انقلاب استراتيجي في علاقات القوى العسكرية، مشروع الدفاع الصاروخي الامريكي محاولة لقلب نظام الردع النووي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تختلف الدوافع والمبررات من مرة إلى أخرى.. ولكن الواضح أن الولايات المتحدة تصر على دفع العالم بصفة دورية إلى جولات جديدة من سباق للتسلح يستنزف موارد هائلة. (فبعد تصدع ثم انهيار الاتحاد السوفييتي, والتوصل إلى اتفاقية (ستارت 2) مع روسيا, بدا أن أكبر مشروع للتسلح فى العالم قد فقد مبرر وجوده.. نعني (مبادرة الدفاع الاستراتيجي) التى طرحها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان فى الثمانينيات, والتي اشتهرت إعلاميا باسم (حرب النجوم). لكن (المبادرة) لم تلبث أن عادت للوجود فى ثوب جديد فى أواسط التسعينيات تحت اسم النظام الدفاعى المضاد للصواريخ الباليستية! وبعد أن كان الخطر الذى طرحته (مبادرة الدفاع الاستراتيجى) لمواجهته فى الثمانينيات هو احتمال هجوم صاروخي سوفيتي, تطرح الولايات المتحدة الآن برنامجها المضاد للصواريخ الباليستية لمواجهة خطر هجوم صاروخى من جانب احدى الدول (المارقة) أو (الخارجة على القانون), باستخدام صواريخ بعيدة المدى الصواريخ بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل.. والتى ترى فيها أمريكا تحديا لأمنها القومى ومصالحها فى مناطق حيوية عديدة فى العالم فهى كوريا الشمالية وايران وبدرجة أقل دول مثل العراق وليبيا!! وفى مواجهة هذا (الخطر) تطرح الولايات المتحدة برنامجا للدفاع المضاد للصواريخ تبلغ تكلفته الأولية 60 مليار دولار أمريكي, ويشتمل على منظومة معقدة من الأقمار الصناعية وأنظمة الرادار الأرضية والمحمولة جوا, وشبكات الاتصالات وأجهزة الكومبيوتر فائقة التطور, وقواعد اطلاق الصواريخ الدفاعية.. الخ الخ. والواقع ان المبررات المعلنة لهذا البرنامج الأمريكى ذى التكلفة الباهظة للغاية هى مبررات تفتقر تماما الى القدرة على الاقناع, ولا يحملها محمل الجد حتى أقرب حلفاء الولايات المتحدة و شركاؤها فى (الناتو) وفى مقدمتهم دول غربية كبرى كفرنسا وألمانيا وايطاليا. فأولا: لا تزال البرامج الصاروخية للدول (المارقة) شديدة التخلف بالقياس الى امكانية شن هجوم على الولايات المتحدة سواء من حيث مدى الصواريخ أو قدرتها على حمل الرؤوس الحربية. فأحدث صاروخ ايرانى (شهاب 3) لا يزيد مداه على 1300 كم.. وأحدث صاروخ كورى شمالى يبلغ مداه 1500 كم. بينما تفصل هذين البلدين عن الولايات المتحدة آلاف الكيلومترات. وتحتاج أى من الدول (المارقة) الى سنوات طويلة للغاية لكى يمكنها صنع صواريخ قادرة على الوصول الى الاراضى الامريكية, فضلا عن تطوير اسلحة الدمار الشامل . وهى سنوات تقدرها أجهزة المخابرات الامريكية نفسها بما لا يقل عن عشر سنوات من الآن.. ثانيا: بفرض أن أيا من الدول (المارقة) تملك نظريا (ونؤكد: نظريا فحسب) أسلحة قادرة على مهاجمة الولايات المتحدة, فهل يمكن ان تضع اية دول نصب عينيها مثل هذا الهدف الجنونى؟؟!! إن جوهر فكرة الردع يكمن فى قدرة الخصم على إلحاق الضرر (بالمعتدى) بما يحمل الأخير على حسبان الحساب للانتقام الذى يمكن أن ينزل به. وقدرة الولايات المتحدة على التدمير الكامل لأى من (الدول المارقة) مسألة لا تحتاج الى شرح أو ايضاح.. فأى مجنون ذلك الذى سيقدم على افناء شعبه وبلاده بالكامل, ونفسه شخصيا بشن هجوم صاروخى على الولايات المتحدة؟؟!! ثالثا: فى ظل انفراد الولايات المتحدة بوضع القطب الأوحد (للنظام العالمى الجديد)أصبحت واشنطن تملك أدوات غير مسبوقة للضغط والاحتواء, يمكن أن نلمس اثارها بوضوح فى التغيير المستمر لسياسة الدول المسماة (بالمارقة) ويمكننا فى هذا الصدد أن نشير مثلا الى المتغيرات الكبيرة فى السياسة النووية لكوريا الشمالية, والتطورات الهامة التى تشهدها العلاقات بين الكوريتين فى السنوات الأخيرة, وصولا الى قمة زعيمى البلدين فى (بيونج يانج) الى المتغيرات السياسية الخارجية الايرانية والليبية والسورية.. الخ وهذه المتغيرات نفسها كانت وراء تخلى واشنطن مؤخرا عن تعبير (الدول المارقة) أو (الخارجة على القانون) لتستخدم بدلا منه تعبيرا مخففا هو (الدول المثيرة للقلق) ومهما تكن الملاحظات حول مدى دقة أو شرعية التعبير القديم أو الجديد, فالمؤكد أن تغيير وصف واشنطن للدول المناوئة لسياستها يشير الى وقائع ومتغيرات, لا يستقيم معها الحديث عن مخاطر تقتضى ضرورة انشاء نظام مضاد للصواريخ, من أجل مواجهتها. الدوافع الحقيقية الواقع أن الذرائع الأمريكية المستندة الى (مخاطر) آتية من (الدول المارقة) أو هى من أن تبرر هذا المشروع الضخم, الذى يمثل فى حالة تنفيذه, انقلابا استراتيجيا جذريا فى علاقات القوى العسكرية فى العالم وطريقا مفتوحا للهيمنة العسكرية الامريكية الشاملة على كوكبنا بأسره. والمعروف (توازن الردع النووى) أو (القدرة على الردع النووى المتبادل) ظل مبدأ حاكما للعلاقات بين القوتين الأعظم السوفييتية والأمريكية على مدى عشرات السنين. وخلاصة هذا المبدأ ان كلا من القوتين الأعظم كانت قادرة حتى فى حالة بدء القوة الأخرى بالهجوم النووى على توجيه ضربة انتقامية مدمرة للقوة البادئة بالعدوان. وبالتالى فإن توجيه الضربة النووية الأولى لم يكن من شأنه انقاذ موجهها من الفناء. وارتكزت معاهدتا (ستارت 1) و(ستارت 2) على هذا المبدأ وعلى وجود أسلحة نووية لدى القطبين المتناحرين وقتها قادرة على تدمير العالم بأسره عدة مرات. ثم كان تطوير الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية فى جوهره محاولة من كلا الدولتين الأعظم للانقلاب على هذا المبدأ, بحيث يصبح فى إمكانها ولو نظريا توجيه ضربة نووية للدولة الأخرى, أو لأحد حلفائها, مع الافلات من الأثار المدمرة للضربة الانتقامية . ولكن سرعان ما اتضح أن تطوير منظومات الصواريخ المضادة باهظ التكلفة من ناحية, وغير كاف لتوفير حماية كافية من ناحية ثانية, فضلا عما يمثله من اغراء بالعدوان للطرف المالك لمنظومة أكثر تطورا. وهكذا توصل الطرفان الى ضرورة إبرام اتفاقية الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ عام 1972. ومع الضعف الذى اعترى الاتحاد السوفييتى فى الثمانينيات بدأت الولايات المتحدة تحاول التخلص من الاتفاقية من خلال (مبادرة الدفاع الاستراتيجى), والتى كلفت المراحل الأولى منها نحو 35 مليار دولار.. ثم أدى انهيار الاتحاد السوفييتي, والتوصل إلى (ستارت 2) إلى قدر من الاسترخاء على الجانب الأمريكى, ارتبط, بلا شك بآمال عريضة فى أن روسيا تحت حكم يلتسين سرعان ماستنهار قدرتها الدفاعية, لأسباب سياسية واقتصادية معروفة ولا داعى للخوض فيها هنا. الا ان موقف كل من المؤسسة العسكرية الروسية والمعارضة البرلمانية فى (الدوما) أوضح أن الأمر ليس بهذه البساطة. فقد أثار توسع حلف (الناتو) باتجاه الشرق, وتفاقم العدوانية الامريكية والنزعة الى الهيمنة, مخاوف عميقة لدى روسيا, مما عطل التصديق على (ستارت 2) حتى شهور قليلة مضت. ومن ناحية أخرى فإن الصين برهنت بوضوح على أن نزعاتها البراجماتية وتركيزها على بناء اقتصادها, لا يعنيان تخليها عن بناء قوة عسكرية متطورة, وزادت القدرات الاقتصادية والعلمية المتنامية لبكين من امكانيات تحديث وتطوير هذه القوة العسكرية. كما اتضح ان كلا من بكين وموسكو تتجهان لمزيد من التقارب, مطالبتين بنظام عالمى متعدد الأقطاب, ورافضتين لاستمرار الهيمنة الأمريكية على العالم. ومن ناحية ثالثة فإن انهيار الاتحاد السوفييتى وزوال (الخطر الأحمر) فتح الباب لبروز التناقضات بين الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين, وخاصة لاحتدام التنافس الاقتصادى بين أمريكا والاتحاد الأوروبى واليابان, وإذا كانت السيطرة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة حقيقة واقعة, فإن احتدام المنافسة الاقتصادية من شأنه أن يفتح الباب لبروز مزيد من التناقضات. وفى ظل هذه الأوضاع العالمية, بدت الفرصة مواتية للولايات المتحدة للقيام (بانقلاب استراتيجى) يكرس هيمنتها العسكرية على العالم, ويطيل أمدها, ويطلق يدها فى العلاقات الدولية دون خوف من تحد عسكرى جدى من جانب أية دولة منافسة. القوة المطلقة وفى هذا الاطار بالذات ينبغى النظر الى توجه الولايات المتحدة لبعث (مبادرة الدفاع الاستراتيجى) فى ظروف دولية جديدة, تحت اسم (النظام الدفاعى المضاد للصواريخ), وتحت ذريعة مواجهة الأخطار القادمة من جانب (الدول المارقة)!! أما فى حقيقة الأمر فإن صناع القرار الاستراتيجى الأمريكى, وجدوا أمامهم فرصة تاريخية سانحة لقلب التوازن الاستراتيجى العالمى لصالح بلادهم, بصورة يصعب تحديها أو مواجهتها من جانب أية دولة فى المدى المنظور. فتطوير نظام صاروخى مضاد للصواريخ الباليستية يعنى فى حقيقة الأمر تحييد القوة النووية الروسية والصينية.. أكبر قوتين يمكن أن تقفا فى وجه الهيمنة الأمريكية فى المدى المنظور. ومحاولة أى من الدولتين تطوير نظام مماثل تحيط بها شكوك عميقة. فهى تعنى استنزافا هائلا للموارد فى سباق منهك للتسلح لا يمكن أن تقدر عليه روسيا فى ظل أزمتها الاقتصادية الطاحنة, ولا الصين التى لا يزال اقتصادها أضعف من أن يقدر على مواجهة مثل هذا العبء الباهظ. ومن شأن نجاح هذا التوجه الاستراتيجى الأمريكى أيضا خلق وضع يضمن للولايات المتحدة استعادة أوروبا إلى حظيرة السيطرة العسكرية الأمريكية, بصورة تشبه من بعض الجوانب ما كان قائما أثناء الحرب الباردة.. إذ تصبح أوروبا مكشوفة أمام الصواريخ الروسية, أو محتاجة إلى المظلة الصاروخية الأمريكية, الأمر الذي يعني إعادة صياغة العلاقات لصالح واشنطن, بما فيها علاقات المنافسة الاقتصادية. أما إذا اختارت أوروبا الطريق البديل.. أي تطوير مظلتها الصاروخية الخاصة فسيكون معنى ذلك استنزاف موارد هائلة في سباق التسلح, يضعف قدرتها على منافسة أمريكا اقتصاديا. علما بأن هذا الطريق البديل تعترضه صعوبات جدية للغاية, سواء بسبب غياب الإرادة السياسية الموحدة, أو غياب التشكيلات العسكرية الاستراتيجية خارج نطاق "الناتو" حيث السيطرة الأمريكية, أو بسبب ضعف الإمكانات العلمية والتكنولوجية مقارنة بما تملكه واشنطن. ولهذا نجد أهم الدول الأوروبية الغربية, بما فيها بريطانيا حليفة أمريكا الأقرب, ترفض انتهاك الولايات المتحدة لمعاهدة الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ (إيه. بي. إم) وتحذر من مخاطر اشتعال جولة جديدة من سباق التسلح. إصرار رغم الفشل ورغم فشل التجربة الأمريكية الأخيرة لاعتراض صاروخ باليستي مهاجم (وهي ثاني تجربة فاشلة, بعد تجربة وحيدة ناجحة) فإن ثمة شواهد تشير إلى رغبة الولايات المتحدة في مواصلة برنامج الدفاع الصاروخي. ولم يتم الإعلان عن وقف برنامج التجارب الذي يتضمن 16 تجربة حتى عام 2005 بينما أكد وزير الدفاع الأمريكي في زيارته للصين منذ أيام إصرار بلاده على مواصلة البرنامج, رغم تهديدات الصين بالتخلي عن التزاماتها بشأن حظر الانتشار النووي والكيماوي والصاروخي, واستئناف تجاربها النووية في حالة إصرار واشنطن على مواصلة البرنامج. ومعروف أن الصين وروسيا هما أشد المتضررين من البرنامج الأمريكي, وبالتالي فهما أشد الأطراف الدولية معارضة له. والمتوقع أن تسفر زيارة الرئيس الروسي بوتين للصين, قبيل قمة الثمانية في أوركيناوا, عن مزيد من التنسيق بين موسكو وبكين في هذا الصدد. وجدير بالذكر أن الميزانية العسكرية الأمريكية التي أقرها الكونجرس منذ أيام تفتح الباب لإمكانية الاستمرار في برنامج الدفاع الصاروخي. وتبلغ قيمتها (310 مليارات دولار) أي أكبر من أية ميزانية عسكرية أيام الحرب الباردة, وبزيادة (21 مليار دولار) عن ميزانية عام 1999 ـ 2000 وأكثر بـ(5.4مليار دولار) عما طلبته الإدارة الأمريكية نفسها. وصحيح أن الكونجرس لم يقر برنامج الدفاع الصاروخي بعد. لكن زيادة الميزانية العسكرية يمكن أن تكون خطوة مهمة في هذا الصدد. وهنا نجيء إلى الدوافع السياسية التي تجعل صناع القرار الأمريكيين يميلون إلى المضي قدما في البرنامج, فالمعلقون يشيرون إلى رغبة الرئيس كلينتون في (دخول التاريخ).. من خلال الظهور بمظهر المتشدد في تعزيز قوة أمريكا, كما كان الرئيس الأسبق رونالد ريجان (صاحب برنامج حرب النجوم). كما أن الانتخابات الرئاسية المقبلة تجعل الديمقراطيين أميل إلى التشدد لتحسين فرصة مرشحهم آل جور, نائب كلينتون والمزايدة على الجمهوريين المعروفين بأنهم يتخذون عادة مواقف متشددة في القضايا الدفاعية وانتخابات التجديد النصفي المقبلة للكونجرس يمكن أن تمثل دافعا إضافيا في هذا الصدد. وينبغي أن نضع في اعتبارنا هنا دافعا مهما يتمثل فيما يمكن أن يضيفه تنفيذ هذا البرنامج من طلبيات عسكرية وفرص عمل جديدة في المجالات المرتبطة به, مما يعزز الفرص الانتخابية للديمقراطيين إذا ما اتخذوا القرار بصورة نهائية لصالح تطبيق البرنامج. وفي هذا السياق يتوقع بعض المراقبين أن يتخذ كلينتون قراره النهائي ببدء تطبيق البرنامج رسميا في الخريف.. لكى يحصد الديمقراطيون ثماره في صناديق الاقتراع. وإذن فالدوافع الأمريكية لتنفيذ برنامج الدفاع الصاروخي قوية ومتعددة.. منها ما هو استراتيجي, وما هو سياسي واقتصادي, وما هو دولي أو داخلي, لكن من الضروري الإشارة إلى أن هناك معارضة داخلية أمريكية لها وزنها لهذا البرنامج, علاوة على المعارضة الدولية. فقد وجه خمسون عالما من الحاصلين على جائزة نوبل رسالة إلى البيت الأبيض من خلال اتحاد العلماء الأمريكيين نبهوا فيها إلى أن تنفيذ البرنامج سيؤدي إلى إطلاق موجة جديدة من سباق التسلح العالمي. كما أنه لن يوفر الأمن للولايات المتحدة لأن اختراقه سيكون ممكنا دائما من خلال تطوير الصواريخ المهاجمة. والواقع أن روسيا قد بعثت بإشارة مهمة في هذا الصدد من خلال نصب صواريخ استراتيجية جديدة (توبول ـ إم) قادرة على تفادي أكثر أجهزة الرادارات تطورا, والإفلات من متابعة الأقمار الصناعية. كما أعلن الروس أن هذه الصواريخ يمكن تزويدها برؤوس نووية متعددة. وإذا فإن البرنامج الأمريكى الجديد المضاد للصواريخ يهدد جديا بإطلاق جولة جديدة من سباق التسلح تستنزف موارد البشرية, وتعيد إلى الذاكرة مناخ الحرب الباردة. لكن من الواضح أن هذا لا يؤرق كثيرا الحالمين بفرض الهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم, والمتعطشين الى تدفق مليارات الدولارات فى عروق صناعة الدمار الأكثر تطورا فى التاريخ تحت دعوى امتلاك درع ضد أسلحة الدمار.. والواقع أنهم يشحذون سيفا يحاولون أن يسلطوه على عنق البشرية. بقلم : د.محمد فراج أبو النور كاتب مصرى

Email