السياسة والتجارة, وانها من ثم سوف تسقط كل قوانين العقوبات الاقتصادية التي اتخذت لاسباب سياسية, وبذلك تعود الامور الى سياقها الطبيعي المفهوم بعد ان (تفيق) واشنطن ــ من آثار (جريمة) التسعينيات التي زادت عن المألوف فاسفرت عن سياسة فرض العقوبات الاقتصادية على الجميع. ان ما يتحتم قوله الآن ـ في واشنطن ــ هو اسقاط اي ربط بين عالمي الاستثمار والتجارة والاعمال من جهة, والسياسة والمناورات والديبلوماسية والسلاح من جهة اخرى ذلك ان الفصل بين هذين العالمين سيفيد الجميع ــ واول الجميع الولايات المتحدة نفسها. واشنطن ــ عصام عبدالعزيز:

Email