من الملف السياسي: حكايات سياسية، وراء كل أغنية وطنية قصة كفاح، بقلم كمال الطويل

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تكن بداياتي مع ثورة يوليو عام 1952 مثل مسيرتي معها والتي انتجت اغنيات وطنية سجلت وواكبت اعظم المعارك في تاريخ مصر, وللبداية وللمسيرة حكايات وحكايات في دفتر الوطن الذي تعاطيت احداثه السياسية منذ كنت تلميذا في مدرسة الاورمان الابتدائية حيث مشاركتي مع طلاب كلية الفنون التطبيقية , وطلاب المدرسة السعيدية الثانوية في مظاهرات ضد الاحتلال الانجليزي, والملك وحاشيته الفاسدة, وحين قامت الثورة بقيادة زعيمها العظيم جمال عبدالناصر توسمت خيرا حتى فوجئت بقرار نقلي من الاذاعة حيث كنت مسؤولا عن موسيقى الاغاني فيها, وجاء قرار النقل الى وزارة التموين, وكان السبب في ذلك هو عدم (استلطاف) بعض المديرين في الاذاعة لي, فانا كنت شابا متحمسا احاول ان اخطو خطواتي بطريقة غير تقليدية وكان هذا يثير حفيظتهم ضدي, وعلى الرغم من توسط صلاح سالم احد ضباط الثورة لي في هذا الأمر عن طريق شقيقه وصديقي في الوقت نفسه (محيي) الا انني رفضت العودة وبدأت مشوار التلحين كمحترف وليس كموظف في الاذاعة كما كان من قبل. وعلى الرغم من هذه البداية غير الطيبة مع الثورة الا انني استطعت مبكرا الفصل بين ما يصنعه البعض من صغائر تسيء إلى الثورة, وبين أهدافها الوطنية العظيمة وقدرة وعظمة عبدالناصر في مواجهة التحديات الكبرى, ومن هذه الزاوية اقول ان كل ما قدمته من اغنيات وطنية مع عبدالحليم حافظ وام كلثوم وأشعار صلاح جاهين, لم تكن بدافع من احد, او بأوامر القتها علينا اجهزة الثورة.. كنا نبحث عن بعضنا البعض للحاق بركب الاحداث العظيمة, وآه من تلك الاحداث التي لم يقدر للاجيال اللاحقة ان تشاهدها وتتعامل معها عن قرب, وكل اغنية من الأغاني التي قمت بتلحينها تحمل وراءها قصة كفاح شعب, وتصميم جيل جاء في موعده مع القدر كما قال عبدالناصر, وجاءت اولى اغنياتي الوطنية مع العدوان الثلاثي عام 1956, وكانت نشيد (والله زمان يا سلاحي) .. كان العدوان يواصل غاراته, وانا بداخلي نار تغلي. وأسأل نفسي.. ماذا افعل؟.. حتى اتصلت بصلاح جاهين لاحدثه فيما انا فيه وضرورة ان نقدم عملا فنيا معبرا, ووصل حديثي مع جاهين درجة الاندماج والحماس واتذكر انني عبرت له عن (مزيكة) في دماغي, لم تكن واضحة المعالم, حتى طلب مني جاهين ان اغلق الهاتف, وبعد قليل عاود الاتصال بي, ليقول لي: اسمع يا كمال: (والله زمان يا سلاحي.. اشتقت لك في كفاحي) , اتصلت بأم كلثوم وقرأت لها الكلمات واستمعت الى اللحن, وانتقلت انا وجاهين الى منزلها في الزمالك, وكان في انتظارنا معها عازف الكمان احمد الحفناوي, وقائد فرقتها الموسيقية عبده صالح, وعازف الايقاع ابراهيم عفيفي, واذكر ونحن نقوم بتجهيز اللحن, وقعت غارة, وجلسنا جميعا على ضوء الشموع, وشاهدت ام كلثوم تتسلل الى البلكونة لتشاهد الغارة, فأسرعت وراءها لأقول لها (ما فيش داعي يا ست الكل لتصيبك شظية) فردت بتلقائية (شظية ايه يا كمال انا نفسي امسك؛ بصوابعي طيارة من طيارتهم, وافعصها بإيدي) .. ورغم نصيحة القيادة لنا بعدم تسجيل النشيد في الاذاعة, وتسجيله في استوديو مصر خوفا من الاعتداء على الاذاعة, رفضت ام كلثوم وقالت: (اموت في الاذاعة احسن ما يقولوا هربت) . كان هذا اللحن الذي اصبح سلاما وطنيا لمصر حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد, فاتحة الحان وطنية اخرى مع عبدالحليم حافظ مغني الثورة, والمعبر عن جيلنا بصوته في اغنية (مطالب شعب) .. اهتديت الى طريقة جديدة في اللحن... ابدأ بكلمة من عبدالناصر ثم موسيقى.. وكلمة ثانية فموسيقى.. وكلمة ثالثة منه ايضا فموسيقى.. ثم يدخل عبدالحليم بعد ذلك الى المسرح ليبدأ الغناء.. كانت التجربة مخاطرة, فربما لا يحب عبدالناصر ان يأتي بصوته في الغناء, ورغم ذلك قررت ان اخوض التجربة مهما كان الامر, والمعروف ان عبدالناصر ومعه اعضاء مجلس قيادة الثورة, والوزراء كانوا يحرصون على حضور احتفالات اعياد الثورة من كل عام, حيث الالحان الوطنية الجديدة لام كلثوم وعبدالحليم.. المهم انني قررت المخاطرة في تجربتي الجديدة, وجلست بين أعضاء الفرقة الموسيقية لاضبط جهاز الكاسيت الذي ستخرج منه كلمات عبدالناصر الثلاث كمدخل للحن.. كنت افعل ذلك وعيني على عبدالناصر الذي كان يجلس في الصف الاول وهدفي من ذلك مراقبة ردة فعله.. وبعد كلمته الاولى.. ابتسم, ثم زادت ابتسامته بعد كلمته الثانية: (ان هذا الجيل جاء في موعده مع القدر) .. وضحك بعد كلمته الثالثة: (النهاردة اقدر اقول لكم كل سنة وانتم طيبون) .. اطمأنيت على اللحن وعلى رد فعل عبدالناصر, ولما انتهى الحفل ونزلنا نسلم عليه, وبينما اضع يدي في يده بحرارة ابتسم ابتسامته السحرية وقال: (المطالب محتاجة جهودكم) . اما اغنية السد العالي, فتحمل قصة اخرى تعطى دلالة على التحدي ومواجهة الصعاب... حضر الشاعر أحمد شفيق كامل الى بيتي وكانت درجة حرارتي 39 درجة, ولا استطيع الحركة اي كنت في حالة اشبه بالغيبوبة, ورغم ذلك وبعد سماع الكلمات من احمد شفيق جاءت الحالة وعملت اللحن الذي شرح للناس ببساطة قصة بناء السد العالي.. وبعد نجاح الاغنية قال لي احمد شفيق كامل (لو ما كنتش مريض كنت عملت ايه) . كان صلاح جاهين مجنونا بحب عبدالناصر وبعد رحيله دخل في اكتئاب طويل ومات من الحزن عليه.. اتصل بي جاهين في يوم من الأيام ليقرأ لي كلمات اغنية صورة, (صورة.. صورة.. صورة.. تحت الراية المنصورة) .. لم يجد صلاح من صوتي حماسا للتلحين رغم عظمة الكلمات, وكنت وقتها قد علمت ببعض التجاوزات الامنية مما اثر على نفسيتي بعض الشيء... بعد مكالمة صلاح بساعة واحدة اتصل بي عبدالحليم ليسألني: (كلمك صلاح يا كمال) .. قلت له نعم, وبعد المكالمة ذهبت الى منزله القريب مني وكان موجودا عنده حسن عامر شقيق المشير عبدالحكيم عامر, وشمس بدران وكان مسؤولا عن الجيش, وكان عبدالحليم يناديه دائما بلقب (شيش) .. سألني عبدالحليم امام شمس وحسن عن كلمات (صورة) فقلت له: هي جميلة.. لكن فيها ملحنين غيري.. فسألني شمس بدران: (ليه يا كمال مش عايز تلحن الاغنية) .. فقلت له: انوي السفر انا وزوجتي.. فرد: يا اخي اجل السفر: فقلت له: (حتى لو اجلت السفر.. بصراحة انا ما فيش مزاج عندي) .. فضحك وقال: (مزاجك ايه واحنا نجيبه لك) .. فقلت: (انا نفسيتي سيئة ومفيش داعي للضغط علي) .. وبالصدفة كنت بعد هذا اللقاء على موعد للعشاء مع الكاتب الصحفي الكبير الراحل محمد التابعي.. وشرحت له ما حدث, فنصحني اما بالسفر فورا او تلحين الاغنية.. وعملا بالنصيحة توجهت الى ادارة الجوازات لعمل اجراءات السفر, وهناك فوجئت بقرار منع السفر.. توجهت الى عبدالقادر حاتم وزير الاعلام انذاك لأسأله, ثم وزير الداخلية, فأنكر الاثنان معرفتهما بالموضوع.. وقال لي التابعي: (المؤكد ان شمس بدران هو وراء قرار منعك من السفر) .. ورغم الضيق والاحساس بالاختناق اتصلت بعبدالحليم لأطلب منه كلمات الاغنية, فأعطاها لي عبدالحليم وهو يضحك.. وضعت اللحن, ونجح نجاحا هائلا, وعلمت بعد ذلك ان عبدالحليم نفسه كان هو السبب في قرار منعي من السفر.. اما شمس بدران فضحك وهو يقول لي: (امال يا كمال لو كان مزاجك رايق كنت عملت ايه) .. عبدالناصر لم يكن يعرف هذه القصة, او بعض القصص الاخرى التي تدل على التجاوزات... عبدالناصر كان مختلفا.. كان زعيما.. ملهما.. لم اقابله الا مرات قليلة ولحظات ليست طويلة.. ورغم ذلك كان بالنسبة لي انسانا من لحم ودم.. صاحبي.. اخويا.. قطعة مني وأنا قطعة منه. * من كبار الملحنين في مصر وارتبطت به مسيرة الغناء الوطني في الخمسينات والستينات.

Email