بيان الاربعاء ــ جمعيات السلام الأوروبية: أمريكا تخطط لاذكاء الصراعات والفتن الطائفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت العاصمة البلجيكية بروكسل مؤخرا واحدا من اخطر المؤتمرات الاوروبية التي تجمعت فيها اكثر من عشر جمعيات لحركات السلام الاوروبية وخبراء من النشطاء القدامى في التصدي لانتشار الاسلحة النووية في العالم, وخبراء من استراتيجية الحروب الحديثة, ولقد كشفت فعاليات المؤتمر الذي اقتصر على المشاركين فيه بعيدا عن كاميرات واقلام وسائل الاعلام, عن وجود مخططات امريكية لإذكاء الصراعات واشعال الفتن الطائفية وتحريض الاقليات المعارضة في العالم على حكومات بلادهم, في الوقت الذي تدعم الحكومات في ضرب المعارضة والتصدي لها تحت زعم محاربة الارهاب. حصل (بيان الاربعاء) في بروكسل على ما تضمنته اوراق المؤتمر من مصادره الخاصة, وجاء في بيان افتتاح المؤتمر: ازمة افريقيا واوروبا الشرقية منحتنا في الغرب نوعا من مشاعر الثقافة السوبر, وان المصائب دائما بعيدة عن الساحة الاوروبية, كما ان شعورنا اننا نذهب لهذه المناطق لتقديم المساعدة يؤكد رسوخ نظرية وعقد التفوق بداخلنا في اوروبا, ليس لدينا شاغل الا توجيه النقد لمناطق الازمات, ولقد حضرنا إلى هنا لرصد سلوكيات الاجندة السرية للاتحاد الاوروبي وامريكا, ونكشف كيف قامت امريكا بعلم الغرب بعمليات عسكرية غير نظيفة في كولومبيا ومنطقة البلقان, فهل ننتظر حربا فيتنامية جديدة في اوروبا أو اي منطقة اخرى في العالم, فنحن في اوروبا لا نريد ان تسري عدوى الامريكان لاوروبا, ولم نأت لتوجيه النقد فقط للامريكيين بل لنبحث عن تأسيس حوائط تقينا شر الوقوع في فخ الصراعات العسكرية واهدار حقوق الانسان الضعيف في مناطق اخرى من العالم, ونتأكد ان الوقت قد حان لتأسيس اتحاد لحركات السلام الاوروبية, واعادة التصدي للامبريالية العالمية, ولنجعل من ذكرى رحيل غاندي مصدر الهام للمبادرة, ففي نهاية عام 1988 دعى 20 من الحاصلين على جائزة نوبل للسلام إلى نبذ العنف, ومنهم نيلسون مانديلا, ياسر عرفات والدالاي لاما. ووجه هؤلاء نداء لزعماء العالم ان يكون العقد الاول من القرن الجديد بدون عنف أي (قرن حضاري), وكان نداء الامم المتحدة بعد ذلك بموافقة اجماعية العام الماضي على الاصرار على ان السلام هو مؤشر بأن العالم يأخذ بنظرية وفلسفة غاندي رمزا للطريق إلى السلام, لكن للاسف توجد اصابع شيطانية قابعة في الخلف وتوقد في الظلام نيران الحروب. المهاتما ملهم السلام كانت الورقة الثانية في المؤتمر عن غاندي حيث جاء فيها ان شهر اكتوبر الماضي شهد مرور 52 عاما على وفاة المهاتما غاندي الذي قُتل برصاص المتطرفين الهندوس في 2 اكتوبر عام ,1948 وذكرى هذا الرجل لم يتمكن التاريخ من محوها, فحتى اليوم بقيت شخصية الرجل جذابة ومثيرة لاهتمام مؤرخي العصر الحديث وكُتاب السياسة, كما ان ميراثه ايضا بقى حيا, وذلك لفلسفته في فكره ونمط حياته واساليب كفاحه, فالرجل كان يتميز بثالوث فريد من نوعه من ناحية: * الوسائل والنموذج البديل في طرح حلول الصراعات. * قُدرته الفعالة في الابحار وبيده دفة قيادة حركة التحرر. * فلسفته في الحياة قولا وعملا. وتمكن غاندي من منح شرائح الامة البسيطة وفقراءها اسلحة تعينهم علي استرداد حريتهم, وهو ذات السلاح الذي مكنهم من تجميع وتوحيد طاقات الامة, وبذلك حطم غاندي نظرية الانسان في حل الصراعات بالحجر والسكين وحديثا بالصواريخ والدبابات, واثبت وجود بديل للعنف, هو الكفاح بالسلم باصرار وفعالية واخلاق حميدة جذبت انظار حكومات شعوب العالم بجنرالاته وجيوشه. قال المهاتما غاندي في عام 1940 ان البريطانيين يريدون شن حرب بالاسلحة الميكانيكية, لكننا نستطيع هزيمتهم فيما لو تمكنا من تصعيد الصراع باستخدام اسلحتنا التي نملكها, وكان يقصد بذلك سلاح اللاعنف وقوة العدد وبالمقاومة عن طريق المقاطعة, وباختصار قول: لا للنظام السيىء ومقاومة الضغط والقهر, ومن امثلة هذه الفلسفة مارثاون الملح وذلك حينما حرّمت بريطانيا على الهند استخراج الملح لمصلحة المصانع البريطانية, وقام غاندي باستخراج الملح بنفسه من مياه البحر, وحرض شعب الهند حينما ضرب لهم المثل على العصيان الجماعي, وكان من الصعب ان يضع المستعمر البريطاني كل شعب الهند في السجن, ثم أدى نجاح هذه العملية لاتخاذ غاندي الخطوة الثانية بمقاطعة المنسوجات البريطانية ووجه لهذه الصناعة ضربة قاصمة قضت على احتكارهم لها, عندما طلب من الشعب الهندي ان يصنع ملابسه بنفسه, وضرب لهم مثلا حينما بدأ هو بغزل ملابسه, ونجد من هذا ان المهاتما غاندي لم يقف عند حد طرح فلسفته بل أوجد الحل البديل وامكانية تنفيذه, وبذلك علم شعبه الاعتماد على النفس. لقد عاش غاندي في القرن العشرين الذي افتقر للسلام, ذلك القرن الذي شهد حربين عالميتين الاولى والثانية, وتبعتهما الحرب الباردة التي استمرت طيلة خمسة عقود من الزمن هددت البشرية باستخدام الاسلحة النووية وبثت في نفوسهم الخوف, وهو القرن الذي سيطرت عليه افكار الثورات المسلحة التي كان (كارل ماركس, لينين, وتروتسكي يروجون لها ووجدوا لها انصارا, كما ان فهم العالم حكومات وشعوبا اقتصر على ان الامن لا يتوفر الا بالسلاح, وما اطلق عليه بالعنف الشرعي, كانت شعارات عاشت الشعوب اسيرة لها, لكن غاندي رفضها كاملة وقال: (على الرغم من انني اتفهم الاسباب التي تدفع الشعوب لاستخدام العنف وسيلة للتحرير واستعادة حقوقها المشروعة, الا انني ضد العنف مهما كانت الاهداف النبيلة التي تكمن وراءه), وبصوت اشبه بطلاسم السحرة قال غاندي: (نتائج العنف دائما مؤقتة وحتى ولو نجحت فان توابعها السيئة تبقى ابد الدهر), كما ان الثورات المسلحة كانت هي موضة القرن الماضي لمدة طويلة, وليس فقط في امريكا الجنوبية بل في الهند ايضا كان لها انصارها, وقال غاندي ذات مرة لمجموعة من الشباب الثوار: (انتم تتحدثون دائما عن الثورة وانا ايضا قررت عمل ثورة, لكن قبل ذلك أسألكم: ما هي ثورية العنف هذه؟ لو كنتم تحبون شعوبكم حقيقة ساعدوني لاظهار كيف تعطي شعوبكم ظهورها للعنف وتحقق انتصارها على الخوف). ولكي نعرف ان غاندي حتى اليوم له بصمات وعلامات غائرة في صدر التاريخ يجب قراءة بعض من افرازات ونتائج فلسفته لثورة الروح, وخاصة في الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية, واهمها نشوء حركات السلام وحقوق الانسان في العالم وابرزها حركة مارتن لوثر كنج وكفاحه ضد العنصرية, وكانت بداية لنبته طيبة اثارت الذعر في نفوس الادارة الامريكية, ولا ننسى النرويج حينما تفجرت شرارة ثورة المدرسين وهي المقاومة التلقائية غير المنظمة بقيام اكثر من 75% من المدرسين بالاحتياج على خطة تعليم النازية, واشترك في الاحتجاج معهم القساوسة, وبالفعل نجحت حركة العصيان الجماعي وقرر (ادولف هتلر) الغاء مناهج التعليم النازية. ولا ابالغ القول في ان الثورة البيضاء للمهاتما غاندي حققت نتائج افضل مما حققته الحربين العالميتين الاولى والثانية, وفي امريكا الجنوبية وجنوب افريقيا ايضا نجحت المقاومة السلمية بعد عام ,1945 كما احرزت الفلبين نتائج جيدة بانتصار الشعب الفلبيني في كفاحه ضد الديكتاتور ماركوس, كما ان الانتفاضة الشعبية الفلسطينية المدنية التلقائية نجحت في بدايتها فيما فشلت فيه الفصائل الفلسطينية المسلحة لسنوات طويلة, حتى ان الانتفاضة تسببت في اضطراب مضاجعهم وقال بعضهم بالحرف الواحد: (الجيش يستطيع ان يهزم جيشا لكن الجيش المسلح لا يستطيع ان يهزم الشعب). واتضح ان نظرية اللاعنف نجحت في اوروبا الشرقية واثبتت فعاليتها حيث قضت على الحكومات الشيوعية التي كانت تقهر وتضغط على شعوبها, فكانت المظاهرات, حركات المقاطعة, الاضرابات, تشابك وتضافر جهود المواطنين هي وسائل المقاومة السلمية في بولندا, تشيكيا, المجر, بلغاريا, دول البلطيق, كما لا ننسى المانيا الشرقية, وفي عام 1953 كانت مرحلة شهدت اضرابات عمال المصانع بدون عنف, وهو الامر الذي اجبر حكومتي روسيا وبولندا على عدم استخدام السلاح في قمع المظاهرات والاضرابات, كما ان حائط برلين رمز الحرب الباردة تحطم في عام 1989 دون اطلاق رصاصة واحدة, واليوم سنثبت انه بعد منتصف قرن من الزمان من وفاة غاندي ان تأثير فلسفة المهاتما على ارادة الشعوب لم تتراجع بل تتنامى. اقوى من السلاح تتزايد بشكل مُدهش الحركات والمنظمات التي تنشط في العمل وتدعو لنزع الحقوق المغتصبة للشعوب بدون استخدام العنف, وتتوقف عملية تحقيق النتائج والاهداف على مدى قوة قادة المعارضة وانصارها في التنبه لقوة العدد وتعبئة الجماهير, ونستدل على ذلك بخروج الشعب اليوغسلافي في بلجراد على مدار 88 يوما للشوارع احتجاجا على نتائج الانتخابات البلدية وقال الشعب (لا) مؤكدا عدم اعترافه بها, ورضخ الرئيس اليوغسلافي ميلوسيفيتش لهم ايضا بعد انتخابات الرئاسة اليوغسلافية في 24 سبتمبر الماضي, وبذلك اعادت المعارضة اليوغسلافية لأيديها سلاح الرفض لتقول كلمة (لا). ويبدو ان العالم دخل اليوم مرحلة جديدة تقوض النظريات الماركسية واللينينية التي تدعو للثورات المسلحة وتتجه غالبية الشعوب المقهورة الان نحو محاربة الظلم والانتصار عليه باستخدام اسلوب (المهاتما غاندي) وشهد العقد الاخير انتصارات سلمية لجمعيات مقاومة مثل السلام الاخضر التي نجحت في منع الحكومة الالمانية من دفن الفضلات النووية في قاع البحر. يوجد ايضا جانب اخر مثير للدهشة حيث تتنامى الحركات الاصولية الدينية في العالم وحركات الاقليات العرقية, وبعضها يتخذ من اعمال العنف وسيلة لان يسمع العالم اصواته محاولة استرداد حقوقه بالقوة, ويعود السبب في ذلك للقهر الذي يفرضه بعض قادة الحكومات وهو الامر الذي يزرع بذور الكراهية ويولد العنف, وايضا بسبب الاحتلال, ونماذج افريقيا السوداء, الجزائر, الشيشان, فلسطين خير دليل على ذلك. والشعوب الاوروبية في حالة بحث كبيرة عن سند روحي ترتكن اليه, رغم ان مؤشرات هذا الرصد باهتة بسبب ان الانسان الاوروبي ذاته لا يحب الكشف عن هذه الحقيقة, وهنا تجدر الاشارة إلى ان غاندي قال: (ان الدين دخل لقلوب البشرية والتحم بها, لكن لا يتحقق ذلك بدون حركة). والهدف من التاريخ هو التنمية الروحية للوصول للحق (وكان غاندي يرى ان الحق هو الالوهية ذلك الحق الذي لا يشعر احدا به الا من خلال تجربة تقديم التضحية وخدمة الاخرين, وفقا لرؤيته الفلسفية ان الحق يعود لاصحابه الطبيعيين عن طريق الكفاح غير المسلح ضد الظلم, ومن اجل تحقيق السلام الاجتماعي, والحرية الشعبية التي تسبقها تحرير النفس الفردية والعدالة, بشرط التحرك من اجل التحرير, وغاندي كان زعيما له فلسفة في الحياة وكيف يحيا البشر, وكانت قوة غاندي تكمن في عدم حصار ذاته داخل طوق النظريات الفلسفية حيث كان يقوم بتطبيقها على الطبيعة في الحياة. وتأسيسا على هذا الالهام الروحي شهدت اوروبا في السبعينيات والثمانينيات ازدهار حركات السلام, وواحدة من هذه الحركات النشيطة كانت في هولندا تكافح ضد وضع صواريخ كروز في اوروبا, وتمكنت هذه الحركة من تعبئة الجماهير وخلق ارضية شعبية عريضة وانصار, لتكتشف بعدها ان اسم حركة السلام لم يفى بالمعني المراد, وكان هذا رصدا حقيقيا, حيث انها في واقع الامر كانت حركة ضد الاسلحة النووية, وضعت دون مخطط مسبق لبرامجها حوارا جماهيريا على مستوى هولندا حول مدى ضرورة الجيوش المنظمة, اذا كانت تستخدم الاسلحة الفتاكة التي تهدد البشرية بأثرها على كوكب الارض, ولم يقتصر نشاط حركة السلام الهولندية على هولندا بل تحركت ونشطت بأسلوب تأثير الكرة الثلجية في اوروبا, بعد ان تحول اسمها إلى (حركة نزع الاسلحة النووية من اوروبا) وتزايد انصارها في كل اوروبا, وكانت تعقد كل عام مؤتمرا كبيرا في عاصمة اوروبية مختلفة لتشمل امستردام, لندن, باريس, برلين, موسكو, وكان المؤتمر الاخير عام 1990 في العاصمة الروسية موسكو قد وضع عناصر للحوار اعتبرها اهدافا اساسية تمثلت في: * اخلاء اوروبا الديمقراطية من الاسلحة النووية ووضع نهاية للقواعد العسكرية الاجنبية. * العمل على وضع اطار لاوروبا الموحدة. والتقط الرئيس الروسي السابق ميخائيل جورباتشوف, الخيط واعلن بعد ذلك بوقت قصير نداءه الشهير يطالب فيه (بتحقيق البيت الاوروبي من المحيط الاطلسي وحتى الشعب المرجانية). ومن هذا الحلم لم يتحقق الكثير بعد سقوط حائط برلين, تم حل حلف وارسو, ومعظم دول اوروبا الشرقية ولو على الشكل الرسمي قد دخلت المنظومة الديمقراطية, وثبت ان صفوة القوم من المثقفين والاثرياء في اوروبا الشرقية تمكنوا وبسرعة من تطويع المؤسسات الحكومية وركوب موجات الاصلاحات السياسية من اجل الحرية والديمقراطية, ولزيادة الحبكة جذب هؤلاء بعض الشباب لاضفاء شكل التغيير على الدور, وما كان الشباب الا اقارب ومحاسيب قدامى الشيوعية التي قهرت الشعوب لسنوات طويلة, اما حلف شمال الاطلسي فلم ينهج مسيرة حلف وارسو, فلم يحل نفسه بل على العكس تماما, فحلف الناتو يسير في اتجاه الحدود الروسية, ولقد نشأت فجوة كبيرة وعميقة بين الغرب والمنطقة الارثوذكسية في شرق اوروبا, و اتسعت هذه الفجوة اثناء الحملات العسكرية الحديثة التي شنها الحلف الاطلسي ضد الصرب. اما علاقات الولايات المتحدة الامريكية بروسيا والصين فلم تتحسن عقب سقوط الشيوعية, وقد كشف استاذ علم الحروب والاستراتيجية البروفيسور النرويجي جون جولتن عن تنامي وتحديث الجيوش الغربية في اوروبا واسيا وتعاونها مع حلف شمال الاطلسي وجود تنسيق حقيقي بينهم, ووصف هذا التعاون بأنه وخيم ويهدد بخطر اكثر مما يتوقعه البشر, كما يؤكد خبراء حركات السلام في اوروبا انهم على يقظة تامة من اطلالة التهديد العسكري الجديد الذي يخرج من رحم اوروبا, خاصة بعد انتهاء حرب كوسوفو, وان مخاوف الماضي ابان الحرب الباردة كانت محددة وواضحة, حيث كانت التوقعات تشير في اقصى الاحتمالات لحدوث صدام عسكري بين الغرب والشرق, لكن اليوم من الصعب التكهن بمن سيكون مع من؟ ومن سيكون ضد من؟ وبمبادرة من عدد لجمعيات السلام وبعض ممثلي احزاب اليسار في اوروبا تم مؤخرا عقد مؤتمر في العاصمة البلجيكية بروكسل تم فيه مناقشة: 1ـ ما هي القوة التي ستتسبب في زيادة فرص المواجهات العسكرية في العالم ولماذا تأخذ المواجهات اشكالا جدية وقاسية؟ 2ـ كيف سيكون رد فعل السياسات العسكرية والامنية الدولية على الامبريالية؟ وما هو تأثير الاعلام الدولي على ازمات حقوق الانسان في العالم؟ 3ــ ما هو مستقبل نزع اسلحة الدمار الشامل واتفاقيات السلام ونظام الامم المتحدة؟ 4ـ ما يجب عمله من اجل تأسيس جمعيات سلام جديدة وقوية, والبحث عن بدائل لاستراتيجيات الدفاع عن حقوق الانسان على مستوى العالم. وهذه التحركات الجديدة جاءت كرد فعل على الاحباط الذي انتاب قادة جمعيات السلام والنشطاء القدامى, حيث انه بعد سقوط حائط برلين كانت عدد من جمعيات السلام قد اعلنت حل نفسها, انطلاقا من الامل في ان تقوم امريكا بدورها وتحقق حلم البشرية في السلام, وتفي بالوعود البراقة التي كانت تطلقها, تلك الوعود التي اقترنت بشرط سقوط الانظمة الشيوعية, واهمها نهاية الامبرالية العسكرية, لكن اتضح ان جمعيات السلام خدعت بعد ثبوت ان ثقتها في امريكا لم تكن في محلها, فحلف شمال الاطلسي يزيد من انتشاره وتسليحه, وامريكا تضاعف يوما بعد يوم من تواجدها في مناطق كثيرة في العالم, بالاضافة لتوسيع النفوذ الاقتصادي وفرض المصالح الامريكية وكل ذلك يتخفي وراء ما يطلق عليه باسم العولمة, وكل الدلائل تشير إلى سعي امريكا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي لان تكون هي القوة السوبر الوحيدة في العالم. وتشير دراسة اقتصادية سياسية لاتحاد جمعيات السلام ان امريكا تضع يدها وتراقب احتياطي النفط الخام الكبير في الجمهوريات السوفييتية السابقة عند بحر قزوين, مثل ازربيجان, كازخستان, تركمانستان وذلك عن طريق خطوط انابيب نقل النفط, ومن الممكن ان يؤدي ذلك لان تقوم روسيا بايقاظ هذه الجمهوريات وحثها على توطيد علاقاتها بالغرب وتحثها على التحالف مع اوروبا, وهو الامر الذي يؤدي لعزل ايران, كما ورد على لسان رئيس وزراء روسيا الاسبق سرجيف قوله بان واشنطن تسعى لتحجيم دور روسيا وارجاع تأثيرها ونفوذها في المناطق الاستراتيجية المهمة لمناطق القوقاز الغنية بالنفط ومنطقة وسط اسيا, ليس ذلك فحسب بل ينطبق ذلك ايضا على نفوذ روسيا في منطقة البلقان التي تعتبر بوابة مهمة للغرب إلى الشرق, ولقد ادت حرب كوسوفو التي لعب فيها حلف شمال الاطلسي دورا بارزا لان تضع امريكا اقدامها في البلقان, والشركات الامريكية موجودة الان في العاصمة بريشتينا تحت اسم (بوندستيل) تقوم ببناء اكبر قاعدة عسكرية في اوروبا. امريكا تذكي الصراعات كما ورد في الدراسة على لسان الامريكي تشومسكي قوله في مايو من هذا العام ان السياسة الخارجية الامريكية لا تعتمد فقط على تحقيق مصالحها بفرض القوة العسكرية بالدرجة الاولى لكنها اثناء الازمات الانسانية تقوم عن عمد بتذكية نار الفتن وحمى وطيس الكوارث, واضاف ان امريكا ساعدت حكومتي كولومبيا وتركيا على سياسة قمع المعارضة, وفي تعليق لـ تشومسكي يقول ان امريكا تبرر هذه السياسة بانها لمحاربة الارهاب, وكشف مؤخرا خطة أمريكا المشبوهة في كولومبيا التي تتخفى بها وتدعي محاربة المخدرات, لكن الحقيقة انها تريد قمع المعارضة في جنوب كولومبيا. وللايدي الامريكية تواجد في كولومبيا على مر ثلاثة عقود واكثر وبصمات واضحة في الخلفية للحرب الاهلية التي اطاحت بأمن واستقرار وايضا اقتصاد البلاد, فهي الحرب التي سقط فيها اكثر 35 الف قتيل في السنوات العشر الاخيرة من الجيش الكولومبي, واليساريين المدعمين لعصابات المخدرات وكذلك مواطنين ابرياء لم يكن لهم ذنب في هذا الصراع, وتمثل الدور الامريكي في اشتراك عناصر من المافيا الامريكية وبارونات المخدرات مع العصابات المنظمة في كولومبيا, لتسهيل عمليات تهريب المخدرات خارج البلاد وإلى امريكا نفسها, وهي المافيا التي تفجرت بشأنها فضائح في السبعينيات والثمانينيات وحتى عام 95 حول تورط موظفين امريكيين كبار ورجال دولة في التعامل مع هذه المافيا. بل اشارت الفضائح والمعلومات إلى تورط رجال الاستخبارات الامريكية انفسهم في بعض هذه العمليات لتحقيق مكاسب مالية, واحيانا اهداف سياسية, ومن ناحية اخرى قامت امريكا بصورة معلنة في لعب دور مزدوج عن طريق المساعدات العسكرية التي قدمتها للجيش الكولومبي قبل ثلاثة اعوام ونصف, حيث قامت طائرات امريكية عسكرية بمساعدة الجيش الكولومبي بتطهير مناطق زراعة المخدرات, وذلك بموافقة من بلدان امريكا اللاتينية لتطهير المناطق الجنوبية, وهي العمليات التي ساهمت في اندلاع الصراع وتصاعده بصورة خطيرة في الجزر, وتساقط ابرياء تحت اقدام المساعدات الامريكية العسكرية, غير ان هذه العمليات اوقفت فجأة وبرغبة امريكية, بعد ان واجه القرار الحكومي الامريكي ضغوطا من الداخل والخارج, وبديهي ان اصحاب المصلحة في ايقاف الضربات هم من عناصر المافيا الذين دفعوا مؤيديهم ومسانديهم من رجالات الدولة لايقاف المساعدات الامريكية لابادة المخدرات بكولومبيا. ولم يتوقف التدخل الامريكي في كولومبيا عند هذا الحد ففي القمة التاريخية الاخيرة لكولومبيا والبرازيل وامريكا في شهر سبتمبر من العام الماضي, اعلنت امريكا خطة جديدة لمساعدة القوات الحكومية الكولومبية في شن حرب مجددة على مزارع وتجار المخدرات بها, على ان تقدم امريكا 3.1 مليار دولار ولا يتصور احد ان التدخل الامريكي هذه المرة لوجه الله, فهو لاهداف في مقدمتها: * دعم التواجد المشروع الامريكي بكولومبيا ومنطقة امريكا اللاتينية. * تفتيت التوجه لاتحاد اقليمي لدول امريكا اللاتينية والذي بدأت بوادره تلوح في الافق مجددا, باقامة اتفاقيات ثنائية للتجارة الحرة بين بعض الدول. * انهاء الطموح لدول امريكا اللاتينية بايجاد توازن في العلاقات مع امريكا. * ارسال عدد كبير من المستشارين الامريكيين في الشئون العسكرية ومحاربة المخدرات لمساعدة السلطات الكولومبية وهم في الغالب من رجال الاستخبارات الامريكية, الامر الذي يعني زرع كتيبة شبه رسمية للمخابرات الامريكية في المنطقة. * اسهام المساعدات الامريكية في تصعيد الغضب الشعبي الكولومبي الذي يرى في امريكا وجها استعماريا امبرياليا, بجانب تصعيد الصراعات بين القوات الكولومبية والقوات اليمينية المسلحة والحماية لتجار المخدرات في البلاد, والعصابات اليسارية المسلحة في الجنوب والحماية لمحاصيل المخدرات وانتاجها. * تطور مشكلة المخدرات بانتقالها إلى دول الجوار بهروب العصابات المنظمة اليهم وتصدير النشاط الاجرامي لهم. * تهديد السيادة والقضاء على الديمقراطية بالبلاد لهيمنة الوصايا الامريكية. أيد أمريكية في البلقان كما لعبت الايدي الامريكية ادوارا من وراء الستار في تفجر الصراعات الداخلية بالبلقان أو على الاقل تحريك الرماد المنزوي تحت رماد الصرعات التاريخية بتلك المنطقة, فامريكا تعلم مدى اهمية امن واستقرار البلقان لاوروبا, ليس فقط لوجوده بالقارة الاوروبية, ولكن لان اشتعال الصراعات بالبلقان يهدد الامن الاوروبي واستقراره من الناحية الاستراتيجية, ويجعل الاحتياج الاوروبي لحلف شمال الاطلسي العسكري دائما, بجانب تصدير امواج اللاجئين لاوروبا حال اشتعال اي صراع, وامريكا تستفيد من تفاقم اي صراعات بالبلقان لحشد مزيد من التواجد والتدخل الامريكي لها سواء بارسال قواتها ضمن قوات حفظ السلام, أو بارسال المستشارين ومراقبي الامن.. الخ وكل هذا يخدم المصلحة الامريكية ويثبت اقدام وجودها ونفوذها المهيمن على العالم حتى في قلب القارة الاوروبية. وفي المشكلة الالبانية, كان الغرب وفي مقدمته امريكا الباعث الاول على تحريك الازمة في الخفاء, فقد مارست امريكا ضغوطا على الرئيس الالباني بريشا للتخلي عن السلطة وترك الحكم لحكومة قومية تحت زعم انقاذ الوضع والبلاد من السقوط للهاوية, لكن تنفيذ المطلب الغربي لم ينقذ البلاد, بل ساهمت الايدي الخارجية في تشكيل تكتلات سياسية وشعبية مضادة, وبدت الاحداث في البانيا كسيناريو قذر تم تنفيذه من قبل في يوغسلافيا, ففي ساعات قليلة كانت الاسلحة تغطي الشوارع, فقد هجم المواطنون على مخازن السلاح, وتساقط القتلى وانتشرت المجازر, وكأن الكل يتحرك بأيدي قوية ترسم لهم ما يفعلونه حتى في تفجير الفوضى والغوغائية. ووقفت امريكا واوروبا يتفرجان على ما يحدث في البانيا, وقالت امريكا ان المسألة داخلية ولا يجب لقوات حفظ السلام التدخل لانهاء التوتر, الامر الذي جعل البانيا تتمسك برفض اي تدخل اجنبي على اراضيها لاعادة الاوضاع في البلاد للهدوء. وفي تفجر المشكلة في كوسوفو وقفت امريكا وايضا اوروبا في مراقبة الاوضاع وهي تفجر بعد ان كانت لهم ايدٍ في تفجيرها املا في القضاء على المسلمين وتفريغ الاقليم منهم, فالاسلام لايزال السلاح القوي الذي يخيف كل الغرب بسبب قوته وانتشاره, وامريكا لا ترى في الواقع اي معارضة لقيام صربيا كبرى أو تصاعد النغمة القومية للصرب, طالما ان هذا لن يضير مصالحها, وتركت امريكا وشركاءها في حلف الناتو الصرب ينفذون مذابحهم ضد المسلمين كما حدث من قبل في البوسنة والهرسك, وعندما اوشك الصرب على انهاء مهمتهم بنجاح, كان لامريكا ان تغير من دورها في اللعبة لانقاذ وجهها وتبييضه من تهمة الصمت والتواطؤ, فكانت الضربات الجوية من قبل الحلف, والتي قصد بها بالدرجة الاولى الاطاحة أو التخلص من ميلوسيفيتش الرئيس الصربي السابق الذي كان قد اصبح يمثل تحديا لارادة الغرب, فقد امروه بوقف المشكلة ولم يستجب, وقد ظنوا فيه الرجل الآلة الذي ينفذ ارادتهم ومطالبهم بالضغط على زر يصعد الازمة, وبالضغط على اخر يوقفها. كما تنقل الدراسة عن لسانه انه اثناء حرب كوسوفو كانت امريكا تعلم تماما ان الضربات الجوية على الصرب ستكون لها افرازات من شأنها حدوث رد فعل من جانب القوات العسكرية الصربية لتنتقم من المعارضة الالبانية, ويؤكد ذلك اعتراف ويسلي كلارك الجنرال الذي قاد الضربات الجوية على صربيا بقوله: اننا كنا نعرف مسبقا بردود الفعل الصربية تجاه الالبان, وكنا نتوقع حدوث ضربات عنيفة يوجهها الصرب للالبان بعد ضربات حلف شمال الاطلسي. لقد ترك الغرب القوى الكبرى في مجلس الامن اثناء مناقشة ازمة كوسوفو تفعل ما تشاء دون التصدي لانفراد امريكا بالقرار, وذلك على الرغم من علم الغرب ان الوضع خطر ومن الممكن ان يؤدي لصدام مسلح في اوروبا, ومن المثير ان روسيا وعدت امريكا بانها لن تكون البادئة باستخدام السلاح النووي حال حدوث صدام عسكري في اوروبا, ولقد ادى هذا السلوك الاوروبي والامريكي والروسي لاتخاذ عدد من قادة جمعيات السلام القديمة مبادرة قيام (الجامعة الجديدة لحركات السلام الاوروبية) فهل ستنجح هذه الجامعة في كشف وتحجيم القوى العظمى التي تزكي الصراعات والازمات في العالم من اجل حماية البشرية من تسلط الاقوياء على الضعفاء؟ ذلك ما ستظهره الايام المقبلة. بروكسل ـ سعيد السبكي:

Email