مسلسل الانهيار والتفتت في اندونيسيا لم يبدأ فقط مع بداية أحداث التمرد والاضطرابات في اقليم اتشيه في مطلع العام الماضي 99, بل كانت بدايته الفعلية في أعقاب الأزمة المالية والاقتصادية في دول جنوب شرق آسيا وبداية الهجوم الشرس والحاد على نظام حكم سوهارتو واسقاطه في مايو 1998, وليس هذا دفاعا عن حكم سوهارتو بل على العكس فإن بقاءه كان من الممكن ان يزيد الأوضاع سوءًا ويسرع بتطور الأحداث أكثر بالشكل الذي كان سيؤدي بالقطع إلى مزيد من الاضطرابات والصراعات ووقوع ضحايا أكثر نتيجة المزيد من القمع الذي كان سيمارسه العسكريون المدعومون بقوة من نظام سوهارتو والذين أضعفهم وحد من قوتهم رحيل سوهارتو عن السلطة. النمور الآسيوية ولا يمكن تناول ما يحدث الآن في الأرخبيل الاندونيسي بمعزل عن الأوضاع العامة في اندونيسيا وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية باعتبارها أكبر دولة اسلامية من حيث تعداد السكان ودخولها كطرف مؤسس لحركة عدم الانحياز ودعمها وتأييدها لحركات التحرر والاستقلال في العالم كله, ونمو النزعات الوطنية هناك مرتبط بالمد الاسلامي الكبير في مئات الجزر الاندونيسية التي تسكنها أغلبية مسلمة تصل إلى 88% وتعيش معها أقليات من البوذيين والمسيحيين والهندوس والصينيين, ثم يأتي بعد ذلك النمو والتطور الاقتصادي الذي شهدته اندونيسيا في السبعينيات والثمانينيات والذي جعل منها واحدة من أقوى دول مجموعة النمور الآسيوية اقتصاديا, وهي المجموعة التي باتت في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات تشكل خطرا ومنافسة قوية للاقتصاد الغربي في الأسواق العالمية وخاصة في شرق آسيا الذي يشكل بالنسبة للغرب بعدا استراتيجيا هاما في المجالين الاقتصادي والسياسي. منظمة اسيان وقد برز دور اندونيسيا واضحا وقويا في المنطقة بعد تطلعها للقيادة داخل منظمة (اسيان) الاقليمية التي تأسست عام 1967 وتضم اندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند وسنغافورة وفيتنام وبروناي, وتمارس اندونيسيا ومعها جارتها الاسلامية الكبيرة ماليزيا دورا واضحا في قيادة هذه المنظمة الاقليمية التي لا يخلو نشاطها الاقتصادي الرئيسي من ممارسات سياسية لا يرضى عنها الغرب, وهذا ما بدا واضحا في لقاء قمة المنظمة في جاكرتا عام 1996 والذي دعي للمشاركة فيه ولاول مرة ثلاث دول هم روسيا والصين والهند كمشاركين فعليين لهم حقوق ابداء الرأي. وجدير بالذكر ان في هذا العام بالتحديد وقبل وقوع ازمة النمور الاسيوية كان حجم التبادل التجاري بين دول منظمة اسيان قد بلغ ما يقرب من ستمائة مليار دولار سنويا بينما بلغ حجم معاملاتها التجارية مع مختلف دول العالم ما يقرب من 1.3 تريليون دولار, وحازت هذه المجموعة لقب القوة الرابعة الاقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الاوروبي وابدت اليابان في هذه الآونة حماسا واضحا للتعاون مع دول هذه المجموعة, وهو الأمر الذي لم يلق اي علامات رضا او استحسان من الغرب الذي شعر بالخطر من التقارب بين دول القارة الاسيوية القوية اقتصاديا منها والقوية عسكريا ونوويا, الامر الذي يهدد بشكل كبير الهيمنة الغربية بقيادة واشنطن ويبشر بهيمنة اسيوية جديدة على الساحة الدولية, اضف الى ذلك عاملاً هاماً ورئيسياً وان كان غير مطروح بشكل علني وهو الكثافة السكانية الاسلامية في هذه المنطقة والتي يحسب لها في الغرب الف حساب في المستقبل في حالة نموها وتوسعها اقتصاديا وسياسيا في عمق القارة الاسيوية الكبيرة التي يسكنها وحدها اكثر من ثلثي مسلمي العالم. ولعل ابعاد هذا العامل الديني هي التي تلعب دورا كبيرا في الاحداث الجارية في الارخبيل الاندونيسي والصراعات الطائفية بين المسلمين والاقليات الدينية الموجودة هناك من مسيحيين وغيرهم. تيمور الشرقية وكانت البداية في اقليم تيمور الشرقية مع الاضطرابات الحادة التي اندلعت هناك في بداية العام الماضي والتي تطورت بعد ذلك في اعقاب الاتفاق الذي وقع في اوائل مايو من العام الماضي بين الحكومة الاندونيسية وحكومة البرتغال تحت رعاية الامم المتحدة, هذا الاتفاق الذي عكس بشكل واضح نوايا الغرب في اندونيسيا واستعانته بالمنظمة الدولية كأداة لخدمة مصالحه, فقد اعطى الاتفاق لشعب تيمور الشرقية الحق في تقرير المصير وجاء هذا الاتفاق ليعكس مدى استعداد الحكومة الاندونيسية للتنازل عن سيادتها على الاقليم والاقتناع بوجهة النظر الغربية التي تعتبر تيمور الشرقية اقليماً مستقلا عن اندونيسيا. لماذا البرتغال؟ وكان الغريب في الامر ان يتم الاتفاق الاول حول تيمور الشرقية مع البرتغال وهي الدولة التي استعمرت الاقليم ما يقرب من اربعمائة عام قبل استقلاله عنها ورجوعه الى الدولة الام اندونيسيا التي تضم المئات مثله من الجزر المحيطة ومنها اقليم تيمور الغربية الذي استقل عن هولندا وعاد للدولة الام عام 1945. ومن الطبيعي ان يؤيد سكان تيمور الشرقية الاستقلال عن اندونيسيا هروبا من الازمات الاقتصادية الطاحنة هناك وليس احساسا بالغربة داخلها, وخاصة انه ليس صحيحا على الاطلاق ان تيمور الشرقية تسكنها اغلبية مسيحية, بل على العكس وباعتراف الاسقف المسيحي (كارلوس فيليبي) في كنيسة (ديلي) عاصمة تيمور الشرقية حين قال ان الاقلية المسيحية هنا تخشى دعم الجنرالات العسكريين للاغلبية المسلمة في تيمور الشرقية. فكيف بعد هذا التصريح العلني يردد البعض مقولات بعض اجهزة الاعلام الغربية وادعاءاتها بأن تيمور الشرقية تسكنها أغلبية مسيحية, وكيف يمكن للرأي العام هناك ان يقبل قيادة شخص مثل البرتغالي المسيحي و(جوزيه جوسماو) ورفيقه (راموس هورتا) لما يسمى نضال تيمور الشرقية من اجل الاستقلال عن اندونيسيا. ان هذا في حد ذاته يعكس بشكل واضح خيوط المؤامرة الكبرى لتفتيت اندونيسيا الى مجموعات من الجزر والاقاليم تخضع لانظمة حكم مستوردة ثم تأتي بعد ذلك مرحلة طمس الهوية القومية والدينية للشعب الاندونيسي. واشنطن تهدد ولم تكد تهدأ الاحوال وتخمد نيران الاضطرابات قليلا في تيمور الشرقية حتى امتدت ألسنتها الى الاقاليم والجزر الاخرى لتشتعل في اقليم اتشيه وفي جزر الملوك وجزيرة بالي وفي جزر البهار في ايريان ورياو وشرق جاوة وغيرها, وتقترب الاضطرابات من العاصمة جاكرتا لتهدد بوقوع انقلاب عسكري ضد حكومة عبدالرحمن واحد التي بات موقفها ضعيفا امام الاضطرابات الطائفية فلم تجد ما تفعله سوى اتهام جنرالات الجيش بالانتماء للحكم السابق والتحريص على اثارة الفتن الطائفية وعرقلة الاصلاحات الاقتصادية التي تتبناها حكومة واحد بدعم واضح من الغرب وواشنطن, ويقف مندوب واشنطن في الامم المتحدة ريتشارد هولبروك ليحذر ويهدد علنا قادة الجيش من القيام بانقلاب ضد واحد ويقول بانهم موهومون ويعيشون في اوهام الماضي ويسعون لعزل اندونيسيا عن العالم وهو ما لا تقبله واشنطن باي حال من الاحوال. الدور الاسرائيلي وفي الوقت الذي يتهم فيه حكام الاقاليم والجزر من القادة العسكريين حكومة واحد بالسعي لتفتيت اندونيسيا الى اجزاء صغيرة وطمس هويتها القومية الاسلامية, تدافع حكومة واحد عن موقفها وتنفي ذلك تماما, هذا في الوقت الذي ركزت فيه وزيرة الخارجية الامريكية اولبرايت في لقائها مع قرينها الاندونيسي شهاب على (العلاقات بين اندونيسيا واسرائيل) والنزاع في الشرق الاوسط وربطت هذا في حديثها بدعم واشنطن لجاكرتا وزيادة المعونة الامريكية لفقراء اندونيسيا من 75 مليون الى 125 مليون دولار, وهو الامر الذي لايحتاج الى تعليق!! ان الاصلاحات الاقتصادية التي تنوى حكومة واحد القيام بها تثير الشكوك لدى الكثيرين داخل اندونيسيا وخارجها وخاصة بعد التشكيل الحكومي الجديد في جاكرتا والذي وضع القرار الاقتصادي في يد وزراء غير مسلحين حيث استلم وزارة المالية والاقتصاد والصناعة وزيرا بوذيا, ووزارتي الاصلاح الاداري والبيئة وزيران مسيحيان والشئون الاجتماعية وزيرا هندوسيا بينما جرت تغييرات في القيادات العسكرية وتم فصل منصبي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة ودخل غير المسلمين في القيادات العليا للجيش واعلن المسلحون صراحة عدم رضائهم عن الفريق البوذي الكاثوليكي البروتستانتى الذي يعمل مع (ميجاواتي سوكارنو) والذي يسعى بشكل واضح لتحجيم دور المسلمين في ادارة السلطة في اندونيسيا. كلمة اخيرة تبقى كلمة اخيرة وهي ان ما يحدث في اندونيسيا الآن هو البداية للتفتت الكبير الذي من المحتمل ان تشهده اكبر دولة اسلامية في شرق اسيا وان عبدالرحمن واحد الرجل الطيب بكل مايحمله من نوايا طيبة ومتفائلة لمستقبل اندونيسيا ليس من المتصور ان يتمكن الصمود كثيرا امام هذه الفتن الطائفة المدبرة والتي نعتقد ان هناك قوى خفية تعمل بنشاط على استمرارها وزيادة حدتها حتى تعطى مبررا قويا للتدخل الاجنبي هناك باعتباره اصبح الحل الامثل والمتوقع دائما لفرض الامر الواقع.