تحليل إخباري : ملاحظات حول الوضع السوداني الراهن ، بقلم: د. حيدر إبراهيم علي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يزداد المرء يقينا كل يوم بأن السياسة السودانية عقيمة ومجدبة وخالية من الابتكار والتفكير بعيد المدى وان السودان قد ابتلي بقادة توقف نموهم السياسي عند طفولة مبكرة. لذلك ما زالت تحكم مواقفهم الانفعالات وردود الفعل الآنية, كما توقف الساسة في المعارضة والحكومة عن ادارة الأمور بأنفسهم وهي في انتظار معجزة الوسطاء والمبادرات الخارجية. وكالعادة لا يتوقف الساسة السودانيون لحظة واحدة للتساؤل والتأمل: لماذا وصلت الحالة الى ما هي عليه الآن؟ ولماذا عجزنا عن تقديم حل سوداني تمليه ارادة ذاتية ويخدم مصالح الوطن حقيقة؟ من الواضح ان الواقع السياسي الراهن لم يعد قادرا على طرح قضايا جديدة ولا تقديم شخصيات جديدة. فنحن نجتر ونعيد نفس القضايا والموضوعات ونستخدم نفس اللغة والمصطلحات العتيقة. وبالتالي نركن الى نفس الاساليب في المناورة والخداع والتسويف. ومن الصعب الخروج من هذه الدائرة المفرغة لأن من يحتل الساحة هم نفس الشخصيات التي تخصصت في خلق الأزمات التي تدعي انها تعمل على حلها الآن. وقد تدهورت الاحوال سريعا داخل القوى السياسية وانعكس ذلك على تطور خطوات الوصول الى حل سلمي شامل يقود الى التحول الديمقراطي في السودان. ويبدو واضحا ان الحل سيأتي من خارج الوطن ولن يلبي الاحتياجات الحقيقية والضرورية للانتقال الى الديمقراطية دون فاقد كبير. فهل نحن مقبلون على فشل سياسي يضاف الى قائمة الفشل الطويلة والمزمنة التي (انجزت) منذ الاستقلال؟ نبدأ بسؤال بسيط وهو هل يحتاج حل الأزمة الى هذا العدد من المؤتمرات واللقاءات والرحلات؟ لقد استنفدت الطاقات والأموال والوقت دون الوصول الى حد ادنى من الاتفاق يقود الى خطوة متقدمة. ويبدو ان ذلك يعود الى عدم القدرة على تحديد القضية أو القضايا وهذا منتهى الضياع والعبث, اذ هناك تصورات متباينة معلنة وغير معلنة لدى كل طرف ولكل فصيل ولكل ناطق رسمي أو غير رسمي. ولذلك تختبىء حكومة الانقاذ خلف المؤتمرات والجولات الكثيرة غير المجدية ويختبىء الصادق المهدي خلف الكلمات والمصطلحات الكبيرة الخاوية مثل: الاستئصال والتدويل والأجندة الوطنية والمربعات, ويختبىء محمد عثمان الميرغني خلف الصمت والغموض, أما العقيد جون قرنق فلديه الكثيرون المتحدثون باسمه. وتنسحب هذه الآلية على بقية الفصائل بتنويعات تختلف قليلا. ويلتقي الجميع في نقطة الغموض وعدم الوضوح, وهذا هو عين المطلوب في السياسي السوداني الجيد الذي يجب ان يكون أقرب الى ابطال القصص البوليسية. إضافة الى ما تقدم تمارس القوى السياسية حيلة اللعب بالزمن وتشتيت الوقت مثل لاعبي كرة القدم. ومن اهم مظاهر ذلك اصرار الحكومة على عقد المؤتمر التمهيدي الحالي قبل المؤتمر التحضيري! فقد نسيت الحكومة ان المؤتمر يبدأ قبل الانعقاد بكثير. اذ مع التفكير في المؤتمر تبدأ المشاورات مع المدعوين المفترضين. وهذا يعني اشراك المدعوين في اختيار من سيرأسون اللقاء ومن سيسيّر لجان المؤتمر والاتفاق حول الموضوعات والمواعيد. ولكن الحكومة اعتبرت كل ذلك فرض كفاية تقوم به الحكومة ويسقط عن الباقين. فهي قد تعودت منذ عام 1989 على عقد مؤتمرات حوار يغيب عنها الحوار منذ البداية لغياب المشاركة في الاعداد والتنظيم, وظلت مؤتمرات: شاوروهن وخالفوهن. فالقرارات والأجندة معدة وموافق عليها. ولنترك الماضي قليلا, ونعطي الانقاذ حق الشك وانها تغيرت عن السنوات الاولى فماذا كان يضيرها من اجل نجاح المؤتمر التمهيدي في ان تتشاور مع من تريد دعوتهم؟ أعتقد ان ما تريده حكومة الانقاذ ليس الحوار والاتفاق ولكن مجرد الاحراج وتصوير معارضيها وخصومها بأنهم رافضون للحوار والحل السلمي الشامل. وهي الآن تحاور نفسها حين تحاور أحزاب التوالي المسجلة رسميا, وحتى هذه أبدت تبرمها انسحبت سبع تنظيمات. أما الطرف الذي تمثله المعارضة فليس أحسن حالا في ادائه. فقد قاطع المؤتمر وله الحق بسبب سلوك الداعي, وهكذا يكفي, ولكن الناطق الرسمي باسم التجمع الوطني الديمقراطي أراد بالعقلية السياسية السودانية التقليدية ان يسجل نقطة على الحكومة. اذ صرح بأن هذا المؤتمر يضر بجهود المبادرة المصرية ـ الليبية من اجل الوفاق, قاصدا تأليب مصر على الحكومة. ولكن سفير مصر في السودان محمد عاصم إبراهيم صرح فورا بأن هذا المؤتمر لا يؤثر على المبادرة المشتركة بل يعتبر رافدا للقاء الشامل والجامع. وهكذا تسبب الناطق الرسمي في اعطاء المؤتمر التمهيدي دعما معنويا بينما قصد العكس تماما. وليت الناطق الرسمي تذكر الحكمة: (أن يقل خيراً أو يصمت) . تثير طريقة ادارة الصراع السياسي حاليا سؤالا أرجو ألا يكون متطرفا وهو هل لدينا في السودان زعماء وطنيون؟ هذا سؤال يبدو وكأنه يتشكك في وطنية زعمائنا ولكن كثيرا ما يوضع زعماؤنا في محك الاختيار بين المصلحة الحزبية والمصلحة الوطنية, فيغلبون المصلحة الحزبية. قد يظنون ان الحزب والواحد متطابقان وهذا هو الخطأ الأعظم. فهؤلاء الزعماء الكبار أضاعوا فرصاً للوحدة الوطنية والسلام والوصول الى الديمقراطية بسبب الحسابات الضيقة التي تضع عينها على المكاسب الحزبية. وقد عبر عن هذا الوضع قيادي في حزب كبير حين وصف علاقاتهم المتبادلة مع الحزب الآخر بأنهم (يشنكلوا) لبعض. وهكذا تسود ثقافة (الشنكلة) في قضايا حيوية ومصيرية, ويمكن ان نعدد الكثير من المواقف المتعارضة. وتجسد وضعية التجمع الوطني الحالية هذا النوع من العلاقة حيث تغلب المصالح الحزبية تماماً فيما يتعلق بعودة حزب الأمة للتجمع, وفي الوقت نفسه هناك عناصر داخل حزب الأمة تعتقد أن الحزب بهذه الطريقة (أي التجميد) يمكن أن يحقق مكاسب حزبية أعظم وبالتالي يعمل على وضع عراقيل أمام التقارب مع المجتمع. تقود المسألة السابقة إلى ملاحظة أخرى وهي أن الأحزاب, السودانية الكبيرة ما زالت جزئية بسبب الجهوية والطائفية والبرنامج, فهي ترتكز على مناطق نفوذ بعينها لم تستطع أن توسعها, كما أن الولاء الطائفي صار أقوى من الماضي بسبب غياب قيادات قوية إلى جانب راعي الطائفة مما جعله مطلق السلطات في التعامل مع أعضاء الحزب وكوادر وتنظيمات الحزب الداخلية, وفي الأسابيع الماضية قام محمد عثمان الميرغني بتفويض بعض الشخصيات دون أي رجوع إلى الحزب وخلق هذا القرار الكثير من السخط والغضب وبالطبع عمق الخلافات الموجودة أصلاً. ومن ناحية أخرى أعلن الصادق المهدي شكلاً تنظيمياً أحدث ضجة عظيمة مما اضطر المهدي إلى استدعاء قيادات من الداخل لعقد اجتماع يناقش ما سمي (التنظيم المرحلي للحزب استناداً على توصيات وقرارات الاجتماع المشترك بين الداخل والخارج في فبراير 2000) والسؤال هو: هل هناك أصلاً حاجة لاحداث هذه المعركة؟ ألم يكن من الممكن أن ينتظر المهدي حتى يدعو إلى مثل الاجتماع الحالي؟ أم لأنه تعود على إصدار القرارات منفرداً أدخل نفسه وحزبه في مثل هذه الورطة؟ أما ما يسمى بالأحزاب الصغيرة فقد رحلت أزمتها من خلال وجود جناحين لزوم التحليق عاليا فهي تجرب أن يكون في الحزب جناحان! أثار انتباهي في تكوين المؤتمرات واللجان وحتى الوزارات أن النخبة السياسية السودانية قد أضحت عقيمة فعلا, فهي تمتلك حوالي 40 ـ 50 اسما يتم تداولهم واعادة انتاجهم في كل الفعاليات السياسية وكأنهم (كروت كوتشينة) لا تتغير, وهؤلاء الناس تتناسخ أرواحهم وفي كل فترة تتقمصهم مهمة أو وظيفة سياسية جديدة, أولا نحن نتداول أغلب الأسماء الحالية منذ منتصف الستينيات ثانيا أغلبهم شخصيات عابرة النظم والايديولوجيات تجدهم في النظم الديمقراطية والعسكرية وفي انتخابات تعددية وفي الاتحاد الاشتراكي والمؤتمر الوطني وفي مجالس الشعب وفي الجمعية التأسيسية وفي المجلس الوطني, ويتقلدون المناصب التنفيذية والتشريعية في كل العصور ويرأسون مؤتمرات دستورية وجمعيات خيرية وأندية رياضية وجمعيات أبناء كذا ولجنة بناء مسجد, فهذه النخبة عابرة النظم تم استهلاكها بسبب العمر وتغيير الأقنعة المستمر وتعاقب الرؤساء عليهم, ومع ذلك تتشبث بالمواقع المتقدمة وهذا يفسر لماذا لن ينهض السودان؟ يقال ان الفساد يبدأ من الرأس أتمنى أن نسرع في البحث عن رؤوس جديدة غير مستهلكة وملتزمة بموقف ثابت ولو خاطىء, عوضاً عن هذه المسرحية ذات الممثلين المتكررين.

Email