الملف السياسي ـ جزء من عملية تهويد فلسطين ككل, التهويـد الثقافي والاعلامـي لمدينـة القـدس وتراثهـا

ت + ت - الحجم الطبيعي

يدرس الطفل الاسرائيلي القدس وتراثها من وجهة النظر اليهودية, وذلك في اطار تبرير الوجود اليهودي في فلسطين والذي نراه ملخصا في كتاب (ديفيد الصغير) بصورة تعكس كيف يعزز اليهود ما لديهم من معتقدات لاطفالهم. ولذا بات علينا ان نكتشف صورة المجتمع الاسرائيلي من الداخل وموقفه من قضية اعادة بناء الهيكل وحقيقة هذا الهيكل وهل يحق لليهود اعادة بنائه, وهل للهيكل موقع ثابت ومقدس في العقيدة اليهودية؟ حيث يرى الباحث ان الهيكل ليس له موضع ثابت مقدس في العقيدة اليهودية وتثبيته جاء كاسطورة بثها اليهود بعد السبي البابلي كنوع من مقاومة الذوبان في المجتمع الذي هجروا اليه, خاصة مع وجود شكوك في قدسية القدس كمدينة لدى اليهود. لقد فهم عبدالملك بن مروان اهمية القدس كمدينة مقدسة لدى المسلمين والمسيحيين, لذا كان تشييده مبنى قبة الصخرة بنقوشه التي تحمل آيات من القرآن خاصة بالديانة المسيحية رسالة اعلامية موجهة الى مسيحيي القدس الموالين للدولة البيزنطية والدولة البيزنطية هدفها اعلامهم بانه في ظل الصراع الاموي البيزنطي فان القدس مدينة اسلامية يحكمها المسلمون احفاد العرب مؤسسي المدينة, لذا بات علينا ان نوجه رسائل مماثلة لليهود والمسيحيين البروتستانت الذين يساندون اليهود في ادعاءاتهم. ان التهويد هو عملية نزع الطابع الاسلامي والمسيحي عن القدس وفرض الطابع الذي يسمى (يهوديا) عليها وتهويد القدس جزء من عملية تهويد فلسطين ككل, ابتداء من تغيير اسمها الى (ارتس يسرائيل) مرورا بتزييف تاريخها, وانتهاء بهدم القرى العربية واقامة المستوطنات ودعوة اليهود للاستيطان في فلسطين. وقد بدأت عملية التهويد منذ عام 1948م وزادت حدتها واتسع نطاقها منذ يونيو 1967م. وقد ارتكزت السياسة الاسرائيلية على محاولة تغيير طابع المدينة السكاني والمعماري بشكل بنيوي فاستولت السلطات الاسرائيلية على معظم الابنية الكبيرة في المدينة واتبعت اسلوب نسف المنشآت وازالتها لتحل محلها اخرى يهودية, كما قامت بالاستيلاء على الاراضي التي يمتلكها عرب وطردهم وتوطين صهاينة بدلا منهم. يعد التهويد الثقافي والاعلامي احد المحاور الهامة في مخططات تهويد القدس, ويمس هذا التهويد تراث المدينة بدرجة كبيرة ذلك لانه التعبير الحي عن هويتها لذا بات التراث هاجسا يمس بصورة يومية المقولات اليهودية الدارجة حول المدينة, بل تحول مؤخرا الى قلق دائم لدى اليهود وهم يحاولون من آن لآخر الاجابة عن التساؤلات المطروحة امامهم حول تاريخ القدس وتراثها ومدى يهوديتها, وللتهويد الثقافي والاعلامي صور شتى, منها التربوي, ومنها ما يمس مفاهيم ماهية القدس وحدودها, ومنها ما يتعلق بتزييف الحقائق التاريخية حول مدى قدسية القدس لدى اليهود ومنها ما يمس حقيقة الهيكل وهل له مكان ثابت مقدس يجب ان يبنى فيه؟ هناك بعد آخر يتحدث عن اكساب الرؤية اليهودية لمدينة القدس طابعا علميا, وهذا يبدو من خلال نشاط الجامعات والمؤسسات الاسرائيلية, فبالرغم من تسليم الاثريين اليهود بفشلهم في العثور على حجر واحد من اية بناية تنسبها التوراة الى النبي سليمان على الرغم من مرور عشرات السنوات من التنقيبات الاثرية الاسرائيلية المكثفة في العديد من المواقع بالقدس, الا انه لم يعثر على شيء ذي بال يؤكد يهودية المدينة, وينسب اليهود حجرا عثر عليه بالقدس نقشت عليه اسماء الشهور بالحروف العبرية القديمة المشتقة من الابجدية الفينيقية الى عصر النبي سليمان وحجرا آخر تدل نقوشه على نسبته للنبي حزقيا قناة مياه خارج القدس, وقد ادت نتائج الحفائر الى جوار الحرم القدسي عن الكشف عن ثلاثة قصور اموية كانت مخصصة لاقامة الامراء الامويين الذين حكموا المدينة وهو ما مثل خيبة امل كبيرة لدائرة الاثار الاسرائيلية التي تخضع لها المنطقة حاليا فضلا عن خيبة الجامعة العبرية وجمعية كشف اسرائيل التي قامت بالحفائر, وكانت الجمعية السابق ذكرها دعمت برنامج بنيامين مازار الاستاذ في الجامعة العبرية والذي وضع مشروعا للكشف عن الطبقات الدنيا من الهيكل في موضع الحرم القدسي الشريف وبالقرب منه, وهو ما ادى الى هدم العديد من الآثار الاسلامية في مناطق الحفر, ولم يعثر اليهود على اي اثر يعتد به يعود الى عصر الهيكل المزعوم. استعان اليهود بعلم الآثار كوسيلة لتدعم تصوراتهم حول القدس فاكتشاف الماضي يوفر عاملا حاسما في بناء الهوية السياسية او تأكيد الحاضر, وهو ما يوفره علم الاثار لليهود, ولذا نراهم يحرصون على ان تكون جميع الرموز الوطنية الاسرائيلية مستمدة من عناصر ذات طبيعة تراثية, مثل شعار الدولة, والاوسمة والنياشين, وطوابع البريد والنقود. على الجانب الآخر مازال العرب مغيبين في مجال الدراسات الاثرية التي تتعلق بفلسطين خاصة في عصور ما قبل التاريخ التي يركز عليها اليهود حاليا لاثبات وجودهم في فلسطين بصفة عامة والقدس بصفة خاصة, بل ان التركيز على تراث المدينة الاسلامي لم يخرج عن الحرم القدسي, ولذا بات من الملح الاهتمام بهذا المجال كجزء من الخطاب السياسي الاسلامي والعربي الخاص بالقدس, فوضع خريطة طبوغرافية لتطور عمران القدس من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث امر حيوي, خاصة اذا اردنا الحديث عن ملكيات الاوقاف الاسلامية في المدينة التي استولت عليها اسرائيل, ومع توافر الوقفيات الايوبية والسلوكية والعثمانية التي توضح بالتفصيل الدقيق عمران المدينة في هذه العصور وملكيات الاراضي والمباني بها وبالمناطق المحيطة بها والتي اصبحت اليوم جزءا لايتجزأ من المدينة, ان هذا العمل لاشك سيكون مفيدا للباحثين وللسياسيين حين حديثهم عن المدينة كجزء من مقدسات واملاك المسلمين التي لايجوز التنازل عنها. اننا نستطيع من خلال وثائق القدس 13 واثارها المعمارية ــ التي مازالت باقية الى اليوم ــ الاسلامية والمسيحية رسم صورة متكاملة للقدس في العصور المختلفة, وتحديد ملكية اراضيها خاصة ما يقع في ملكية الاوقاف منها ومما يساعد على ذلك ان الوقفيات وسجلات محكمة القدس الشرعية تحدد حدود كل منشأة وابعادها والطرق التي تقع عليها ومكوناتها والاراضي التي وقفت عليها ان كانت منشأة دينية او خيرية او منشأة اقتصادية تدر ريعا, ان هذه الخريطة الطبوغرافية التاريخية ستساعد بلا ادنى شك في استرداد الاراضي التي استولت عليها سلطات الاحتلال الاسرائيلي سواء في القدس او في باقي اراضي فلسطين المحتلة, لقد فهم اليهود اهمية وثائق القدس فقاموا في 18 نوفمبر 1991م بالاستيلاء على بعضها من مبنى المحكمة الشرعية في المدينة. فالقول بوجود قدسين شرقية وغربية, اشبه بالهراء اذ لاتوجد سوى قدس واحدة هي المدينة القديمة وضواحيها التي هي عاصمة فلسطين المحتلة, فمنشأ شيوع هذا الخطأ السياسيون ووسائل الاعلام, اذ كانت القدس حتى عام 1917م ومنذ ذلك التاريخ بدأت الهوية العربية للقدس في التغير خلال فترة الانتداب البريطاني الذي منحته عصبة الامم لبريطانيا في عام 1922 على فلسطين, وترتب على ذلك زيادة هجرة اليهود لفلسطين وبدأت ديموغرافية القدس في التغير وتضاعف عدد اليهود فيها في الفترة من 1917 الى 1948م ليقفز من ثلاثين الفا الى حوالي مئة الف بنهاية فترة الانتداب. اغتصب اليهود القدس على مرحلتين في المرحلة الاولى عام 1948م استولوا على القدس الجديدة وضموا اليها المدن العربية المحيطة بها, كان يسكن هذه المدينة فلسطينيون عرب ويهود, وقد سكنت الاغلبية من اهالي القدس العرب في خمس عشرة ضاحية سكنية في القدس الجديدة وامتلكت ثلاثة ارباع اراضيها ومبانيها, وكانت المناطق العربية تفتقر الى الحماية تماما ولذا احتلت اسرائيل ثلاث عشرة ضاحية منها وبذا يكون من الخطأ ان نتصور ان اليهود في 1948 استولوا على الجزء الغربي اليهودي من المدينة بينما فرض العرب سيادتهم على الجزء العربي. بل ان الهيكل تعرض للاهمال وصار موضع ازدراء من اليهود في مراحل تاريخية لاحقة, تعرضت القدس للهدم مرات عديدة في التاريخ مما يجعل من الصعب تحديد موضع الهيكل اليهودي بها. بل طرأ تغيير على العهد القديم في خلال فترة السبي البابلي يجعلنا نشك في كثير من المسلمات اليهودية اليوم, اثبتها عالم الاثار الاكدي فريدرك ديليتش من خلال سلسلة من المؤلفات حول بابل والكتاب المقدس, انتهى فيها الى اعتماد العهد القديم الى حد ما على العقائد البابلية. تعد اعادة بناء الهيكل واحدة من اهم القضايا الخلافية بين اليهود الذين ينقسمون الى صهاينة وغير صهاينة, فغير الصهاينة يعارضون فكرة العودة وبالتالي اعادة بناء الهيكل, اما الصهاينة فقضية اعادة بناء الهيكل قضية محورية لديهم والمتطرفون من الصهاينة يولون هذه القضية اولوية شديدة بحيث جعلت المنظمات الصهيونية هدم الاثار الاسلامية الموجودة في هذا الموقع من اهم اهدافها. وقد قامت عدة محاولات من جانب الجماعات الصهيونية تستهدف تفجير الاماكن المقدسة الاسلامية في القدس, او حرقها, بل ضبطت محاولة لالقاء قنبلة عليها من الجو, وهناك منظمة يهودية تسمى (امناء جبل الهيكل) التي يمولها المليونير الامريكي (المسيحي الاصولي) ترى رازنهوفر, جعلت بناء الهيكل الثالث هدفها الاساسي وقد اسست مدرستان تلموديتان عاليتان بالقرب من حائط المبكى لتدريب مئتي طالب على شعائر العبادة القربانية وهي الشعائر الخاصة بالهيكل, واحدى هذه المدارس, معهد الهيكل (يشيفات هبايت) وظيفتها الاساسية محاولة التعجيل ببناء الهيكل, وقد بدأت هذه المدرسة في اعداد ادوات العبادة القربانية التي يبلغ عددها ,103 وضعت الادوات التي تم الانتهاء منها في متحف, وقد عقد في سنة 1990م مؤتمر يضم اليهود الذين يعتقدون انهم من نسل كهنة الهيكل ويوجد في فندق الهيكل في القدس مجسم مصغر للهيكل وينوون ان يبنوا مجسما آخر اكبر حجما يتكلف مليون دولار يتم جمعها حاليا من يهود العالم. ان البعد الاسلامي الذي يحمل خطابا حضاريا نفتقده اليوم في مخاطبة الآخرين للتعريف بقضيتنا, بالرغم من اجادة اجدادنا استخدام هذا الخطاب في المدينة المقدسة القدس فقد نجح عبدالملك بن مروان في ظل الصراع الدولي بينه وبين الدولة البيزنطية من خلال اهتمامه بالمقدسات الاسلامية في القدس في ايصال رسالة اعلامية وحضارية وتراثية الى الدولة البيزنطية ومازلنا الى اليوم نستفيد من هذه الرسالة ولكن لم ننجح في استيعاب الدرس الخاص بها. تعد قبة الصخرة والحرم القدسي الشريف حولها ابرز العمائر التي تحمل مضامين حضارية يعود تشييد القبة الى العصر الاموي, الذي شهد نزاعا حضاريا بين الدولة الاموية والدولة البيزنطية على السيطرة على العالم القديم واتخذ هذا النزاع صورا متعددة, منها تعريب طراز اوراق البردى التي كانت تصنع في مصر وتعريب للنقود في اطار سياسة رسمها عبدالملك بن مروان الهدف منها ارضاء الشعور الديني والسياسي للمسلمين, ورغبته في اعادة حق ضرب النقود الى الخلافة في شخص الخليفة كمظهر من مظاهر الملك والسلطان بعد ان انتزع حق ضرب النقود من أكثر الولاة والثائرين فكان الاصلاح النقدي سببا هاما في القضاء على الفوضى السائدة تحقيقا للاستقرار السياسي, فضلا عن ان النقد العربي الخاص يعبر عن سيادة الدولة وخروجها من تحت عباءة النفوذ الاقتصادي البيزنطي لهذا اتجه عبدالملك الى الاستقلال الاقتصادي بتعريب النقود, فضلا عما يتيحه هذا من توحيد النظام النقدي في دولة تمتد عبر مساحات شاسعة من الاراضي. اتجه عبدالملك بن مروان في اطار هذا المخطط الشامل الى العمارة التي ترمز الى سيادة الدولة واتجاهها الفكري, ففي القدس تبنى مشروعا ذا طابع سياسي ديني حضاري, يرتكز على الاهتمام بعمارة الحرم القدسي الشريف خاصة قبة الصخرة والمسجد الاقصى, لارتباط هذا الحرم بالعقيدة الاسلامية فهو اولى القبلتين وفيه صلى الرسول بالانبياء واليه كان اسراؤه ومنه كان معراجه. ولما كانت عمارة الحرم آنذاك بسيطة لاتتناسب مع ما حولها من كنائس, خاصة كنيسة القيامة المقدسة لدى المسيحيين ومع ما قد تحدثه عمارة الكنائس في نفوس بعض المسلمين, ورغبة عبدالملك في اثبات الهوية الحضارية الجديدة للمدينة تبنى مشروع عمارة قبة الصخرة والمسجد الاقصى. ويلفت الانتباه من هذا المشروع قبة الصخرة ابرز اثار الحرم, فهي تعد اول عمل معماري واع لعظمته بل متباه بها, انتهى من بنائها عام 72هـ/ 692م. وهي ترى من مسافات بعيدة وهي مبنية فوق صخرة مقدسة حولها ممران يدوران حولها بمسقط مثمن شامخة في الهواء في مركز الحرم القدسي على كل من تلال القدس وهذه القبة ذات التصميم الهندسي الذي يصل لحد الجمال والروعة كانت مزخرفة بالفسيفساء على كل سطوحها داخلا وخارجا, وكانت ومازالت تبهر الرائين حتى ان كثيرا منهم لم يملكوا انفسهم من اضفاء كل صفات البريق واللمعان عليها. فالقبة مبنى معماري ذو رمزية سياسية ينبىء في القدس عن رغبة الدولة الاموية في بث حضارة جديدة تعبر عن اتباع الدولة المقيمين في المدينة, ويوجه رسالة الى الآخرين عن مدى قوة الدولة ومضمون رسالتها وظلت قبة الصخرة بلونها الذهبي رمزا لمدينة القدس يعلوها الهلال الذي يوازي اتجاه القبلة وعندما استولى الصليبيون على القدس نزعوا الهلال من فوق قبة الصخرة واقاموا مكانه صليبا من الذهب وعندما استرجع صلاح الدين القدس مرة اخرى سنة 583 هــ/1187م. تسلق بعض المسلمين القبة واقتلعوا الصليب واعادوا الهلال الى مكانه هكذا شكل الموقع الذي شيدت عليه قبة الصخرة جانبا من الرمزية السياسية. بقلم د. خالد عزب/ كاتب عربي

Email