منذ عشرين يوما وأمام جمهرة من الملتقى الطلابي العالمي المنعقد في الخرطوم تقدم احد الشباب بالسؤال: دكتور حسن عبدالله الترابي هل يمكن ان تحكي لنا بصراحة قصة الخلاف بينك وبين الرئيس البشير.امسك الترابي بالميكرفون وظل يلقن من منصة (الواعظ) القصة الخلاف يا أخي الخلاف ظاهرة صحية .. من 1400 سنة والمسلمون في حالة جمود.. السني.. سني.. الشيعي.. شيعي, نحن نقدم نموذجا غير مسبوق في تاريخنا وتاريخ البشرية.. ان يصبح هناك رؤيتان ولو على قمة السلطة.. ان نختلف دون ان نتناحر.. او نتصارع ولا نجري وراء الصحافة.. وتعال وابحث عما هو بناء في هذا الخلاف.. ولا تنتظر ما ينتظره الصحفيون من مصائب. كان من الصعب تخيل ان هذا الشخص الذي يتحدث بهذا الرقي (الاثني) عن الاختلاف في وجهات النظر ومن تعدد الاجتهاد ووجود اكثر من رؤية ولو في قمة السلطة هو نفسه السياسي الميكافيللي المتآمر المنخرط في اكبر مبارزة يشهدها تاريخ السودان.. قصة الخلاف بين البشير والترابي لها اكثر من بداية ـ التوالى ـ الدستور مذكرة العشرة البيروستريكا السودانية لكن المهم هنا محطتان الاولى تتعلق بالولاة بالتعيين ام بالانتخاب وصلاحياتهم والثانية تتعلق بمحاولة استحداث منصب رئيس الوزراء. العالمون ببواطن الامور في شأن السودان يلمحون الى ان قصة (الولاة) لها اكثر من بعد.. اولها ان طرح الترابي كان يهدف الى تجريد رئيس الجمهورية من واحدة من اهم صلاحياته ومن وضع الولاء المباشر الذي كان يربط الاقاليم برئيس الجمهورية, البعد الثاني ان الترابي اراد عبر اعمال مبدأ انتخاب (الوالي) الاعتماد على تحالفات وعصبيات قبلية ارتأى انها تشكل الجسم الاكثر صلابة في الواقع السوداني. اما البعد الثالث.. فهو ان الترابي كان يضمن نفوذه وشعبيته وسط رموز هذه العصبيات وبالتالي كان يطرح انتخابها ليصنع طابورا خامسا له. اما فيما يتعلق بمنصب رئيس الوزراء فالبعض يرى انه كان ابعد من مجرد استحداث منصب وانما كان محاولة صنع ما يشبه الانقلاب في الحياة السياسية بقلب النظام السياسي من نظام رئاسي الى نظام برلماني يتحول فيه البشير فعليا لا اكثر ولا اقل من رئيس بروتوكولي. صابر نايل الباحث في البرنامج الاقليمي لحقوق الانسان والمتخصص في الشأن السوداني يرى ان الخلاف ابعد من نقطتي (الولاة) و(رئيس الوزراء) اذ يرى (نايل) ان الخلاف بدأ منذ اعلان (البيروستريكا) السودانية والمتمثلة في قانون التوالي والدستور (الذي اقر دولة تعددية ثقافية لا دولة دينية) واتفاقية الحكم الذاتي. وطبقا لما يعتقده (نايل) فان (الترابي) اختار على سبيل المناورة ادعاء الانحياز الى المجتمع المدني والهامش الديمقراطي المحدود بما يضعه في مواجهة السلطة التنفيذية. الدكتور ابراهيم الامين عضو هيئة القيادة في حزب الامة السوداني يرى انه من الخطأ تحميل الامر اكثر مما يحتمل واستخدام ادبيات السياسة الغربية بادعاء وجود تيارات. ومن وجهة نظره ان الامر لا يتعدى صراعا بين شخصين من قمة السلطة على النفوذ كل منهما يريد ان يستأثر بأكبر حجم ممكن ولكل منهما دائرة انتفاع اضافة الى سجل تصفية حسابات لها عمر عشر سنوات وانه خطأ فادح ان يتم التصور ان هناك حركة اصلاح. فاروق ادم امين اعلام التجمع الديمقراطي الهيئة السياسية التي تضم حركة المعارضة السودانية بكل ألوان طيفها.. يؤيد كلام ابراهيم الامين ويرى ان الامر لا يتعدى انقلاب شخص البشير على شخص الترابي وانه ضد نظرية (التيارات) ويضرب مثالا على ذلك ان على عثمان طه الشخص الذي دبر انقلاب يونيو 1989 هو نفسه الذي دبر انقلاب البشير على الترابي اليوم وهو شخص معروف انه من صقور الجبهة الاسلامية وغلاة المدافعين عن شططها, كما يضرب مثلا اخر بمتابعة الاسماء التي حازت على موقف البشير بشكل سريع وغير متوقع ليؤكد ان البحث عن صراع تيارات عن ـ متشددين ومعتدلين او مضللا ويعاقبه ـ سيكون مضللاً. ازرق زكريا عضو الهيئة القيادية بالحزب القومي لا يستبعد حتى اللحظة ان يكون الأمر تقسيم ادوار لان هذا من وجهة نظره حدث عشرات المرات, لكنه حتى ولو كان ذلك مستبعدا فهو يراه طبيعيا لان الجبهة الاسلامية مبنية على اساس اقصاء الاخر وما حدث مجرد تطبيق لهذا المبدأ داخليا هذه من جهة فان هناك المؤسسة العسكرية والعسكريون يميلون الى تغليب دور الدولة القومية على ما عداها من اعتبارات. موسى يعقوب (كاتب سوداني) يرى ان ما حدث هو خلل في عقد الشراكة بين الاطراف الحاكمة على شاكلة ما حدث في العقد المايوى بين الحزب الشيوعي السوداني (كشريك مدني) والسلطة العسكرية ممثلة في جعفر نميري والتي انتهت العلاقة بينهما الى صدام دموي بعد عامين ونصف فقط حيث استبطأ الحزب الشيوعي دوران عجلة الحكم لمصلحته فعمل لتشريعها بآلية التآمر ويرى يعقوب ان هذا الامر تأخر في حالة حكم البشير الترابي عشر سنوات الا انه كان طبيعيا ان يحدث بعد ان نشطت السلطة السيادية والتنفيذية في الفترة الاخيرة سواء على صعيد الوفاق الوطني حيث كانت قرارات اطلاق سراح المسجونين السياسيين وارجاع الممتلكات ورفع حظر السفر عن المعارضين واتفاق جيبوتي او مجال العلاقات الخارجية مع مصر او زيارة البشير لاثيوبيا او اتفاق نيروبي الذي تم توقيعه بين الرئيسين عمر البشير ويورى موسيفيني. اننا بصدد جملة تفسيرات تتراوح ما بين ان القصة كلها استمرار لمسلسل تقسيم الادوار حتى بعد ان وصل الخلاف لما وصل اليه (وهؤلاء يستشهدون بحادث وضع الترابي نفسه يوما في السجن عند بداية الانقلاب ليدللوا على خطورة تكتيكات الجبهة). وتصل الى افتراض الطلاق بين الجبهة الاسلامية والانقاذ بين الاصولية والعسكر.. او الكاب والعمامة. إلا ان كل هذه التفسيرات تتفق على حد ادنى من الحقائق الموضوعية: 1 ـ ان الدكتور حسن الترابي يمثل وحده من زاوية اشادية الاصولية في السودان محليا واقليميا ودوليا. وعلى سبيل المثال وفي حديث ادلى به جون قرنق الرجل الاول في الحركة الشعبية التي تحمل السلاح ضد الخرطوم لزميلنا حمدي رزق في مجلة المصور هذا الاسبوع حين سأله عما يوجه اليه على صفحات الصحف العربية والاسلامية انه معاد للاسلام والمسلمين, رد قرنق بأن هذا غير صحيح.. لانه عدو لمسلم واحد في هذا العالم شخص اسمه حسن عبدالله الترابي. 2 ـ ان الدكتور حسن الترابي اصبح في حد ذاته سواء من زاوية اشادية او تاريخية او موضوعية عقبة ضد تطبيع علاقة السودان بالعالم بوضعه الحالي.. دول الجوار وقبلهما مصر وقبلهما دول الشمال المتنفذ.. ويبدو ان الدكتور الترابي يعرف اكثر من غيره هذا اذ نحت في كتاباته في السنوات الاخرية تعبير اسماه (التضحية بالسمعة) والتي يرى ان المجاهد يجب ان يتحلى بالقدرة على هذا النوع من التضحية. لكنه لم ينتبه ان علاقات الدول بل وبقاءها لا تقوم على مثل هذه الرومانسيات. 3 ـ ان البيروستريكا السودانية التي كان مهندسها الترابي ـ كان لابد ان تكون اولى خطواتها (مأسسة) الدولة ـ وهذا لا يعني في اولى درجاته سوى تقوية الجهاز التنفيذي في مواجهة (الحالة الثورجية) الاصولية. لكن كل هذا الطرح لا يجيب على السؤال ـ لماذا انتقل الخلاف الذي استمر لعدة اشهر فجأة من خانة (الخلاف) الى خانة الصدام. وما الذي سرع بعجلته الى ان انتهى الى قرارات الرئيس البشير بحل البرلمان واعلان حالة الطوارىء. عبدالعزيز احمد دفع الله مسئول الحوار السياسي بالتجمع الديمقراطي السوداني يرى ان البشير ادرك اثناء الخلاف انه يستحيل ان يكون هناك رأيان متعارضان في دفة توجيه الفعل السياسي, صحيح ان البشير حتى اللحظة لم يتراجع عن ثوابت الجبهة الاسلامية وان المشروع الحضاري والدولة الدينية يتربعان فوق الاجندة إلا انه من الزاوية اللوجستية او الادارية لا يصلح ان يكون هناك قبطانان للسفينة وخاصة في لحظات هبوب العواصف. هناك ايضا كما يرى دفع الله عامل آخر شجع البشير على التصعيد وهو وجود ثغرات للتفاعل الاقليمي وخاصة بعد المبادرة المصرية الليبية. غازي سليمان رئيس الجبهة القومية الديمقراطية (جاد) يرى ان السبب في التصعيد هو ان البشير ادرك بأنه لو لم يتخذ هذه القرارات فسيفقد كل سلطاته وقد تأكد له ان الخطر آت لا محالة حين رفض البرلمان تأجيل مناقشة التعديلات الدستورية مرة ثم رفض حتى الاجتماع به في المرة الثانية.. ولم تكن امامه سوى ساعات حتى يصبح 26 واليا ممثلين لكل ولايات السودان خارج دائرته تماما.. وبالتالي اصبح البشير في وضع لا يحسد عليه اما ان يطيح او يطاح به. فاروق ادم امين اعلام التجمع الديمقراطي المعارض يرى ان التنافس لانجاز الوفاق لعب دورا في تأجيج الصراع بين البشير والترابي ويعتقد ان اتفاق البشير المهدي في جزء منه يتجه لمحاولة سحب البساط بين الرجلين في الوقت الذي تسبب هو بدوره في اشعال المنافسة بينهما. اما الدكتور حسن وفي اول تعليق له عن تفسير التصعيد المفاجىء ضده فقد قال في تصريح له حملته وكالات الانباء في 18/12/1999: لم يكن هناك خلاف بيني وبين البشير على الوفاق او تحسين العلاقة مع دول الجوار لكن لا علم لي اذا كانت دوافع البعض الى ذلك هي بعض من حلقات احكام المؤامرة في الانقلاب على الدستور ـ لا صحة لما يقال ان للمعارضة يد في ذلك او ان هذا اكمالا لحلقات التقارب بين البشير والمعارضة, كذلك فقد ذكرت للاخوة الصحفيين الذين طرحوا علي سؤالا عن وجود تأثيرات خارجية على الحكومة لحملها على التصعيد انني اترك ذلك لتقديرهم.. ما الذي يريده العالم المستكبر بالقوة الجانح الى الهيمنة على السودان؟ وما الذي يكرهه في تجربة السودان كذلك ذكرت لهم اني اترك لتقديرهم ان يروا كيف تتداعى ردود الافعال الخارجية حول ما حدث وتبديل المواقف لاول مرة منذ عشر سنوات. هذا فيما يتعلق بجذور ودوافع ووتيرة الصراع فماذا عن آفاقه واحتمالات تفاقمه؟ هناك حزمة من التوقعات عن مستقبل الصراع ـ لا يربطها رابط. هناك نظرية (تمام يا فندم) التي طرحها عدد من المتخصصين المصريين في الشأن السوداني والتي يرى قائلوها ان السلطة التنفيذية ومعها مؤسسات القوة ـ الجيش والبوليس ـ حين تأخذ بزمام الامور فإن الامور تختلف. ويضرب احد المتخصصين خالد محمد علي ـ مثالا على ذلك من الاحداث بحفل الافطار الذي دعا اليه الرئيس البشير البرلمان فحضره 300 عضو من مجموع 380 عضو تلقى منهم البشير شبه معاضدة لموقفه. كما يضربون امثلة اخرى على ذلك بأن اشد خلصاء الترابي اختفوا تقريبا من على الساحة وعلى رأسهم شخص مثل مصطفى عثمان وزير العلاقات الخارجية, فاروق آدم ـ امين اعلام التجمع الديمقراطي لا يرى المسألة بهذا الاختزال. فهو يقر مبدئيا بأن الصراعات في بلادنا تنتهي دائما لصالح العسكر. كما يقر ايضا ان المؤسسة العسكرية والمعارضة والشارع والاوضاع الاقليمية ضد الجبهة ممثلة في شخص الترابي. لكنه لا يقر بأن الترابي سيستسلم حتى آخر لحظة وانه سيقاوم من خلال الحزب بل وحتى لو استطاع تحريك موالين له وهم بالتأكيد موجودون داخل صفوف الجيش. زين صالح ـ مدير مركز الثقافات السودانية ـ يرى ان حسم الصراع لن يكون من داخله بأي حال. البشير سلطة بلا حزب ـ واحزاب ـ الامة والاتحادي وباقي المعارضة احزاب بلا سلطة. والقفزة التاريخية التي يمكن ان تحدث وربما بوساطة مصر هي فتح الطريق امام التعددية وعودة الديمقراطية التسليم بهذا السيناريو وحده هو الكفيل بتصفية ميراث الجبهة وحسم الصراع. حسن احمد الحسن ـ مسئول حزب الامة بالقاهرة ـ لا يرى ان الامر سهلا ويعتقد ان احتمالات الصدام واردة وقد يلجأ الترابي لحزبه او رجاله هنا او هناك وقد تتخذ السلطة التنفيذية اجراءات اكثر عنفا ـ ليس بالضرورة ان يكون بينها اعتقال الترابي لان هناك ما يمكن ان يحجمه بغض النظر عن الاعتقال. السفير احمد عبدالحليم سفير السودان بالقاهرة يرى انه ليس هناك خشية من توابع القرار اللهم إلا اذا كانت هناك جهات امنية ترى امكانية اللعب على هذا الخلاف في الداخل وتحاول التدخل وتصعيد المخططات التآمرية ضد السودان. اما في بؤرة الحدث.. فالملاحظ الدقة البالغة التي يتم بها ادارة الصراع والتي تشبه خطواتها خطوات نقل بيادق على قطعة شطرنج للاعبين كلاهما يملك تاريخا من الاحتراف. في رد فعله الاول وفي مؤتمره الصحفي للرد على البيان الرئاسي نطق الدكتور حسن الترابي بمجموعة عبارات محددة. ما حدث انقلاب عسكري محض ـ المواجهة بالطعون القانونية واردة ولكن ليست مجدية وعلى القوى الشعبية ان ترد بأي نهج. لكن اجتماع الهيئة القيادية الذي تم في مساء اليوم نفسه والذي استمر سبع ساعات خرج ببيان اهدأ وأكثر عقلانية.. على الاقل لم ترد فيه كلمة بأي نهج. هناك لجنة الوساطة السباعية ولجنة الاربعة عشر وهي وساطة بدأت اصلا بتشكيك غازي صلاح الدين في جدواها ايضا. وقبلها ويقبلها الرئيس البشير لكنه يصرح قبلها وبعدها بأنه يقبل كل الوساطات بشرط ألا يتخلى عن القرارات. بعض المراقبين يعتقدون ان الوساطات ليست سوى لعبة من كل الطرفين لكسب الوقت واعادة ترتيب الاوراق. الرئيس البشير يكسب الوقت بأن يحكم يده اكثر فأكثر على السلطة التنفيذية يستقطب الفعاليات ويرتب تعضيدا اقليمياً لموقفه. والترابي يجمع انصاره ويغير تكتيكاته لكن هذا الافتراض يظل مجرد افتراض. يتبقى هنا موقف المعارضة السودانية مما يتم؟ هل تعتبره شأنا يخص اطراف السلطة التي تناهضها؟ ام هل تتفاعل معه بالتكتيك السياسي المعروف السير منفردين ـ والطرب معا: الارجح ان المعارضة تنتظر تطورا ثالثا كي تتحرك, الامة ويطالب بتسريع الوفاق درءا للحرب الاهلية والاتحادي يتكلم عن المؤتمر الدستوري وازرق زكريا (القومي) يطالب بالتخلص من المشروع الفكري (الجبهوي) وبدء (المحاسبة) وطرد الصقور (علي عثمان وصحبه) كي يكون في الكلام كلام. اما قرنق فيهز كتفيه ويتظاهر بأنه لا شيء حتى الآن. آخر الكلام.. وماذا عن حسن الترابي نفسه. الصادق عبدالماجد خصمه ومنافسه التاريخي بوصفه المرشد العام للاخوان المسلمين يراه عنيدا ولن يستسلم وغير متوقع رد الفعل اما الترابي.. فهو يردد عبارة واحدة الآن. (سأرشح نفسي لرئاسة الجمهورية) . خالد محمود