من الملف السياسي :الانتقال من الشرعية الثورية الى الدستورية رغبة جماهيرية في تصحيح مسار الثورة الايرانية بقلم: هاني عياد

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد عشرين عاما من انتصار الثورة الاسلامية بقيادة الزعيم الايراني آية الله الخميني، يعود الايرانيون لتأكيد رغبتهم في التخلص من الاطار المحيط بهم بالتفويض الشعبي الكاسح الذي منحوه للتيار الاصلاحي في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد مؤخرا، وليؤكدوا ان اختيارهم للرئيس محمد خاتمي على حساب الرئيس السابق محمد هاشمي رافسنجاني لم يكن تعبيرا عن نزوة طارئة او مجرد رغبة في تغيير الوجوه، وانما جاء تجسيدا حقيقيا وواعيا للتخلص من التيار المحافظ والانطلاق نحو مزيد من الديمقراطية، فهل يؤشر هذا التحول الى انتقال ايران من مرحلة الشرعية الثورية الى مرحلة الشرعية الدستورية؟ ايا كان الامر فلقد انقضت مرحلة حكم المحافظين بعدما اكملت مهامها، وبعدما ذهبت نشوة الاطاحة بالشاه، وبعدما افتقدت الساحة السياسية (والدينية) شخصية تتمتع الثقل السياسي (والديني) والجماهيري ذاته الذي تميزت به شخصية آية الله الخميني، فضلا عن »الكاريزما« الخاصة في شخصيته. لقد استطاعت ايران خلال السنوات العشرين الماضية، وفي ظل حكم المحافظين، ان تتحول من كونها قاعدة متقدمة للولايات المتحدة الامريكية في الشرق الاوسط، الى دولة لها استقلالها الكامل وذات فعل مؤثر في السياسات الاقليمية والدولية، ولعلنا نشير هنا، على وجه الخصوص، الى مواقف الثورة الايرانية من اسرائيل والقضية الفلسطينية وهي مواقف كفيلة بتفسير وتبرير العداء الامريكي الصارخ لايران في مرحلة ما بعد الشاه. اجمالا يمكن القول ان المثلث الذي كانت تتكئ عليه واشنطن والممتد من تل أبيب وطهران وأنقرة قد اصابه عطب بالغ بعد الاطاحة بالشاه. لكن مأزق الموقف الايجابي من القضية الفلسطينية، انه انحشر في دائرة معينة مفتقدا الابعاد الاخرى سواء القومية منها او الانسانية، ذلك ان القضية الفلسطينية هي، بكل المعاني، قضية تحرر وطني وحق شعب اغتصبت ارضه في اقامة دولته المستقلة، الى جانب بعدها الديني، لكن اقتصار الرؤية الايرانية على هذا البعد الاخير، كان وراء ما بدا وكأنه تناقض غريب في المواقف الايرانية ما بين الموقف من القضية الفلسطينية، وما بين قضية الجزر الاماراتية الثلاث، على سبيل المثال. ولم يكن مأزق السياسة الخارجية ــ في واقع الامر ــ سوى انعكاس لمأزق داخلي. وربما كانت الانعكاسات على اوضاع المجتمع، وخاصة فيما يتعلق بتأثيراته على قضية التنمية، هي العامل الأهم فيما بدا وكأنه تفرد للتجربة الايرانية في مسألة »الديمقراطية« وبما اتاح للاصلاحيين الوصول الى سدة الحكم عبر صندوق الاقتراع، وفي ظل حكم التيار المحافظ، ذلك ان اغلاق منافذ التداول السلمي للسلطة ربما كان يهدد بتفجيرات قريبة لا يتحملها المجتمع ولا الدولة. ومن البدهي ان ان التداول السلمي للسلطة، وان كان احد مظاهر الديمقراطية الا انه ليس هو الديمقراطية، او بعضها. من هنا يمكن القول ان الانتخابات البرلمانية الاخيرة، بعد الانتخابات الرئاسية، قد عكست بشكل اساسي تطلعات ورغبات الشباب والنساء نحو مزيد من الحريات الاجتماعية والسياسية، فضلا عن شوق مشروع للديمقراطية. في تفسير ما أسفرت عنه صناديق الاقتراع في المرتين ــ الرئاسية ثم البرلمانية ــ ذهب بعض المراقبين إلى الاعراب عن اعتقادهم بأن هذه النتائج انما تعكس رغبة جماهيرية في »تصحيح« مسار الثورة، وخاصة على صعيد كسر طوق العزلة الذي »نجح« التيار المحافظ في فرضه على ايران من خلال سياسته المتشددة ضد الغرب عموما والولايات المتحدة الامريكية على وجه الخصوص. وظني ان حصر المسألة في هذه الزاوية، او حتى ابرازها والتركيز عليها باعتبارها لب الموضوع وجوهره، يفتقد الى الكثير من الموضوعية ووضوح الرؤية، فضلا عن انه ــ على الاغلب ـــ نتاج لنظرة دونية ازاء الولايات المتحدة باعتبارها لم تعد القوة العظمى الوحيدة، فحسب، وانما اصبحت، ايضا، مركز دوران الكون ومحور حركة الشعوب وتطلعاتها، ذلك ان هذا التفسير يتجاهل تماما حقيقة ان القضايا والاحتياجات الداخلية، هي المحرك الاساسي في توجهات الشعوب، وان القضايا الخارجية تأتي في مرتبة متأخرة ــ نسبيا ــ من اهتمامات الجماهير، فضلا عن أنها لا تعنى كثيرا اغلبية الجماهيرية الشعبية. وفي المثال الايراني الملموس الذي نحن بصدده جدير بنا ان نلاحظ ان »طوق العزلة« قد سقط فعليا أو كاد منذ وصول الرئيس خاتمي الى سدة الحكم، بعدما خطت دول اوروبا خطوات واسعة في طريق تحدي الحصار الامريكي، واعادت علاقاتها الاقتصادية مع ايران، فاذا ما اضفنا الى ذلك ان الصين وروسيا وبلدان جنوب شرق اسيا لم تكن معنية منذ البداية بمسألة حصار ايران، لتبين لنا ان المقصود من الانفتاح على العالم لا يعدو ان يكون سوى انفتاح على امريكا تحديدا، وهو ما ندعي انه لا يشغل كثيرا بال الناخب الايراني، او على الاقل لا يتحكم بدرجة مؤثرة في تحديد اختياراته وأولوياته عبر صندوق الاقتراع. ورغم ان التصحيح الحقيقي لمسار الثورة يبدأ من التوجهات والسياسات الداخلية، فان علينا ان نلاحظ بدقة ما يمكن ان يكون قائما من تمايزات وفوارق بين حقيقة وجوهر التطلعات والرغبات الجماهيرية وبين النهج الذي يمكن ان تختطه النخب الحاكمة، والتي ربما تستغل ما حصلت عليه من تأييد شعبي جارف لتقفز فوق القضايا والمهام الداخلية، الى ما هو خارجي! فالناخب الايراني معني أولا وأساسا بأوضاعه الحياتية، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، قبل ان يكون معنيا بنيل الرضى الامريكي!، ولعل تجاهل هذه الحقيقة كفيل بزيادة المأزق الايراني تفاقما واحتداما. ان نظام الحكم »الجديد« في ايران مطالب بالاصلاح والتغيير، والاجابة عن كل التساؤلات والاشكاليات المطروحة على هذا الصعيد، ثم فض الاشتباك الحاصل في سياسات ايران العربية بدءاً بتجذير وتعميق الموقف الايجابي من القضية الفلسطينية، وبما لا يتجاهل أبعادها القومية والانسانية، ومن ثم يضمن تصحيح مسار العلاقات الايرانية الخليجية والايرانية المصرية بشكل خاص.

Email