من الملف السياسي: حكايات سياسية، كانت الحياة الثقافية حارة والخطاب السياسي صارخ، بقلم: ايمن زيدان

ت + ت - الحجم الطبيعي

تذوق جيلنا طعم الخيبة والمرارة حين تكونت سنوات شبابه زمن النكسة... كنت في ذلك الوقت الذي لا احب تذكره اتلمس بداية رجولتي, وابحث لنفسي عن زاوية واضحة في مشهد الحياة... ارتب اوراق ايامي المقبلة حيث الحلم يقذفني من شاطىء الى مرسى... ومن موجة عاتية من الفرح الى زوايا الانكسار والحزن . كنت احمل في داخلي احلاماً ووشوشات عن الحياة والسياسة والحلم. سنوات الستينات من هذا القرن الصعب كانت حارة دافئة يهيمن عليها خطاب سياسي متفائل يستعير للعرب من الماضي الغابر اوهاماً حطمتها لحظة النكسة. في الخامس من حزيران كنا نتحلق حول مذياع بدائي في قريتنا الغافية على خارطة الوطن, نتابع وقائع اللحظة الفاصلة بشغف الاطفال وقلق الرجال وانتظار العجائز... نتابع زحفاً وهمياً وكلمات طنانة وانتصار كزبد البحر تلاشى في نهاية الايام الستة وتحول كابوساً فاضت فيه الشوارع بالحزن... واتشحت القلوب والمدن بالسواد... وامطرت العيون شلالات من القهر والأسى. فمنذ ولادتي عام 1956 ونحن لا نتوقع الهزيمة... ولا ندرك مرارة طعمها... ولا علقم اللحظات الدامية على قلوبنا. ضحايا النابالم الاسرائيلي مع إطلالة فجر كئيب صحوت من نومي على همهمات سرعان ما تحولت الى ما يشبه الضجيج... كأن القرية أفاقت باكراً ودبت فيها الحياة... لكنها حياة مختلفة... ليست كالذهاب الى الحقل والمرعى... وليست فيها سلامات الصباح ومباركات اليوم الجديد... ليس فيها الا توحيد الله وتسبيحه... وطقطقة المسابح وحفيف الاردية الطويلة وشهقات النساء الخجولة. خرجت من الدار لاشارك في طقس لم اعرف ما هو... ماذا حدث؟ ولم هذه الكآبة... لا احد ينظر الى احد... ولا احد يسلم على احد... والناس تنخرط في الموكب تباعاً ليتكون عالم بشري اشبه بكتلة ثلجية ملونة. ووسط تأملاتي وجدت نفسي انساق وراء المجموعة... واسير معها الى مدخل البلدة وطريقها الرئيسي الوحيد... لا ادري لماذا؟ تابعت المسير وانا لا اجرؤ على السؤال... كانت الوجوه جامدة كالصخر فيها كل قهر الدنيا... والعيون تلمع في محاجرها قطرات من الدمع والوجع والندى. عند مدخل البلدة وقفنا جميعا ورؤوسنا مرتمية على الصدور... صمت ثقيل لم تبدده سوى سيارة عسكرية متداعية. توقفت عند المدخل... ترجل منها جنديان يحملان قلبين مكسورين وخجلين من الهزيمة.. لا يجرؤان على النظر الى احد ولا يستطعان حتى الدفاع عن نفسيهما... توجه الجنديان الى مؤخرة العربة وبصعوبة بالغة فتحا بابا حديديا تآكل من الصدأ... عيون الجميع باتجاه العربة والصمت استمر ثقيلا... عندها اخرج الجنديان محفة تسجى عليها جثمان احد ابناء قريتي... وقد لف بوشاح ابيض وربط عند الرأس بإحكام كي لا يفكر احد بالنظر الى وجه الشهيد... وعرفت فيما بعد انه قد احترق بقذائف النابالم التي رماها العدو الاسرائيلي واحرق فيها الارض والناس. الايام بطيئة كزمن الهزيمة مضت الايام ثقيلة كالجبال... بطيئة كزمن الهزيمة... قاسية كالصوان... واخزة كالصبار... رتيبة كالقحط والعقم... ولعل اقسى اللحظات كانت عندما اعلن عبد الناصر رغبته بالاستقالة... كانت النسوة من حولي يذرفن دمعاً لا يتوقف... حتى ان احداهن وكانت لا تعرف من السياسة سوى عبد الناصر تترنم على سماع كلماته دون ان تستوقفها مفردة واحدة... تخبرنا انه سيخطب يوم كذا... الساعة كذا... تتحدث عنه وكأنه عشيق ازلي او امير يحمل لروحها نسائم عذبة ومواويل ساحرة. اعود إليها واذكر انه اغمى عليها... وانشغلت النسوة بها وبدموعهن وتحول الضجيج إلى نشيج جنائزي وشهقات مقهورة... ثم صمت مطبق ولا شيء سوى الصمت. خرجت من مجلس النسوة الى الهواء الطلق... كأن الناس من حولي يلفهم صمت اشبه بالكآبة... حتى ان احد الناس الذين يعيشون خارج الزمن اخطأ وادار مذياعه على اغنية عاطفية.. لكنه سرعان ما خجل وأطفأ المذياع... ومنذ تلك الايام صار اسمه (التمساح) لانه لم يتأثر بأهم لحظة في تاريخ العاطفة السياسية العربية. لملمة الجراح كانت مقاهي دمشق في مطلع السبعينات وكعهدها في السابق مرتعا للحوار والثقافة والفن... وكنت اجلس في مقهى يدعي (النجمة) حيث تبدأ سخونة الحوار منذ ساعات الصباح الاولى وتستمر الى آخر الليل حين تساعد الجدران الخارجين من المقهى على الوصول الى بابها الرئيسي... ليستمر الحوار والنقاش والخلاف والاختلاف حتى يهزم النوم الجميع... ليعود الصباح حاملا معه الهم نفسه والوجع نفسه. كانت الحياة الثقافية حينها حارة... والخطاب السياسي صارخا والمشهد الثقافي متوترا يحكي عن الهزيمة وآثار الهزيمة ولملمة الجراح في المسرح والرواية والشعر والفن التشكيلي... وكان الفعل الابداعي حدثاً حقيقياً جديراً بالحوار... والحياة غنية متنوعة. في مطلع السبعينات صحت قريتي على حدث جديد... فتغير ايقاع البلدة وتغير لونها فبدت زاهية مشرقة وكأن الحياة عادت اليها بعد سبات... وادركت الفرح حين علمت ان قريتي ابتهجت لانها خرجت الى مساحات ارحب من الحياة والحوار... فعادت للأزقة خطواتها وللمضافات حياتها وكأن هذا الحدث قد غسل طين الهزيمة ووحل الانكسار. حرب اكتوبر وزغاريد الفرح في تشرين الاول 1973 وفي السادس منه كنت في العاصمة مع اسرتي طالباً في المرحلة الثانوية... صحونا يومها على حرب جديدة... لكنها مختلفة... انتشرنا يومها على الاسطحة كالفراشات ونحن نرقب تساقط الاسطورة والوهم وتكبر في الروح مساحات الفرح فقد تحولت دموع النسوة في النكسة الى زغاريد تتردد اصداؤها لتلف دمشق وسورية زغرودة من القلب... واغنية تزيل عن كاهلنا اعباء الايام الست السود التي مرت... حيث اكتسبت المفردات معانٍ جديدة... فاصبحت الشهادة عرساً... والموت احتفالية صارخة. وفي اللحظات العظيمة فقط تختلف المعاني وتولد من جديد. الوطن يحتوينا جميعاً منذ دخلت عالم الفن... كنت مع زملائي من جيل حمل في ذاكرته ووجدانه كل ذلك التاريخ... بحلوه ومره... بقهره وفرحه... بصمته وضجيجه.. حتى اصبح الوطن في داخلنا طفلاً كبر معنا... نحس به ويحسن بنا.. نعانقه ويعانقنا.. نتوحد معه بهمومه واوجاعه... بماضيه وحاضره ومستقبله... الوطن لم يعد زاوية تأوينا... او غيمة سحرية تمطر علينا... او دفء شمس يحمينا من الشتاء القاسي... الوطن لم يعد ذكرياتنا... واهلنا... واحلامنا. الوطن لم يعد ضيقاً بهمومنا ومتاعبنا... الوطن اصبح كل هذا... كبيراً يمتد ليلفنا جميعاً يحتوينا جميعاً... يغرقنا في بحر حنانه وعطائه. المؤامرة تكبر على الفرح وتكبر المؤامرة على الفرح .. ويعود الزمن ثقيلاً... وتصمت المقاهي... ويهجر الناس الازقة وتستوطن الخيبة في كل الدروب والزغرودة التي لفت الوطن تحولت الى شهقة حزن... وكل صور ابطالنا المعلقة على جدران بيوتنا هوت وتوارت... لانها اكتشفت في لحظة انها كانت تدافع عن الوطن وهي الآن تشهد مزاداً رخيصا على الوطن. كان الوطن بالنسبة لنا امرأة جميلة ندافع عنها كالفرسان... نفتديها بأحلامنا وطموحاتنا ودمنا... من اجل ان تبقى مصانة.. لكنها اليوم تتعرى ويمزق البعض ملابسها... ثم يلبسون اسمالها ثروات وامجاداً واهية. السلام الزائف في ليلة شتائية باردة كان حوارنا الاخير في المقهى... المقهى الذي اصبح كالصقيع... لم تعد تدفئه حرارة الحوار منذ هجره الاصدقاء والادباء وبقي كغيمة لا تمطر... سحابة سوداء تحجب عنا الضوء .. كنا نحكي اننا لسنا دعاة حرب.. بل دعاة سلام ولكن اي سلام؟... كانت الجملة الاخيرة في الحوار (السلام الحقيقي) ... السلام الذي استحق دمعات النسوة وزغرودة امي التي لفت الوطن. ايمن زيدان

Email