من الملف السياسي : حول تطور مفهومها في العلاقات الدولية ، السيادة الوطنية سبب رئيسي لمعظم الحروب والاعتداءات العسكرية ، بقلم: د. عبدالعزيز أبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكن القول بأن مفهوم السيادة الوطنية لم يكن معروفا في السياسة الدولية والعلاقات بين الدول قبل عام 1576 ميلادية, اي خلال الربع الاخير من القرن السادس عشر.ولم يكن مفهوم السيادة في البدء ذي صلة بالعلاقات بين الدول, بل بدأ في اطار العلاقة بين الدولة والكنيسة فكما هو معلوم كانت السلطة في القرون الوسطى مقسمة بين الدولة القروسطية والكنيسة على نحو مزدوج, فقد كانت مسائل الزواج والطلاق والمسائل الخاصة الاخرى تحت سلطة الكنيسة, اما مسائل السياسة والاقتصاد او التجارة فقد كانت تنظم من قبل الدولة, وان تكن ضمن القواعد العامة التي تضعها الكنيسة, فمثلا لم يكن مسموحا بممارسة النشاط التجاري في يوم الاحد, ولم يكن مقبولا احتساب سعر فائدة على القروض, وهذه جميعا انشطة كانت تنظمها الدولة لكن ضمن القواعد التي تحددها الكنيسة, وعندما ازدادت قوة ونفوذ حكام الدول واشتد ساعدهم رغبوا في تقليص نفوذ رجال الكنيسة الذين كانوا يوازون حكام الدول في السيطرة على عقول السكان وحياتهم, وربما فاقوهم. وقد كان من حسن حظ حكام الدول ان شخصا باسم (جين بودين) تصدى لايجاد مخرج لحكام الدول في مواجهة نفوذ الكنيسة وسيطرتها, وابرز المدعو بودين فكرة ما لبثت ان اصبحت مفهوما عالميا عاش حتى عصرنا الحاضر, بل انه بات احد اصعب المعوقات التي تواجه التعاون الدولي والوحدة السياسية والاقتصادية للدول. كان جين بودين هو اول من طرح مفهوم سيادة الدولة, وذلك انطلاقا من رغبته في تحديد سلطات الكنيسة, وقد عرف بودين مفهوم السيادة بأنه (القوة النافذة على المواطنين والرعاية التي لا يحدها قانون) مضيفا ان (اية مؤسسة يمكن ان تسمى دولة, ينبغي ان يكون فيها سيد معرفا ذلك السيد بالسلطة التي تسن القوانين وتقاضي المجرمين وتصدر الاحكام, ولقد كانت اهم نقطة ذات دلالة في العلاقة بين دول القرون الوسطى والكنيسة, ان السيادة لا يمكن ان تكون لأكثر من جهة في المكان الواحد, ذلك ان السيادة كل لا يتجزأ. ولم يتوان حكام الدول القروسطية عن التقاط هذه الفكرة وتبنيها لمواجهة نفوذ الكنيسة وللحد منه لصالح سلطاتهم هم, ولم تستطع الكنيسة التي كانت تتبنى مفهوم السلطة الروحية ان تكبح جماح اندفاع حكام الدول نحو تعزيز سلطاتهم الوضعية, فكان نتاج مثل هذا التطور ان تعزز مفهوم السيادة الوطني التي قال بها (بودين) وتطور مفهوم السيادة الوطنية فيما بعد يشمل العلاقات الخارجية للدول, وكان اول من طور مفهوم السيادة في العلاقات الخارجية قاض هولندي يسمى هوجو جروتيس الذي الف كتابا اسمه (في قانون الحرب والسلام) صدر في عام 1625 ميلادية, وقد عرف جروتيس هذا مفهوم السيادة الوطنية تعريفا يتصل بعلاقة الدول ببعضها البعض على خلاف التعريف السابق والذي كان مهتما بتوجيه الامور داخليا يعرف جروتيس مفهوم السيادة الوطنية بأنه (الدولة ذات السيادة لايمكن ان تخضع للسيطرة القانونية لدولة اخرى) . ولم يتطور مفهوم السيادة الوطنية كثيرا بعد ذلك الى ان قام قاض سويسري اسمه اميريش دي فاتيل بوضع تعريف جديد لمفهوم السيادة الوطنية في كتابه المعنون (قانون الامم) والذي صدر عام 1758 ميلادية, وقد عرف دي فاتيل مفهوم السيادة بان الدولة ذات السيادة غير مقيدة بأي قانون او بواسطة الدول الاخرى. ولم يتغير مفهوم السيادة الوطنية خلال القرن التاسع عشر لكنه اتضح اكثر من خلال تطبيق تعريف جوتفريد ليبفير للسيادة الخارجية حيث حددها بأن الدولة ذات السيادة هي الدولة التي تستطيع ان تحمي كيانها خلال الحرب او السلام بواسطة الدبلوماسية او من خلال الاستراتيجية وقد حكم هذا التعريف علاقات الدول بعضها ببعض فالدول التي لم تستطع تأمين سلامتها, باتت نهباً للمطامع وتحولت الى مستعمرة او اقتطع من اراضيها اجزاء تم ابتلاعها من قبل جيرانها ذلك ان كل دولة اعلنت انها ذات سيادة انما ترتب عليها اما حماية نفسها وتأمين سلامتها وحدودها او التعرض لمنافسة دول أخرى ذات سيادة فالسيادة الخارجية امر كان مطلوبا اثباته في غياب سلطة دولية عليا وغياب حكومة عالمية معترف بها وغياب قانون دولي يعتد به لقد كانت السيادة تعني القدرة فمن لم يكن قادرا لم يكن سعيداً. لكن مفهوم السيادة الوطنية فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية للدول تبدل كثيرا وبات مقبولا ان تكون دولة ذات سيادة لكنها تدخل في تحالفات لتأمين سلامتها الوطنية, وبات مفهوم السيادة الداخلية هو الاكثر فاعلية, لكن تطورين لاحقين غيرا من هذا المفهوم ايضا, وهذين التطورين هما قيام عصبة الامم وهيئة الامم المتحدة. ويمكن القول بان مفهوم السيادة الوطنية قد واجه تحديات حقيقية عندما برز مفهوم الامن الجماعي الداعي الى ضمان امن جميع الدول من خلال تأسيس هيئة تقوم مقام حكومة العالم وتضمن عدم اعتداء الدول الاعضاء على بعضها البعض فقد كانت السيادة الوطنية هي السبب الرئيسي وراء العديد من الحروب الاقليمية والاعتداءات العسكرية وتجاوز الحدود الوطنية للدول واقتطاع اراض من دول مجاورة فقد كان يكفي ان تدعى دولة ما ان تطورات سياسة معينة او تحركات عسكرية ما, تهدد امنها وسيادتها الوطنية, حتى تشتعل المنطقة المعنية بتوتر يؤدي في احيان كثيرة الى حرب اقليمية. لذا فان الداعين الى قيام مفهوم الأمن الجماعي انما ارادوا ان يؤمنوا سلامة الدول لكي يتراجع مفهوم السيادة الوطنية الى الوراء قليلا. ولقد كان هذا هو الدافع الاساسي لقيام عصبة الامم بين اعوام 1929 ـ 1936 ميلادية, ولكن عصبة الامم التي نشأت لكي تحمي سيادة الدول من خلال مفهوم الامن الجماعي واجهت الفشل جراء قيام اليابان بعدوان على الصين ضمت بعده منشوريا, ووقفت عصبة الامم عاجزة ازاء حماية السيادة الوطنية للصين فانهارت العصبة جراء ذلك. وبعد العصبة جاءت هيئة الامم المتحدة التي حاولت تجاوز دروس العصبة, واخفاقاتها وبالاخص ازاء مفهومي السيادة الوطنية والأمن الجماعي. واذا كانت الامم المتحدة قد حققت نجاحات يعتد بها في موضوع الامن الجماعي عبر تشكيل مجلس الامن, فان السيادة الوطنية ظلت عائقا جزئيا, امام تقدم الامم المتحدة, حيث بقيت هذه المسألة مهددا جوهريا لقدرة الامم المتحدة على التحول الى حكومة عالمية او شيئا من هذا القبيل. وفي ظل هيئة الامم المتحدة اصبحت مسألة السيادة الوطنية مفهوما نسبيا فعلى حين ان قرارات مجلس الامن ملزمة وفوق السيادة الوطنية فان قرارات الجمعية العامة غير ملزمة ولا تمس السيادة الوطنية للدول الاعضاء لكن الاتفاقيات التي تصدرها الجمعية العامة تصبح ملزمة وتخضع السيادة الوطنية لنصوصها عندما توقعها الدولة المعنية لذا نلاحظ تزايد الاهتمام بما يمس السيادة الوطنية عند التوقيع او عدم التوقيع على اتفاقيات الامم المتحدة, بالاخص فيما يتعلق بحقوق الانسان والحقوق بعامه. لكن ما بات يهدد فعليا سلامة السيادة الوطنية للدول سواء من داخل الامم المتحدة, او من خارجها انما هو سلوك الدول التي تقود النظام العالمي الجديد فهذا المفهوم غير المحدد بدقة, ونعني به النظام العالمي الجديد, بات لايقيم وزنا لمفهوم السيادة الوطنية وبالاخص عندما يتعلق الامر بمصالح الدول المهيمنة عليه وفي المقدمة منها, الولايات المتحدة الامريكية فقد تحولت هيئة الامم المتحدة ذاتها الى اداة للاساءة للسيادة الوطنية للدول, وكان ذلك واضحا في حالة العراق بعد عام 1990, وليبيا والاعتداءات الصارخة على لبنان من قبل الكيان الصهيوني وقبل ذلك في بنما وغيرينادا.

Email