من الملف السياسي: قسوة العسكر واخطاء السياسيين واطماع الغرب..اضاعت الجزيرة،بقلم د. محمد فراج ابو النور

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تجد القيادة الاندونيسية امامها بداً من الرضوخ لضغوط الدول الغربية الكبري, والقبول بنشر قوات دولية في تيمور الشرقية, الامر الذي يعتبر تسليماً بانفصال الاقليم, بعد ان صوت ناخبوه بأغلبية ساحقة لصالح ذلك الانفصال, وبعد ان اثارت المذابح الوحشية في الاقليم استنكاراً واسع النطاق في عواصم الغرب, وغضباً شديداً على جاكارتا بسبب تقاعس جيشها عن منع المذابح ووضع حد للفوضى في الاقليم . ويمثل ذلك الانفصال الوشيك منعطفاً بالغ الاهمية في تاريخ اندونيسيا المعاصر. ويحمل معه اخطاراً جدية, مهدداً بتفتيت الدولة الاندونيسية واطلاق موجة من الحركات الانفصالية العرقية, في دولة شاسعة المساحة (1.9 مليون كم2) تتكون من اكثر من 13.600 جزيرة تترامى في قوس هائل يبلغ امتداده نحو (5000كم) ويبلغ عدد سكانها اكثر من مائتي مليون نسمة. مخاطر التنوع واذا كان نحو 60% من هؤلاء السكان يعيشون في جزيرة جاوة (7% من مساحة البلاد) , فان بقية السكان يتوزعون على نحو 6000 جزيرة مسكونة, وينقسمون الى مئات الاعراق والاقوام الصغيرة والقبائل, التي تتحدث بنحو 365 لغة ولهجة!! واذا كان المسلمون يمثلون الاغلبية الساحقة من السكان (نحو 90%) فهناك اقلية كبيرة من المسيحيين (نحو 10%) واقليات صغيرة من الكونفوشيين والبوذيين والهندوس والوثنيين... وفي ظل وجود هذه الفسيفساء القومية والعرقية واللغوية وهذا التنوع الديني, والامتداد الجغرافي الشاسع من إيريان الغربية والجزر المحيطة بها في المحيط الهادي (شمالي استراليا) , الى جزيرة سو مطرة والجزر المحيطة بها في الغرب (في المحيط الهندي) ... ومع صعوبة الاتصال بين الجزر... في ظل ذلك كله يمكننا تصور الخطر الذي يمثله اندلاع حركات انفصالية عرقية على كيان ضخم, وهش في الوقت نفسه, كالذي تمثله اندونيسيا. انه خطر تفتت الدولة الواحدة الى كيانات عرقية, يمكن ايضاً ان تكون متصارعة بسبب التشابكات السكانية والحدودية والاطماع في الثروات الطبيعية... الخ. على ضوء ذلك كله يمكن ان تتضح لنا الخطورة التي يمثلها انفصال تيمور الشرقية رغم ضآلة مساحتها (14 الف كم2 تمثل نحو نصف مساحة جزيرة تيمور) وقلة عدد سكانها (نحو 800 الف نسمة) وفقرها النسبي فيما يتصل بالموارد الطبيعية. والواقع انه ما ان وافق الرئيس الاندونيسي يوسف حبيبي على مبدأ اجراء استفتاء حول تقرير مصير تيمور الشرقية, حتى سارع وفد كبير من زعماء ايريان الغربية (ايريان جايا) في اقصى شرق البلاد الى زيارة جاكارتا والاجتماع بالرئيس, مطالبين بحق تقرير المصير لاقليمهم ايضاً... كما اندلعت حركة مطالبة بالانفصال في منطقة (اتشيه) الغنية بالبترول, وسط البلاد... علما بأن اغلب سكان هذه المنطقة من المسلمين بخلاف الوضع في تيمور الشرقية. والواقع ان الازمة الاقتصادية والسياسية التي تأخذ بخناق اندونيسيا منذ كارثة اسواق المال الآسيوية (عام 1997) تمثل مناخاً مواتيا لاندلاع شتى اشكال الصراعات الاجتماعية والعرقية والطائفية... وهو ما نراه بالفعل في تلك البلاد. حساسية الموقع ورغم فقر تيمور الشرقية وصغر مساحتها وقلة عدد سكانها, فان حساسية موقعها الاستراتيجي تضفي عليها اهمية بالغة. اذ تقع الجزيرة جنوبي الجزء الشرقي من اندونيسيا, في منتصف المسافة تقريباً بين الجزر الغربية الكبرى (سومطرة وجاوة وكليمانتان وسولاوبري) , واقليم ايريان الغربية (ايريان جايا) في اقصى شرقي البلاد. وقيام دولة مستقلة في تيمور الشرقية, يعنى نشوء دولة غريبة في قلب الجزر الاندونيسية, يمكن ان تقوم بدور خطير في عزل شرق هذه الجزر عن غربها, وان تمثل ايضا جسراً للنفوذ الاجنبي في تلك الجزر النائية, حيث يتسم وجود الدولة الاندونيسية بالضعف. وحيث الوجود الاقوى لدولة اقليمية كبرى مثل استراليا, التي تقع كل من تيمور وايريان الغربية شماليها مباشرة. كما تقع الجزيرتان والجزر الاندونيسية المتناثرة بينهما الى الجنوب مباشرة من الفيلبين. ولا شك ان قيام دولة جديدة في هذه المنطقة يمثل اضعافاً خطيراً للتواصل الاستراتيجي للجزء الشرقي من الارخبيل الاندونيسي. ويرتبط دعاة الانفصال في تيمور سياسياً باستراليا, التي تقدم ملجأ لعدد منهم, وتدعم حركتهم بقوة. وسيكون منطقياً ان تتمتع بنفوذ كبير في الدولة الجديدة, خاصة اذا وضعنا في اعتبارنا الثقل الاقتصادي الهام لدولة مثل استراليا, وتطلعها لان تلعب دوراً اقليمياً اكبر في منطقة المحيط الهادي, وقدرتها على تقديم المساعدات للدولة التيمورية المنتظرة. ولا ينبغي ان نهمل, بالطبع, امكانية استناد الدولة الجديدة الى الدعم الغربي لاثارة القلاقل في الجزر الصغيرة القريبة منها حيث الوجود العسكري الاندونيسي ضعيف, وحيث الاعراق والقبائل الصغيرة المتناثرة التي يتخلفها الاقتصادي... اي ان هناك فوارق حضارية وثقافية واقتصادية يمكن استغلالها لاثارة المتاعب لاندونيسيا, واضعاف سيطرتها على تلك الجزر. من ناحية اخرى فان انفصال تيمور الشرقية, سيؤدي الى تنشيط الحركة الداعية الى الاستقلال في ايريان الغربية التي تتسم بأهميتها الاقتصادية الكبيرة. فهي تمتلك احتياطيات ضخمة من النحاس والذهب والنفط والغاز الطبيعي. وتستقطب اهتمام المستثمرين الغربيين, وخاصة الامريكيين, وتمتلك شركة (فريبوت كلموران) الامريكية للتعدين, وتدير مناجم (كراسبيرج) للنحاس والذهب والتي يقدر بعض المراقبين احتياطياتها بما يقرب من 50 مليار دولار... كما تشير الاستكشافات الاولية الى وجود احتياطيات ضخمة من النفط والغاز في سواحلها اضافة لما هو موجود على اراضيها... واذا ما انتهت الحركة الاستقلالية في ايريان الغربية الى الانفصال ـ كما اصبح في حكم المؤكد تقريبا ان يحدث في تيمور الشرقية ـ فسوف يمثل هذا كارثة كبرى بالنسبة لاندونيسيا. التفتيت .. والهيمنة مما سبق يتضح ان انفصال تيمور الشرقية عن اندونيسيا ينطوي على مخاطر كبيرة, وتهديد جدي بتفتيت الكيان الاندونيسي... او على الاقل باضعافه بشدة, مع احتمالات كبيرة لسلخ بعض اجزائه الشرقية, بكل ما يمكن ان ينجم عن ذلك من صراعات عرقية وآلام انسانية كبيرة للغاية. واذا كان الامر كذلك فكيف نستطيع ان نفهم دعم الغرب لانفصال تيمور الشرقية, بكل ما يحمله من مخاطر اندلاع الحركات العرقية الانفصالية في اندونيسيا؟ وكيف ينسجم هذا مع ضرورات الحفاظ على الاستقرار اللازم لحماية الاستثمارات الغربية فيها؟ بلغت هذه الاستثمارات نحو 164 مليار دولار عام 1996, تمتلك الولايات المتحدة خمسها وفق تقرير صادر عن السفارة الامريكية في جاكارتا في اغسطس 1996. واذا كانت الشركات النفطية الامريكية (اوكو ـ موبيل ـ يونيون تكساس ـ اونوكال وغيرها) تسيطر على نصيب الاسد من حصص انتاج النفط الاندونيسي (1.5 مليون برميل يوميا) واحتياطياته فضلا عن الاستثمارات الاخرى, فكيف يمكن ان تشجع الدول الغربية خطوة انفصالية في تيمور الشرقية, يمكن ان تجلب عليها عداء الشعب الاندونيسي فضلا عن مخاطر عدم الاستقرار على الاستثمارات؟ وكيف ينسجم هذا التوجه الغربي مع اتجاه آخر نحو التكتل واقامة الكيانات الكبيرة في الغرب ذاته؟! نعتقد ان الاجابة تكمن في ان نهاية الحرب الباردة بانتصار ساحق للغرب بزعامة الولايات المتحدة, قد ساعدت على اتباع نهج يشجع تفتيت (او على الاقل اضعاف) دول العالم الثالث وخاصة الكبيرة منها, لحساب ترسيخ النفوذ الغربي عموما, والامريكي خصوصاً في اية منطقة في العالم. وقد رأينا تشجيع الغرب لانفصال التشيك والسلوفاك, وتفكيك يوغوسلافيا (اما تفكيك الاتحاد السوفييتي فقد كان هدفا محورياً للغرب... وكذلك تفكيك روسيا او تآكل اجزاء منها على الاقل كجمهوريات القوقاز الصغيرة) . والواقع ان مثل هذه الكيانات الصغيرة تكون السيطرة عليها اسهل. كما ان العداوات الناشئة بينها تجعلها اكثر احتياجاً للحماية الخارجية, وخاصة الامريكية وتمثل هذه الحقيقة بحد ذاتها ضمانة لحماية الاستثمارات والاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة. كما ان مشكلات الاستقرار والامن في تلك الكيانات الصغيرة يمكن حلها من خلال (نظم قوية) . ويلاحظ هذا التوجه نحو تشجيع التقسيم والحركات الانفصالية في العالم الثالث بصورة واضحة, مع اختلاف الدوافع والتفاصيل في كل حالة, بالطبع, من السودان للكونجو ومنطقة البحيرات, الى العراق... الخ. ورغم ان دعم الحركات الانفصالية يرتدي عادة رداء دعم (حق تقرير المصير) و(حقوق الانسان) ... الخ فالملاحظ ان هذا الدعم يتسم بطابع انتقائي, كما انه لا يبالي بأنهار الدماء التي تراق عادة, والتي ليست دائماً عادلة, او تستحق الثمن الفادح الذي تدفعه الشعوب لاجلها, فضلاً عن انها ليست دائما السبيل الوحيد لنيل هذه الشعوب والاعراق لحقوقها. دروس تيمور ولا يعني هذا ان ما أثارته الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية عن انتهاك حقوق التيموريين لا اساس له من الصحة او ان التنديد الغربي بالمذابح التي جرت في الاقليم هو محض نفاق... فالواقع ان السلطات الاندونيسية تتحمل القسط الاكبر من المسؤولية عن المذابح والانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان التي شهدتها المنطقة منذ سيطرة جاكارتا عليها في اواخر عام 1975. والسلوك الاندويسي في الاقليم من البداية حتى النهاية هو نموذج للادارة السيئة للازمات والصراعات. وقد تضافر مع المواقف الغربية في الوصول الى النتيجة التي انتهت اليها الاوضاع... اي اتجاه تيمور الشرقية للانفصال. فقد سيطرت اندونيسيا على الاقليم دون معارضة جدية من جانب القوى الغربية الكبرى, بسبب ظروف الحرب الباردة, ودور نظام سوهارتو في مواجهة النفوذ السوفييتي في جنوب شرق آسيا. ولو ان جاكارتا اهتمت بمنح الاقليم حكما ذاتياً حقيقياً (ديمقراطيا) واقامة حوار جدي مع ابنائه, وتطويره اقتصادياً بصورة تربطه بها بعمق... لكانت الاحوال قد اختلفت الآن. لكن جاكارتا لم تفعل ذلك, بل قمعت الحركة الاستقلالية المسلحة, وشملت بقمعها المستمر بقية ابناء الاقليم (اسوة بقمع الشعب الاندونيسي كله) الامر الذي جعل التربة مناسبة دائما لنمو حركات المعارضة القوية السلمية والمسلحة. وحينما اضطرت جاكارتا للموافقة على الاستفتاء حول تقرير المصير, كان ذلك تحت ضغط ازمتها الاقتصادية والسياسية الخانقة (بعد كارثة اسواق المال الآسيوية) من جهة, والمقاومة المسلحة لابناء الاقليم من جهة اخرى, ومع ذلك فان الاتفاق ـ الذي تم تحت رعاية الامم المتحدة ـ تضمن تنازلات غير معقولة, وكان يمكن تفاديها. وهي تنازلات ادت الى تغيير بنية (مجمع الناخبين) بصورة كبيرة لصالح دعاة الانفصال. فقد نصت الاتفاقية على منح حق التصويت لكل شخص بلغ السابعة عشرة من العمر (...) وولد في تيمور الشرقية, او ولد فيها احد والديه او ولدت فيها زوجته او احد والديها!! اي ان جاركاتا وافقت على منح حق التصويت لاناس ربما لم يروا هذه البلاد ابداً!! ولعل هذا يفسر, الى حد ما, الاغلبية الساحقة التي نالها دعاة الانفصال. ولتدارك آثار هذا الاذعان, بدأت الميليشيات المدعومة من الجيش في محاولة واسعة النطاق لارهاب الناخبين غير الموالين وترويعهم لحملهم على مغادرة الاقليم, بهدف التأثير على نتيجة التصويت. وهو سلوك لا يليق بدولة متحضرة, فضلاً عما ترتب عليه من اراقة للدماء وارتكاب لفظائع وحشية. وبعد ظهور النتائج واصلت الميليشيات اعمالها الهمجية, وبدأت في ارتكاب مجازر واسعة النطاق. وفضلاً عن وحشية هذه الاعمال, فانه لم يكن من شأنها تغيير نتيجة الاستفتاء بالطبع... اما الجيش فان تواطؤه على ارتكاب هذه المجازر كان مدعاة لغضب الرأي العام المتحضر في العالم كله. وكان رفض دخول القوات الدولية لحماية السكان مدعاة لغضب اكبر, ولبدء العقوبات الغربية التي قوبلت بترحيب الرأي العام... ثم كان التراجع تحت وطأة العقوبات هزيمة سياسية كاملة للقيادة الاندونيسية. والمهم الآن... الا تتكرر (اخطاء تيمور) * كاتب سياسي مصري

Email