إضاءة مصرية، القاهرة مدينة مفتوحة، بقلم: محمود المراغي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يستطيع نظام في مصر أن يتجاهل أحوال العاصمة.. تلك التي تتضارب حولها الأرقام.. هل هي قاهرة الخمسة عشر مليونا, كما يردد البعض؟ أم هي قاهرة الأحد عشر مليونا ونصف المليون كما تتحدث الأجهزة الاحصائية عما أسمته القاهرة الكبرى؟ أم هي قاهرة السبعة ملايين وفقا للحدود الجغرافية والإدارية لمحافظة القاهرة ؟ والأرقام كلها قد تكون صحيحة, الرقم الأخير يلتزم بالحدود الإدارية لشرق النيل.. والرقم الأكبر (11.5 مليونا) يضم ما دخل عملياً في القاهرة من محافظتين جارتين هما: الجيزة والقليوبية.. أما الرقم الثالث (15 مليونا) فقد يكون قاهرة الضوء والنهار.. ففي كل صباح يأتيها الملايين من خارجها ليقضوا مصالحهم ثم يعودوا في المساء. هي مدينة ضخمة على أي حال, وهي غير المدينة التي أنشأها عمرو بن العاص أو العباسيون أو الطولونيون أو المعز لدين الله الفاطمي.. أيضا هي شيء آخر غير قاهرة قرن مضى حين كان تعداد السكان (680) ألف نسمة فقط. ولكن.. لماذا أروي كل ذلك؟ والسبب بسيط وهو أن هناك خبراً يقول إن محافظة القاهرة, وبعد أن فاض بها الكيل فنزلت تحت الأرض بالأنفاق, وصعدت للسماء بطرق وكباري علوية.. بعد أن حدث ذلك تدرس مسألة المواصلات الهوائية وهي (المونوريل) الذي تعرفه دول مثل اليابان والولايات المتحدة ويقول الخبراء عنه إنه الأرخص تكلفة فلا تلزمه معدات حفر ولا مساحة أرض, أيضا فهو الأقل تلويثاً للجو لأنه يعمل بالكهرباء. المونوريل, أي القطار الطائر هو أحدث طبعة من اجتهادات القاهرة لتواجه حركة النقل اليومية لهذه الملايين! قبلها, كانت القاهرة قد تحولت إلى خمسة طوابق.. الطابق الذي خلقه الله وهو الطابق الأرضي.. وطابقان في بعض المواقع حين تتلاقى خطوط مترو الأنفاق فيركب أحدهما فوق الأخر كما يحدث في باريس.. ثم طابقان فوق الأرض حين تتلاقى الكباري فيتسلق بعضها موقعا أعلى ليسمح للآخر بالمرور من تحته! قبلها أيضا, كانت القاهرة تتضخم وتتسع أفقياً بشكل غير مسبوق, حتى انها قد ولدت في العشرين عاما الأخيرة سبع مدن صغيرة على تخومها الشرقية والغربية. فالصحراء واسعة والامتداد جائز! كل ذلك مما يجعل القاهرة حالة فريدة بين المدن العربية, بل إنها قد باتت واحدة من المدن العملاقة التي تحتاج إدارتها لإدارة من نوع خاص فتعدادها يزيد على تعداد بعض الدول. كيف يعيش أهل القاهرة؟ أين يعملون؟ كيف يتنقلون بحيث لا تكون هناك المشقة وملايين الساعات الضائعة كل يوم؟ وأين يسكنون وقد بات المسكن مشكلة في كل مكان؟ وربما كانت هذه الأسئلة وراء قرار أخير اتخذته الحكومة المصرية وهو اعتبار أسبوع العمل للموظف الحكومي خمسة أيام.. وبالفعل, وخلال يومي العطلة (الخميس والجمعة) بات الانتقال أكثر يسرا.. والأسواق أكثر انتعاشا.. وإن ظهرت مشكلة جديدة هي أين تقضي هذه الملايين أوقات فراغها. وبصرف النظر عن مسألة (العمل ـ العطلة) فإن الأهم الذي يشغل البال, ما هو مستقبل القاهرة؟ هل تظل ظاهرة التكاثر والنمو مستمرة؟ في سابقة هي الأولى من نوعها اتجه التخطيط العمراني في أول الثمانينيات لإنشاء عشر مدن جديدة في أنحاء مصر, وحينذاك تحدد الهدف السكاني بنصف مليون نسمة فقط لكل مدينة, وقال وزير التعمير حينذاك مهندس حسب الله الكفراوي: هذا هو الحجم الأمثل لتكون المدينة أكثر جمالا وقدرة على تلبية حاجات سكانها. حدث ذلك في بداية الثمانينيات وقيل إن نصف المليون هو الحجم الأمثل, فما بال القاهرة الآن وقد بلغت أكثر من عشرين ضعفا لهذا الرقم والحكومات تجري وراء المشكلة فكلما زاد العدد.. كلما أنشأت طرقا ومساكن ومرافق أكثر حتى ان الطرق والكباري والأنفاق قد تكلفت 15 مليار جنيه (حوالي 4.5 مليارات دولار) في أقل من خمسة عشر عاما! المشاكل تتزايد والإدارة تجري وراءها, والمنطق يقول: لكن تغيير موقع الجري, واستباق المشاكل وليس انتظارها هو الحل. منذ عقدين أو ثلاثة نادى البعض بعاصمة جديدة, ربما تكون في مدينة المنيا وسط الصعيد.. وقبيل ذلك نادى رئيس أسبق للوزراء بالقاهرة (مدينة مغلقة) مع العمل على ترحيل من لا عمل له ليعود إلى قريته.. لكن شيئا من ذلك لم يحدث! والسؤال الذي يضعه رجال التخطيط العمراني: هل يخضع تخطيط القاهرة, أو القاهرة الكبرى للضغوط السياسية؟ وهل تتضخم (المدينة ـ الدولة) لأن الحكومات على تعاقبها عاجزة عن مواجهة الجماهير واتخاذ قرار يغضبهم؟ أذكر أن المهندس حسب الله الكفراوي والذي قضى أكبر فترة وزارية في الإسكان والتعمير كان قد قرر نقل وزارته والتي تقود العمران إلى مدينة السادات بشمال مصر, ولكنه عجز عن أن يفعل فقد جاءت المقاومة من داخل وزارته.. وما زالت مباني الوزارة في (السادات) خالية منذ نحو خمسة عشر عاما! العمران إذن تحكمه السياسة كما يحكمه تطور المجتمع, ولكن وكلما زادت العاصمة حجما وكلما زاد عدد سكانها زادت اختناقاً وأصبحت إدارتها أصعب شأناً. و.. هكذا القاهرة الآن: جسد ضخم يحاولون ضخ الدماء الجديدة له.. يحاولون.. وينجحون أحيانا في تجميل وجهها, وشد عضلاتها.. يرصدون المليارات من أجل قاهرة أفضل, ولكن يبقى السؤال: (إلى أين؟) ويجيب البعض: (إلى المونوريل!) .

Email