وجهة نظر عالمية: الناتو يحمل عبء التاريخ في البلقان: بقلم- بول كينيدي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحمل التدخل في البلقان معنى تاريخياً عميقاً قاد الغرب دائماً الى مستنقع من النزاعات والخلافات القديمة التي تستعصي على الفهم, لقد سبق لرجل الدولة الحكيم بسمارك الذي قاوم اكثر من مرة التدخل الالماني في المنطقة, ان اقسم بأن منطقة البلقان برمتها لا تساوي عظام مقاتل بوميراني , لكن ما يبعث على السخرية هو ان خلفاءه الاقل نباهة افتعلوا مآسي الحرب العالمية الاولى بتدخلهم في مصير صربيا. ان اي شخص اتيحت له فرصة الاطلاع على الكتاب الجديد المثير للاهتمام الذي اصدره نيال فيرجوسون, والذي يحمل عنوان (الحرب المؤسفة) لا مناص له سوى ان يشعر بالانزعاج عندما يتبادر الى ذهنه ان قادتنا الحاليين قد يكونون في طريقهم الى اسفل منحدر يقودهم الى صراع يتسع يوماً بعد الآخر, وانا لا اعتقد هنا بوجود حرب دولة عظمى, كما ان ارسال بوريس يلتسين مدمرة الى البحر الادرياتيكي ليس الا ايماءة تستهدف تهدئة الجماهير الروسية وليست بداية لمواجهة شبيهة بتلك التي وقعت ابان ازمة الصواريخ الكوبية, لكنني اعتقد بأن مقاتلا عنيدا وقذرا كميلوسيفيتش سيكون سعيداً بتوسيع المعركة في اتجاهات اخرى, الى مونتينجرو ومقدونيا او اي مكان, اذا كان هذا سيؤدي الى التشوش ومساعدته في قضيته. وأشعر بالقلق ايضاً حيال عدم التوازن في الالتزام العاطفي الموظف في هذا الصراع بين صربيا والغرب بالطبع, نحن مصعوقون من ثبوت عمليات التطهير العرقي والاعمال الوحشية التي ترتكب بحق مدنيي كوسوفو العزل, ونشعر برغبة قوية بايقاف هذه الاعمال. فعلى الرغم من مرور خمسين عاماً على مجازر النازية الا ان ذكراها لا تزال ماثلة في الاذهان, ولن تتلاشى بسهولة. ومع ذلك, فإن رغبتنا هذه بايقاف المجازر قد تتداعى اذا ادى التدخل الى وقوع خسائر كبيرة في صفوف جنودنا قد نتحمل سنة من الخسائر البشرية الغربية, لكن هل يمكننا ان نتحمل سنتين او اربع سنوات؟ ان هذا الشعور بعدم الارتياح يتنامى عندما يدرك المرء ان الرأي العام داخل اللاعب الرئيسي في التحالف الغربي, الا وهو الولايات المتحدة, لا يزال مرعوباً اشد الرعب من ذكريات حرب فيتنام بحيث يصعب عليه استيعاب وقوع خسائر بشرية كبيرة على الارض. قبل بضع سنوات, صرح المفكر الاستراتيجي ادوارد لوتواك قائلاً بانه لم يعد هناك قوى عظمى, بالمفهوم الذي قصده اي تلك الدول ذات المصالح الممتدة والمستعدة للتضحية برجال كثيرين لحماية هذه المصالح, ومع عدم استعداد الروس لتحمل الخسائر البشرية في افغانستان وتأذي الامريكيين بفعل الخسائر البشرية التي تكبدوها في مقديشو, بدأ يشيع جو جديد من المعارضة لأي خطوة تنضوي على المجازفة. قد تكون هناك بعض الحكومات النيابية, كالحكومة الهندية او ربما الفرنسية, قادرة على تحمل خسائر بشرية كبيرة دون ان يثير ذلك ردة فعل داخلية عنيفة, لكن من الواضح ان الامريكيين لا يمكنهم ان يتحملوا ذلك ولن يتحملوه. اذن من يريد في ايامنا هذه ان ينشر 10 آلاف جندي بريطاني في كوسوفو ومقدونيا في وقت يكون المزاج السياسي الامريكي متقلباً؟ ومن يعتقد بأن هذا الرئيس يمكنه تحمل عودة اعداد متزايدة من الجنود في أكياس الموتى؟ وفوق كل ذلك, ما هو الهدف الآن من تدخلنا في ظل تحليق الطائرات الغربية بيأس فوق السحب بينما تقوم قوات ميلوسيفيتش الخاصة بتدمير آخر ما تبقى من البلدان الالبانية في كوسوفو؟ هل نقوم بايجاد ارض قاحلة مدمرة بينما ندفع الجيش اليوغسلافي الى الشمال ثم ننشئ ونحصن بشكل دائم مناطق عازلة في البلقان ضد هجمات صربية مستقبلية ومن ثم نعيد توطين بقايا ألبان كوسوفو من خلال وكالات الامم المتحدة (وندعي دائماً بأن سياساتنا الحالية لم تؤد الى شل الامم المتحدة)؟ ان الضجيج الحالي للسياسيين الامريكيين الذين يطالبون بتبني (استراتيجية خروج من الحرب) , يثير الشفقة, فأفضل استراتيجية خروج يمكن تبنيها عندما تكون في الحرب هي الانتصار في الحرب, لكننا جميعاً سنشعر بعدم الارتياح والقلق اذا لم يستطع قادتنا بوضوح تحديد الأهداف السياسية لتدخلنا. الا انه على الرغم من هذه الشكوك, لا يمكنني ان اتوقف عن التفكير بأننا سنخوض غمار هذه الحرب, وعلى الارجح سنضطر الى خوضها. وبعد 30 عاماً من التدريس حول موضوع صنع القرار في الماضي, ارى اليوم بوضوح اكثر ماذا كان يعني القادة السابقين عندما كانوا يشيرون الى مفهوم (عبء التاريخ) . بالطبع, يستطيع الامريكيون والبريطانيون والفرنسيون والالمان الابتعاد عن كوسوفو نظرياً لكننا ألزمنا انفسنا بصراحة وبشكل دائم بمبادئ حكم القانون ومبدأ تقرير المصير وبالاعلان العالمي لحقوق الانسان, وقد حذرنا من ان التطهير العرقي من النوع الدائر ليل نهار في كوسوفو لا يمكن احتماله, وبشكل ادق اخبرنا ميلوسيفيتش بأنه سيدفع ثمن اخطائه وبأنه لن يتمكن من تحقيق رغباته من خلال العدوان الفج ونحن خائفون جداً من انه اذا غضننا الطرف عن هذه الاعمال الوحشية, فإن هذا الامر سيشجع على المزيد من الأعمال الوحشية في أماكن اخرى, ولن نعرف ابداً من اين نسحب طرف الخيط. ولهذا السبب, وفي الوقت الذي اشعر بالقلق وعدم الارتياح, لن اكون معارضاً لتدخل عربي, وسأفضل في الواقع ان يكون تدخلاً على نطاق واسع من ان يكون جهداً رمزياً صغيراً واعتقد ايضاً بان اي حديث صريح حول تحديد تاريخ لانسحاب الصرب سيكون سخيفاً وذا تأثير عكسي, فهؤلاء الاشرار يمكنهم الاختباء حتى ذلك الوقت ثم يظهرون مجدداً, وحيث انه لا يمكننا التراجع او الوقوف بلا حراك, فمن الافضل لنا ان نمضي قدماً لا بغطرسة وتهور وانما بتصميم ووحدة وشعور بأننا نفعل ذلك من اجل الحق والعدل والانصاف, ولو حافظنا على الاخيرة فسنكون على خير ما يرام. لكن في هذه الايام كثيراً ما يخطر ببالي, عندما اعلق على الفرص الضائعة والقرارات التعسة التي رافقت المأساة اليوغسلافية خلال العقد الماضي, قصة الانجليزيين القويين اللذين اكتشفا بعد مشيهما ساعات طوال في الريف الايرلندي انهما ضلا السبيل, ويحتاجان لمن يرشدهما الى طريق العودة للفندق الذي ينزلان فيه. وفي خضم هذه الورطة صادفا مزارعاً محلياً, وتوسلا اليه ان يدلهما على طريق العودة الى دبلن, لكن المزارع اجاب بعد طول تفكير قائلاً:(لو كنت مكانكما يا سادتي لما انطلقت من هنا) ألسنا في هذه الفوضى المتعلقة بكوسوفو في ورطة شبيهة جداً بهذه الورطة؟ فنحن ليس لدينا من بديل سوى الانطلاق من هنا. أستاذ التاريخ بجامعة بيل خدمة لوس انجلوس تايمز خاص بـ البيان

Email