بيان الاربعاء ــ إضاءة خليجية ــ عمرو موسى في الجامعة العربية _ بقلم: عبد الله بشارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يأت ترشيح عمرو موسى وزير خارجية جمهورية مصر العربية, مفاجأة لنا, فقد تبنت مصر منذ عقود سابقة انتقال وزير الشئون الخارجية فيها الى الجامعة العربية. كان المرحوم عبدالخالق حسونة باشا, وزيرا للخارجية في وزارة المرحوم احمد نجيب الهلالي في آخر وزارة قبل الثورة, وصار الامين العام في الجامعة العربية منذ 1952 وحتى 1972 وجاء بعده المرحوم محمود رياض وزير خارجية مصر منذ 1963 حتى 1972 جاء الى الجامعة العربية حاملا معه معرفة تامة بمصائبها ومتاعبها, ومسببات عجزها, كان وزيرا للخارجية المصرية في وقت الصدام العربي ــ العربي, والحرب الباردة والساخنة بين القاهرة والكثير من العواصم العربية, ولم يكن السيد محمود رياض يملك السلطة والصلاحية لوقف ذلك التدهور, لان مسبباته هو مشروع رئاسة الجمهورية في تحقيق محور عربي يرتكز على القاهرة ويتبنى فلسفتها وسياستها. كنت استمع اليه في مداخلاته في اجتماعات الجامعة العربية, التي كانت تتسم بالهدوء والواقعية, على النقيض من ادبيات صوت العرب, والاعلام الرسمي, وكان واضحا ان السياسة الخارجية في مصر تصدر من الرئاسة. تولى محمود رياض الجامعة العربية في وقت عصيب جدا لسببين جوهريين, اولهما, استحالة احياء الثقة بين الانظمة العربية مع ضخامة جروح كارثة 1967 والثاني بداية مشروع السادات, وهو مشروع متناقض تماما مع المشروع الناصري, يسعى الاول لتحقيق فكر رجل الدولة, بينما يهدف الثاني الى التوصل الى غايات الزعامة ولكل منهما وسائله واعلامه ودبلوماسيته. ولان محمود رياض مزيج بين الواقعية, والمزاج الراديكالي, لم يستطع هضم مشروع السادات, ودخلت الجامعة العربية دور المتفرج امام الاحداث المتتالية التي رسمها المرحوم الرئيس السادات, ولم تستطع جامعة محمود رياض التأقلم مع استحقاقات المشروع الساداتي الذي ادى الى بروز فجوة بين الذهنية العربية المتوارثة, وبين العاملين في مشروع السادات, الامر الذي دفع بالسيد محمود رياض الى الاستقالة في جو عاصف ومكفهر. جاء الدكتور عصمت عبدالمجيد من وزارة الخارجية المصرية الى الامانة العامة, جاء ومعه تجارب طويلة في الامم المتحدة وفي نهج التوفيق الذي يجيده والذي يقربه من مدرسة عبدالخالق حسونة. عرفت الدكتور عصمت عبدالمجيد في نيويورك لسنوات طويلة, احترمت عمله وجديته ووقاره وحرصه على الانسجام والتلاقي, سألته في احد الايام عن مسببات طرد الخبراء السوفييت في عام 1972 وهي من خطوات السادات المفاجئة, جاء الرد مملوء بالألم والدهشة, عمل جيد في الامم المتحدة من اجل الدفع بقضايا العرب, واستمر في جهوده, حتى مبادرة السادات. تحمل الدكتور عصمت سيولا من الاهانات والبذاءة من المدارس الثورية وممثليها في الامم المتحدة, كنت شاهدا على التحقير الذي يظهره مندوبو بعض الدول العربية, في ذلك الوقت, للدكتور عصمت, , كان رجلا بأخلاق لا يعرف انحطاط اللغة, ولا يستعمل المزعج من المصطلحات. تولى امور الجامعة بعد كارثة الغزو العراقي على دولة الكويت ولم يتخل عن التزاماته المبدئية في ادانة العدوان, وفي سعيه المستمر للخروج من مأزق الغزو, كان رقيقا في التعامل, وحريصا في التدخل بعيدا عن التأزيم, يتحصن بالاصول القانونية, ويمارس الحذر في المبادرات ولا يثير الجدل. ادى دوراً مميزا في عشر سنوات من الاجهاد والتجريح ويخرج بضمير مرتاح, وبأداء وقور. وعلى نفس النهج ترشح مصر الاستاذ عمرو موسى وزير الخارجية الحالي, وهو من مدرسة مختلفة بألوان مثيرة ومناهج واسعة. عرفت عمرو موسى وعملت معه, ولم اعمل ضده مثل الكثيرين من اعضاء الوفود العربية, كنا نعمل معا في الامم المتحدة, كان مساعدا للدكتور عصمت عبد المجيد, وكان مع الدكتور احمد حسن الزيات قبلها, وهو مصري ابن بلد, تستهويه النكتة, ومحارب من فرسان مصر الاعتدال, وفيا لبلده ولمصريته, يربط النهوض العربي بالازدهار الصحي لمصر, شاهدته فارسا في كوبا عندما اثارممثلو بعض الدول العربية, موضوع شرعية وجود مصر في عدم الانحياز, كان يجلس بجانب الدكتور بطرس غالي, مشمرا عن ساعديه, يرد على السفاهة الثورية, ويتناغم مع الوفود الافارقة. كنا نحن اهل الخليج, حذرين من الانزلاق الى رغبة الثوريين في الدخول في حلبات ملاكمات لفظية جارحه, وفي جلسة ماراثونية طويلة امتدت حتى الساعة الرابعة صباحا, اعلن الرئيس, اخفاق المشروع الثوري العربي, وانهزمت حملات تخوين مصر. وحمدت الله شخصيا, على تلك النتيجة, ولم اكن مرتاحا للمداخلات التي تشهر بالدبلوماسية المصرية, وبمشروع السادات. كان عصمت عبدالمجيد وعمرو موسى وبطرس غالي, الثلاثي المصري ــ الصادق في وطنيته وفي اعتزازه بالتراث المصري الحضاري, تغلبوا على المسرحيين العرب, وابقوا على مصر في حركة عدم الانحياز, التي ثمنت مكانتها في الحضارة الانسانية. جاء عمرو موسى الى وزارة الخارجية المصرية بحيوية واضحة وديناميكية ليدخل البيئة السياسية المصرية بثلاثة اهداف رسمها للخارجية المصرية: ــ ترسيخ مسيرة السلام وفق الاسس التي دشنتها صيغة مدريد, والمتابعة لكي لا تخرج عن هذه الاسس واظهار اليقظة لابعاد التشوهات والمطبات عنها. وفي هذا الصدد تصور عمرو موسى فضاء مسيرة السلام قاعدة يتحرك منها تصريحا وجهدا, مرات يقترب فيها من اللكمات اللفظية على طريقة تايسون, ومرات يرسم خطوطاً متفائلة, لكنه لم يتراخ في الوفاء لصيغة مدريد والدفاع عنها. ـ بناء ارضية واسعة اقليمية في العالم العربي وفي افريقيا وحوض البحر الابيض تتحرك فيها مصر بمرئيات عهد مبارك وبدبلوماسية يقودها عمرو موسى, هدفها التوصل الى حد مرضٍ من التفاهم يكون فيه دور مصر بارزا ومعترفا به. ــ توسيع دائرة التعاون الاقتصادي, والمساهمة في خلق تجمعات اقتصادية جنوبية على غرار مجموعة الخمسة عشر التي ستجتمع في القاهرة قريبا وتضم ايران, واندونيسيا وماليزيا, والهند, وباكستان, ونيجيريا وآخرين, لبناء كتلة جنوبية لها قدرة التفاوض مع اغنياء الشمال. من المنتظر ان يأتي عمرو موسى الى الجامعة العربية يحمل معه طموحاته ودينامكيته, وشبكة الاتصالات التي بناها خلال عمله الطويل في نيويورك والخارجية, ولا اشك بأنه سيواصل مسيرة عصمت عبدالمجيد, لكنه سيتوسع في ادخال شيء من الروحية الى دور الجامعة. واتصور, شخصيا, ان على الامين العام الجديد ثلاث مسئوليات ضخمة, لابد ان يتعامل معها بشجاعة. اولها: الادارات البيروقراطية التي تضخمت في جسم الجامعة وادخال هيكلية مستحدثة تحركها الكفاءة, والتخلص من الميراث المحزن الذي احتكرت بعض الدول بموجبه وظائف محددة, مثل الامين العام للشئون السياسية, وتدوير الجهاز الاداري وادخال مفاهيم الحداثة ومعايير الانتاج والتفوق. ثانيا: على الامين العام ان يرسم خطابا سياسيا جماعيا حديثا ومرنا (او ريجنال) ليس تكرارا لأدبيات الستينيات حول الامن القومي الموحد, والمشروع النهضوي العربي, كل هذه الصفات مستخرجات من قواميس حزبية, والمطلوب التعامل من قبل الجامعة العربية مع العالم العربي بواقعية مترجمة للحقائق الدامغة, وهي ان العالم العربي يتكون من اكثر من عشرين دولة كل لها مصالحها ومرئياتها ومتطلبات امنها, وأولوياتها. وربما من المفيد ان يدفع الامين العام المقبل برؤية مستخلصة من واقع العرب, تنال الرضا والاجماع. سمعت كثيرا عن المصالح القومية والمصالح القطرية, ولا اعرف ما تهدف اليه هذه المصطلحات, وستظل المصالح الوطنية لكل دولة هي المؤثر الفعال في قناعاتها. ولهذا فان العمل الجماعي العربي سيأتي مع الترابط الاقتصادي وتعميق الصلات التجارية والمنافع المتبادلة, ولابد من قيام سوق عربية مشتركة تتبع قواعد السوق وحرية الاقتصاد, ولن يتحقق ذلك طالما ان العديد منها ما زال مترددا في تبني مبادىء الاقتصاد الحر. ثالثا واخيرا: يهمني جدا ان يتحمل الامين العام النقد في تقديم المرشد الاخلاقي او قاعدة السلوك السليم, وان يكون هذا المرشد هو المحدد لشرعية النظام في كل دولة, وهو الدفاع عن حقوق الانسان ومقاومة الاستبداد, والمبادرة في الدفاع عن حماية الشعوب المضطهدة. الدفاع عن مبادىء الميثاق يحتاج الى شجاعة تضع المواقف قبل المنافع. تبنت منظمة الوحدة الافريقية هذا الدليل الاخلاقي, وتبقى رسالة الأمين العام المقبل التفكير بجد حول هذا الدليل. وآخر تعليق انني مع تدوير المنصب, وغير مقتنع بالحيثيات التي تطرحها دولة المقر, لاننا نريد تحويل الجامعة الى نادٍ لكل العرب, وغير معقول ان تحرم الأغلبية من الوصول الى قيصرية القبطان.

Email