وسيلة للدفاع عن الحق ، المقاطعة الاقتصادية .. سلاح فعال قد يوازي الحرب العسكرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الملف السياسي : منذ انعقاد مؤتمر السلام الشرق أوسطي في إسبانيا (مدريد), ظهرت عدة وجهات نظر تخصصية في عالم الاقتصاد والتجارة الدولية والعلاقات البينية في منطقتنا العربية, لكنها اختزلت بعد أخذ ورد وسجالات واجتهادات, في ثلاثة معسكرات في شكلانية أطرها العامة. فقد رأى المعسكر الأول, أنه إذا كانت الظروف الدولية الراهنة غير مواتية لديمومة الصراع بشكله العسكري المسلح مع إسرائيل مثلما كان في أيام الحرب الباردة, فهذا لا يلغي الحفاظ, بل والامساك بمجموعة من الأسلحة القادرة على مواجهة الغطرسة الإسرائيلية المستندة إلى كل وسائل الدعم والقوة, ومن أهمها سلاح المقاطعة الاقتصادية, منطلقة من مقولة أن السياسة في مضامينها وآلياتها وأهدافها مختزلة بما يسمى بالاقتصاد المكثف وحسب. بينما ذهب المعسكر الثاني وهو المعسكر الوسيط إلى اعتبار أن المقاطعة هو سلاح له قدرته, لكن لا بد من ترشيد وتوجيه هذا السلاح حسب مقتضيات اللحظة الراهنة, بما يتلاءم مع عاملي الزمان والمكان, أي بمعنى آخر, ضرورة استخدام هذا السلاح بالتناغم مع تقدم العملية السياسية الجارية ومدى استجابة الطرف الآخر الإسرائيلي مع المتطلبات العربية, وأنه ليس من غضاضة في ظل الظروف الراهنة من التخفيف من سلاح المقاطعة الاقتصادية لجملة من الضرورات التي تبيح المحظورات. بينما وجد المعسكر الثالث, انطلاقاً من قناعات تهكمية مرتكزة إلى خلفيات سياسية قطعية بأن الصراع العربي الصهيوني قد انتهى والى غير رجعة, وأن هذا السلاح مجرد سلاح وهمي كاذب يعيش في الرؤوس المهووسة بشعارات الصراع وديمومة الصراع, وأننا بحاجة إلى بناء علاقات اقتصادية منفتحة على الآخر تلبي الحاجات المستجدة التي تتساوق وروح العصر وتؤسس لبناء اقتصاديات محلية قوية تجيب على كل المتطلبات الحضارية.. الخ. لكن بعيداً عن المعسكرات واجتهاداتها, لا بد من البحث في هذا المجال استناداً إلى لغة الأرقام, كلغة فريدة قادرة على الإجابة على جملة الاجتهادات, وعلى قوة سلاح المقاطعة الاقتصادية وتأثيره على الآخر في الامتثال للقرارات الدولية, خاصة وأن إسرائيل بالأساس زرعت في منطقتنا لاهداف استعمارية, وما التطبيع الثقافي والعلاقات الدبلوماسية والسياسية وإرساء حالة من التصالح, إلا توطئة لديمومة الإمساك والسيطرة على مقدرات المنطقة وثرواتها وأسواقها, من خلال مقولة ما يسمى بالسوق الشرق أوسطية كحلقة وسيطة, والهدف النهائي من هذا السعي هو الربح السريع والمأمون الجانب بأقل تكاليف ممكنة, هذا بشكل عام. أما بالنسبة لإسرائيل على المستوى الإقليمي الشرق أوسطي, فقد سعت منذ احتلالها لفلسطين في عام ,1948 إلى إيجاد نوافذ مأمونة, كمقدمة لفتح قنوات سياسية اقتصادية بغية التمدد إلى المحيط الجغرافي, وهذا ما سعت إليه من خلال حروب غير متكافئة على المستوى العربي, قامت بها, سعياً لإيصال الطرف العربي على القبول بعلاقات سياسية اقتصادية, لكن هذه الحروب زادت من الحالة العدائية وأبقت على التوتر, حيث لم يتسن لها سعيها الدؤوب إلا بحدود ضيقة, وهنا لست بصدد استحضار الأمثلة كونها معروفة. ومن نافلة القول أن إسرائيل وصلت إلى قناعة كلية بأنه لا يمكنها الانتقال من مرحلة الدولة الخندق ــ الثكنة ــ, ذات الاقتصاد الاستنفاري العسكري, المعتمد على المساعدات الخارجية الهائلة خاصة المقدمة من الولايات المتحدة, إلا بإيجاد علاقات اقتصادية من خلال التواصل الجغرافي, وهذه العلاقات بالضرورة يجب أن تتجاوز ما يسمى بالمقاطعة الاقتصادية, والتي كما أشرنا بأنها شكلت إحدى أهم العقبات الكأداء, التي حالت دون تعميم خاصيتها على المحيط الجغرافي. خاصة وأنها (إسرائيل) قد تمكنت خلال نصف قرن ونيف, من الانتقال إلى ما بعد المرحلة الصناعية قياساً بمحيطها الشرق أوسطي بما في ذلك الدول العربية, وهذا ما يميزها راهناً عن غيرها إقليمياً, في الكثير من المجالات التقانية والصناعية والاتصالات والطائرات والصواريخ والكيماويات..الخ. لكن بعيداً عن الإطالة في الشرح, نجد أن إسرائيل ومن خلال الدعم الغربي قد قويت على التسلل من مسامات العملية السياسية الجارية التي لم تكتمل فصولها بعد, ونجحت ولو بشكل جزئي في كسر سلاح المقاطعة العربية الثانوية بما يتعلق بالشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل. فقد رفعت بعض الدول العربية مقاطعتها الثانوية في أكتوبر 1994. ومن الجدير بالذكر أن المقاطعة العربية في مرحلة ماضية ليست ببعيدة, كانت تكلف الاقتصاد الإسرائيلي حوالي ملياري دولار سنوياً. لكن الملاحظ أنه في السنوات الأخيرة, واستناداً إلى تقارير اسرائيلية وغير اسرائيلية, أدى الرفع الجزئي للمقاطعة إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الإسرائيلي. ففي عام 1995 بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل 9,1 مليارات دولار, وفي عام 1996 بلغ حجم الاستثمارات 4,2 مليارات دولار. وفي عام 1997 بلغت القيمة 4,3 مليارات دولار. وبين المستثمرين الكبار منذ عام 1994 شركات مشهورة مثل فولز فاكن, ونسلة, وكابل اند وايرلس, وداتش تليكوم, ومتورولا, وانتل, وشركة انتل هي إحدى الشركات العالمية الرائدة في مجال إنتاج المعالجات الدقيقة, تصرف 6,1 مليارات دولار على بناء مصنع لانتاج أشباه موصلات في مستعمرة (كريات جات). وقد أشارت المصادر الإسرائيلية إلى أن إجمالي حجم الاستثمارات الأجنبية بلغ في النصف الأول من العام الجاري نحو 7,4 مليارات دولار, مقابل 9,2 مليارات دولار في النصف الموازي من العام الماضي, وقد ازدادت الاستثمارات المالية بأكثر من ثلاثة أضعاف, وبلغت نحو 5,3 مليارات دولار مقابل 1,1 مليار دولار في الفترة الموازية من العام الماضي. وفي الفترة نفسها بلغت قيمة إجمالي الاستثمارات في الشركات المتطورة نحو 35,1 مليار دولار, وذلك وفق معطيات 57 صندوقاً إسرائيلياً لرأس المال الخطر, وخمسة صناديق أمريكية, ولا تشمل هذه الأرقام المعطيات الاستثمارية المنفذة من قبل صناديق أخرى, ليست صناديق رأس مال خطير. هذا وتم في الفترة نفسها تسجيل زيادة بنسبة 46% لتراخيص إنشاء مصانع جديدة, وتوسيع مصانع قائمة, وذلك مقارنة مع الفترة الموازية من العام الماضي. وقد بلغ عدد طلبات الإنشاء والتوسيع نحو 325 طلباً منها 304 طلبات في فروع الصناعة, وقد تم 206 طلبات, مقابل 141 طلباً في الفترة الموازية من العام الماضي, كان نصيب الصناعة من هذه الطلبات نحو 191 طلباً مقابل 121 طلباً في الفترة الموازية من العام الماضي. وقد بقي الحجم المالي لمجموعة الطلبات في النصف الأول من العام الجاري مساوياً لهذا الحجم في الفترة الموازية من العام الماضي, ويبلغ نحو مليار دولار, في حين ازداد الحجم المالي للموافقات بنسبة 97%, وبلغ نحو حوالي 553 مليون دولار مقابل 331 مليون دولار بالفترة الموازية. وهنا ما أردت إيصاله من خلال هذا العرض الرقمي الموجز متوخياً الدقة في الأرقام الصادرة عن الجهات الإسرائيلية, لانتقل إلى حقيقة قد تكون غاية بالأهمية والتي تقول, بأن رفع المقاطعة الثانوية من قبل الدول العربية, قد فتحت الباب على مصراعيه أمام العديد من الدول الآسيوية والأفريقية وحتى الأوروبية, التي كانت تراعي مصالحها هي ذاتها, فعلى سبيل المثال, أن العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية الواسعة مع الدول الأوروبية الشرقية, لم تكن بفعل انهيار الشيوعية والنظم الاشتراكية وحسب, بل رأت هذه الدول ومن خلال الرفع الجزئي أو الثانوي العربي كما يحلو للبعض تسميتها, شكلت مدخلاً قوياً لهذه الدول للدخول بعلاقات اقتصادية بينية, وزاد في هذا الأمر تدفق الكثير من رؤوس الأموال الاستثمارية العربية المقنعة بتسميات متعددة إلى التسابق نحو إسرائيل. بالإضافة إلى أن زيادة التجارة البينية بين بعض الدول العربية وإسرائيل, بعيداً عن التسميات والأرقام حتى لا نفهم أننا نثير غرائز الصراع والعداوة مع بعض الحكومات, إلى حوالي 70 مليون دولار باتجاه الدول العربية بينما إسرائيل لم يصل استيرادها إلى بعض الكسور العشرية قبالة الرقم المدون في النصف الأول من العام الجاري. وهذه الحالة قد جعلت دولاً مثل الهند والصين وروسيا وبعض حكومات رابطة الدول المستقلة والصين إلى فتح باب العلاقات الاقتصادية على مصراعيها مع إسرائيل وأصبحت أسواقها مشرعة أمام الصادرات الإسرائيلية بعد أن كانت مغلقة أمامها. ومن قبيل التذكير أن دولة مثل اليابان أصبحت بعد رفع المقاطعة العربية الجزئية حرة في التعامل مع إسرائيل وقد عرفنا أنها كانت تتمسك بحرفية المقاطعة العربية روحاً ونصاً. و لعل ما قاله الباحث البريطاني (ويل كروفورد) في تذكير العرب بمدى فاعلية استخدام سلاح المقاطعة, أنه إذا ما أراد العرب, إعادة فرض المقاطعة العربية الثانوية سيكلف الاقتصاد الإسرائيلي أكثر من 4 مليارات دولار سنوياً. ويطالبنا الباحث الإنكليزي بمقارنة هذا المبلغ بمبلغ المساعدة الحكومية الأمريكية التي تقدم سنوياً, والتي تصل إلى حوالي 3 مليارات, ولكن 86,1 مليار دولار منها مساعدات عسكرية لشراء الأسلحة الأمريكية ولا تفيد إسرائيل اقتصادياً. ومن ثم تصبح المساعدة الاقتصادية من الولايات المتحدة 08,1 مليار دولار فقط, أقل بكثير من الفائدة الناتجة من رفع المقاطعة العربية الثانوية. وختاماً لا بد من القول أن المقاطعة العربية تمتلك آليات ومقدرة على فرض شروطها على إسرائيل أكثر بأمثال من مقدرة أمريكا على فرض شروطها على إسرائيل إذا أرادت ذلك, وهي من خلال العودة إلى سلاح المقاطعة قادرة على إخضاع إسرائيل لتقديم متطلبات شروط السلام, بما في ذلك الانسحاب من القدس والاعتراف بعودة اللاجئين إلى ديارهم التي طردوا منها. لكن السؤال الملح هل حقاً يعرف العرب هذه الحقيقة المرة التي تعطي إسرائيل المدد من خلال تجاهل سلاح المقاطعة في ديمومة تماديها على الحق العربي والفلسطيني والإسلامي ؟ وهل لا يزال عندهم قناعة باستخدام سلاح المقاطعة, أم أنه بلغ السيف العذل؟

Email