ورقة ضغط تفاوضية قوية ، ضغوط شعبية عربية لاعادة تفعيل المقاطعة الشاملة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الملف السياسي : تفرض طبيعة الصراع العربي ــ الصهيوني, كصراع حضاري مستمر يتمحور حول الوجود لا الحدود ــ اعتماد المواجهة الشاملة كأسلوب لإدارة الصراع, بما يعني ضرورة حفز كل الإمكانات, والتعاطي مع كافة البدائل المتاحة, على أساس استراتيجية تنطلق من أن مقاومة الكيان الصهيوني لا ينبغي لها أن تتخذ من داخل أسلوب, وتنبذ ما عداه. مع الوضع في الاعتبار الضرورات المرحلية ولكن دون غياب الغايات النهائية ــ لأنه حتى على ضوء التمسك بالسلام كخيار استراتيجي ــ شرط أن يكون خيارا للطرف الآخر فإنه لابد من فهم أن السلام الحقيقي لا يضمنه إلا الاستعداد الفعلي لخوض حرب حقيقية بكل صورها وأبعادها ــ بمفهوم أن الحرب ليست في جوهرها صراعا مسلحا فحسب, ولكن باعتماد المفهوم الأكثر شمولا لها صراع مسلح, وصراع سياسي, وحرب نفسية, وحرب اقتصادية ... الخ. في إطار تلك الرؤية, تبرز (المقاطعة) كسلاح سياسي ــ اقتصادي يترجم العلاقة العضوية بين السياسة والحرب والاقتصاد, على ما بينها من تشابك وتداخل يستدعى استنفار كل السياسات والآليات والأدوات, بما يؤدي تراكمات طويلة المدى تقود بالتالي لأحداث تغيرات كيفية في التوازنات الحاكمة للصراع, والتي ترجح انيا ــ كفة الكيان الصهيوني وهذا الرهان لا يجب أن يمثل للعقل العربي عقبة لا يمكن تجاوزها, لأن قراءة صحيحة لمسار الصراع تؤكد كسر المعادلات القائمة, أو تجاوزها أو فرض معادلة أخرى وارد بقدر جدية الفعل الساعي لأحداث التغيير في معادلة القوة عبر تعظيم الإمكانيات, وتحجيم عناصر الضعف عربيا, وبالمقابل تقليص الإمكانيات والموارد وتعظيم عناصر الضعف والتناقصات داخل الكيان الصهيوني. هكذا, فإنه يمكن تثمين المقاطعة باعتبارها أداة فاعلة, ومفاعلة للمواجهة مع الكيان الصهيوني, تستمد شرعيتها ــ بالأساس ــ من كونها أداة ضرورية للدفاع عن الذات العربية ضد العدوان الصهيوني المستمر وبأشكال وأساليب متعددة فالمقاطعة العربية وفقا لذلك يجب أن تنطلق من رؤية شاملة تتجاوز أي رؤية أحادية الجانب, ترتكز فحسب ــ على الفهم الاقتصادي, أو البعد السياسي, أو الجانب القانوني, بمعنى أن تنطلق المقاطعة فكرا وتطبيقا من نظرة شاملة للكيان الصهيوني ــ ومشروعة كمهدد مستمر للوجود والمصير العربي. والثابت أن المقاطعة العربية ــ برغم الثغرات والسلبيات التي يمكن أن تؤخذ عليها ــ مثلت رسميا وفعليا, ومنذ العام 1945 نظاما متكاملا لمقاطعة الكيان الصهيوني وكان لها وجهان متكاملان: إيجابي يهدف إلى منع رؤوس الأموال من التدفق على إسرائيل, واقناع المستثمرين بعدم استمرار استثماراتهم داخل الكيان الصهيوني, ومزاحمة منتجاته في أسواق صادراتها الطبيعية, وخلق الصعوبات في تأمين المواد التي تحتاج إليها صناعاته. وآخر سلبي يهدف إلى منع عمليات التصدير والاستيراد بشكل مباشر أو غير مباشر بين الأقطار العربية, والكيان الصهيوني. ثلاثة مستويات للمقاطعة وقد تدرجت المقاطعة الاقتصادية العربية إلى ثلاثة مستويات يترتب على الاخلال بأي منها اجراءات عقابية محددة ويتمثل المستوى الأول في المقاطعة المباشرة, التي يحظر من خلالها التعامل المباشر مع الكيان الصهيوني في مجالات التجارة, والمال, والخدمات بيعا وشراء, والمستوى الثاني يعني المقاطعة غير المباشرة بحظر التعامل مع الشركات التي تتعامل مع الكيان الصهيوني بصورة مباشرة أو بواسطة شركات أخرى داخل إسرائيل, أو خارجها, أما المستوى الثالث فيتمثل في المقاطعة القانونية, ومضمونها حظر التعامل مع الشركات التي تتعامل فروعها مع الكيان الصهيوني, أو تلك التي تمتنع عن تقديم البيانات المطلوبة منها, والتي تساعد (مكتب المقاطعة الرئيس وفروعه الإقليمية) على الوصول إلى تصور لحقيقة العلاقة القائمة بينها, أو البيانات المتعلقة بشركات أخرى تتعامل مع إسرائيل. وكانت المحصلة رغم كل المحاولات الإسرائيلية والغربية خاصة الأمريكية لكسر طوق المقاطعة إيجابية إلى حد بعيد, فخلال 55 عاما من المقاطعة الرسمية, بلغت خسائر إسرائيل حوالي ربع مليار دولار, نصفها تقريبا استثمارات حالت المقاطعة دون دخولها للكيان الصهيوني. وقد أدت الانتكاسات المتوالية في عملية التسوية, ومحاولات فرض سلام غير عادل, وزيادة التعنت الصهيوني ــ المدعوم أمريكيا ــ وصولا إلى شن العدوان الإسرائيلي الأخير على الشعب الفلسطيني والتهديد بشن حروب ضد لبنان وسوريا والعراق, وسعي باراك إلى تشكيل حكومة حرب, وسقوط الحواجز الوهمية بين الحمائم والصقور في تل أبيب, أدى ذلك كله إلى تصاعد الضغوط الشعبية الشديدة, لإعادة تفعيل المقاطعة الشاملة للكيان الصهيوني, وإذا كانت القمة العربية التي انعقدت عام 96 بالقاهرة عقب تولي نتانياهو الحكم ــ قد طرحت امكانية العودة إلى المقاطعة بجميع مستوياتها, فإن القمة العربية الأخيرة أكدت الالتزام بالتصدي الحازم لمحاولات إسرائيل التغلغل في العالم العربي تحت أي مسمى كما دعا بيانها الختامي إلى التوقف عن إقامة أية علاقات مع إسرائيل, وحملها البيان مسئولية الخطوات والقرارات التي تتخذ في صدد العلاقات مع إسرائيل عدم استئناف أي نشاط رسمي أو غير رسمي في الاطار متعدد الأطراف ووقف كل خطوات وأنشطة التعاون الاقتصادي الإقليمي في هذا الاطار. على هذه الأرضية, يمكن طرح العديد من الأفكار التي تساهم في تفعيل المقاطعة الشاملة, بمختلف الوسائل, وعلى كل المستويات, ليس فقط باعتبارها مطلبا ملحا للتسارع العربي من المحيط إلى الخليج ــ ولكن باعتبارها سلاحا فعالا للحد من آثار الهجمة الصهيونية الشرسة على الشعب الفلسطيني, والتهديدات الوقحة للعديد من الأقطار العربية, وانكار الحقوق العربية المشروعة والعادلة ففي ظل هذه الوضعية, تصبح المقاطعة سلاحا أساسيا في إطار المواجهة الشاملة, وحشد كل عناصر القوة العربية, بينما يعد القبول بتحجيمها أحد عوامل استمرار الكيان الصهيوني في تصعيد عدوانه على الحقوق والشعوب العربية دون رادع كاف. وإذا كان ما سوف نعرضه هنا من أفكار لا يرقى إلى مستوى التصور المتكامل لتفعيل المقاطعة, فإنه يمكن أن يكون بمثابة محاولة جزئية ويمكن البناء عليها والاضافة لها للاسهام عمليا في استنفار الجهود العربية المطلوبة لبعث الحياة في السلاح الذي اثبت فعالية عالية وكانت له الكثير من النتائج الإيجابية التي يمكن انكارها. رؤية جديدة ولعل أهم الآليات والسبل التي يمكن طرحها في هذا السياق تتمثل في الأتي: ــ أن يكون من المهام الأساسية لجهاز متابعة قرارات القمة العربية بحث الترتيبات العملية الخاصة بسبل تفعيل المقاطعة, وتصعيدها, سعيا إلى أن يكون أي اجراء يتعلق بتخفيف قيودها ــ في حال تحقيق انجاز ملموس باتجاه تحقيق السلام العادل والشامل ــ بقرار من مؤسسة القمة العربية. ــ الدعم الفوري لأجهزة المقاطعة سواء فيما يتعلق بدور المكتب الرئيسي أو المكاتب الاقليمية, والدعوة لمؤتمر غير عادي بهدف اعادة النظر في التحديد الدقيق للمهام على ضوء المستجدات واتخاذ اجراءات فعالة لسد أي ثغرات على ضوء الخبرة التاريخية, ودروسها المستفادة ويلزم ذلك دعم أجهزة المقاطعة فالاخصائيين المتفرغين في كل فروع العمل مع زيادة المخصصات المالية, وفي هذا السياق, فإن التوجه العلمي في متابعة أجهزة المقاطعة لابد أن يكون بديلا للأداء البيروقراطي التقليدي. ــ التركيز على الشق العربي من المقاطعة المرتبط بالالتزامات التعاهدية, مع العلم بأن القانون الدولي يقر بالغاء المعاهدات غير المتكافئة, إذ أن اعادة النظر فيما ابرم من معاهدات وفق سوابق متعددة في ظل استمرار احتلال بعض الأراضي العربية, وتحت التهديد المستمر باستخدام القوة وعدم احترام التعهدات أمر وارد. ــ تبني الاعلام العربي لمفهوم مشروعية المقاطعة العربية, خاصة في الخطاب الاعلامي الموجه للمجتمعات الغربية, والتصدي للمزاعم الصهيونية المضادة, والداعية للضغط على العرب, باعتبار اجراءات المقاطعة مسألة تجاوزتها الأحداث وكذلك كشف الحقيقة العدوانية الغاشمة للكيان الصهيوني, مما يجعل سلاح المقاطعة سلاحا دفاعيا مشروعا. ــ وضع خطة توعية قومية شعبية, على عدة مستويات, لتناسب مختلف المستويات التعليمية الثقافية والفكرية في كافة الأقطار العربية لاستثمار الزخم الحالي, وضمان عدم تسرب الفتور, ومن ناحية أخرى يجب ضبط الأداء حتى لا يضر التطبيق العلمي المصالح القومية والقطرية, وفق القوانين الوطنية, والتي تحتاج إلى مساحة زمنية مناسبة لتوفيق أوضاعها السابقة. ــ اخراج قانون المقاطعة من دوامة ملاحقة الشركات الأجنبية التي لم تعجز عن ابتكار وسائل لضمان تجارتها مع العرب والكيان الصهيوني في ذات الوقت, بإجراء حاسم, مع مراجعة حالات المقاطعة العالمية القديمة والحالية لاستنباط الخبرات اللازمة لدعم الأداء العربي في مرحلته الجديدة. ــ ضبط الالتزام العربي الذاتي بالمقاطعة, وإذا كانت هناك علاقات تجارية في إطار استيراد بعض مكونات الإنتاج الصناعي العربي من الكيان الصهيوني, فإن اليسير إيجاد البدائل ــ العربية أو الأجنبية لتلك المكونات, بالتعاون مع الأجهزة المعنية في جامعة الدول العربية, إذ أن استمرار عمليات الاستيراد يعني ــ عمليا ــ تقديم التمويل المطلوب للآلة العسكرية الصهيونية العدوانية. ــ في اطار التعاطي الصحيح مع تطور النظام الرأسمالي العالمي, وموقع كل من الدول العربية وإسرائيل في ظل آليات هذا النظام, ينبغي اعادة تقييم عملية اعادة تدوير المحافظ المالية العربية في خزائن الحكومة والشركات والبنوك الأمريكية, والتي يمر جزء منها لإسرائيل, من ثم يستوجب على أجهزة المقاطعة التنبيه لذلك النشاط ووضع ضوابط جديدة لاستثمار الأموال العربية في الولايات المتحدة بالتنسيق مع الأجهزة القطرية المعنية حتى لا تجد الأموال العربية طريقها في النهاية لدعم الكيان الصهيوني عبر المساعدات الأمريكية. وأخيرا فإن على أجهزة المقاطعة خاصة المكتب الرئيسي ــ السعي لامتلاك تصور شامل ــ على ضوء ما سبق لكيفية المواجهة الشاملة مع الكيان الصهيوني ــ على صعيد تفعيل وتحفيز كل آليات المقاطعة ــ على المديين المتوسط والبعيد, في إطار فكري عام, ينسق بين المنطلقات المتباينة التي تحكم أداء المكاتب الإقليمية, إذ أن غياب الرؤية الشاملة الموحدة يحد من فاعلية جهود المقاطعة. ان المقاطعة العربية تمثل ورقة تفاوضية قوية, تظهر أهميتها في مصدرها إذ صدرت بقرارات متتالية من الجامعة العربية على مختلف المستويات وصولا إلى مؤسسة القمة, ولا يزال النجاح الأكبر الذي يمكن أن تحرزه المقاطعة متمثلا من حرمان إسرائيل من أن تصبح جزءا لا يتجزأ دون فرض أو ضغط أو تهديد من المنطقة, رغم وجودها الفعلي, لقد حرم الكيان الصهيوني- طويلا من السوق العربية الكبيرة, سواء بمعيار السكان أو بمعيار القوة الشرائية, وكان على تل أبيب أن تبحث عن منافذ بعيدة لتصريف منتجاتها, كما أدى منع سفنها وطائراتها من التوقف في الموانئ والمطارات العربية, إلى خلق صعوبات عديدة للاقتصاد الصهيوني, من ثم فإن استمرار المقاطعة يمثل أحد ضمانات تقليل حجم التنازلات على موائد المفاوضات العربية ــ الإسرائيلية على كافة المسارات. لقد كان الطموح الإسرائيلي من وراء إنهاء المقاطعة طموحا ضخما بكل المعايير لذا يجب على العرب شحذ سلاح المقاطعة, واستثماره في خدمة المصالح العربية قوميا وقطريا بإيجاد معاني جديدة للسلام مفادها انهاء حدة المقاطعة تدريجيا مقابل الحل الشامل, وبالتوازي مع تفعيل الاندماج الاقتصادي العربي, من ثم فإن على صانع القرار العربي الاصرار على عدم التنازل المجاني مهما كانت الضغوط ــ عن المقاطعة, ليس فقط كأحد أسلحة المواجهة الشاملة, ولكن باعتبارها ورقة تفاوضية للغاية, من ثم فإن مقتضيات السياسة العملية تفرض اعادة النظر في الآليات القائمة للمقاطعة, ودور ومهام الأجهزة المعنية لضمان عدم انهيار خط دفاعي خطير يحرم الجسد العربي من جهازه المناعي الرئيسي برغم كل الاختراقات ــ فإنه حمى الجسد العربي ـ لأكثر من نصف قرن من الإصابة بإبراز الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية. لقد آن الآون لإسقاط شعار التطبيع وإحلال المقاطعة ليس كشعار فقط, وإنما كسلاح سياسي ــ اقتصادي, وكخط دفاع عربي أخير في مواجهة الهجمة الصهيونية المستمرة, وفق صياغة معادلة صفرية ــ من الجانب الصهيوني ــ بهدف (الصهيونية الإجمالية للمنطقة العربية, كغاية نهائية, عبر التجزئة, وفرض التخلف الاقتصادي, وتنمية شروط التبعية, والتضييق على برامج الاندماج الاقتصادي العربي, بل ضرب أي مبادرة في هذا الاتجاه, حتى يستمر تدني العلاقات الاقتصادية العربية البينية, بينما يتم الدفع ــ بالمقابل إلى زيادة وتيرة التطبيع مع الكيان الصهيوني! إن شرعية المقاطعة العربية لم تكن يوما ــ محل شك, لأنها وسيلة للدفاع عن الحق, في مواجهة القوة الغاشمة, وبما يستوجب دائما ــ السعي لإبداع وسائل تصبح من خلالها ــ المقاطعة أكثر فاعلية للعرب, وأشد سلبية للكيان الصهيوني, وفي إطار عمل عربي جدى وموحد, يرنو إلى مقاومة أهداف المشروع الصهيوني, ويحد من مطامع الكيان الذي يجسده, وليس فقط باعتبار المقاطعة مجرد وسيلة لإضعاف ذلك الكيان اقتصاديا, لأن الصراع كان وسيظل تاريخيا ومصيريا, من ثم فهو معني تماما بالمستقبل.

Email