الناتو والفخ الكبير، طبول الحرب العالمية تدق في البلقان، بقلم: د. مغازي البدراوي

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ عدة قرون مضت وحتى منتصف القرن العشرين ومنطقة البلقان كانت ومازالت نقطة انطلاق لأكبر وأبشع الحروب التي عرفها التاريخ منذ عصور الرومان وحتى في القرون الوسطى وفي الغزو العثماني لجنوب اوروبا, وحتى الحربين العالميتين في هذا القرن كانت بداياتهما في منطقة البلقان . ويرجع المحللون هذا الى ان القوميات التي سكنت هذه المنطقة كانت منذ البداية قوميات دخيلة وغازية وغريبة على اوروبا, هذا في الوقت الذي يذهب فيه (الصرب) الى انهم اصل اوروبا وان مملكتهم اقوى مملكة شهدتها اوروبا في التاريخ وأن ما دونهم غزاة ودخلاء. وفي رأي العديد من علماء التاريخ (الغربيين) ان الصرب قومية غريبة على اوروبا, وأنها منذ بداية التاريخ الميلادي تنتمي في أصولها للشرق وخاصة للكنيسة (البرافاسلافية) التي تضم حتى الان روسيا واوكرانيا وروسيا البيضاء, وأن هذا الانتماء هو الذي مازال حتى الان يلعب الدور الاساسي في التقارب بين روسيا والصرب, وهو السبب وراء التأييد الشعبي الكبير للصربيين لدى شعوب هذه الدول. ورغم هذا التأصيل التاريخي الذي يعول عليه البعض كسبب لاهتمام روسيا بالصرب, إلا أننا نعتقد انه لا يكفي كسبب, وان هناك اسباباً اخرى ربطت مصالح روسيا الاستراتيجية بالصرب, والتي بدأت مع المد الشيوعي في اوروبا الذي قابله محاولات مستميتة من الغرب لعزل يوغسلافيا عن المعسكر الشيوعي, ونجح الغرب في ذلك الى حد كبير في عهد الزعيم تيتو موحد يوغسلافيا, والذي رفض الدخول في استراتيجيات حلف وارسو العسكري الشيوعي, والتزم بمبادئ التعايش السلمي والحياد الايجابي. وجدير بالذكر هنا ان ان الزعيم (جوزيف بروز تيتو) لم يكن صربياً بل كان كرواتياً, وبعد رحيله تأملت موسكو في عودة يوغسلافيا لصفها, وكان الصرب يؤيدون ذلك, وبمجىء (ميلوسيفيتش) للحكم وعودة الصرب للسلطة بعد غياب سنوات طويلة, عاد الأمل ينمو لدى روسيا في كسب حليف قوى في قلب اوروبا, وخاصة في الظروف الصعبة التي واجهتها بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو, وخروج قواتها من أوروبا الشرقية, وتوطدت علاقات موسكو وبلجراد في عهد (ميلوسيفيتش) , وبدأت الامدادات العسكرية والتكنولوجية تتدفق على يوغسلافيا من روسيا, ومن هنا (في رأينا الخاص) بدأ الغرب وحلف الناتو في توجيه اهتمامه الكبير لمنطقة البلقان التي اصبحت بالنسبة لهم مصدر أكبر خطر على المدى البعيد, حيث ان التعاون الروسي الصربي في تقدير خبراء الغرب من الممكن ان يعيد بناء المملكة الصربية القديمة التي كانت تشكل تهديدات دائمة لكل اوروبا, ومن الممكن ان تصبح يوغسلافيا ورقة ضغط قوية في يد روسيا في المستقبل عندما تعود روسيا دولة قوية وتخرج من أزماتها, ولا يستبعد الغرب ان يوافق (ميلوسيفيتش) على نشر الصواريخ النووية الروسية على اراضي يوغسلافيا, وفي حالة وصول أية مجموعة متطرفة للحكم في روسيا يصبح الامر غاية في الخطورة ويهدد أمن اوروبا والغرب كله, ومن هنا وضع الناتو خطته الهادفة الى تفتيت قوة الصرب من الان منتهزا ضعف روسيا الحالي, واستخدم الغرب ولأول مرة في تاريخه قوات حلف الناتو في الضرب داخل اوروبا, وهذا ما يعكس بشكل واضح مدى اهمية المنطقة بالنسبة للغرب, وليس كما يعتقد البعض من أن الأمر مجرد (دفاع عن أقليات او ضد مذابح) او غير ذلك من الأمور المطروحة منذ بداية حروب البلقان في التسعينات, والتي يروج لها الاعلام الغربي بشكل كبير سعيا لكسب الشرعية الدولية. أقاليم اخرى بعد هذه المقدمة التاريخية الطويلة التي تعمدنا ذكرها باختصار وايجاز شديد نظرا لاهميتها (في نظرنا) كخلفية واقعية للصراع في البلقان, نعود ونقول إن الحرب الجارية الآن في يوغسلافيا امر جد خطير للغاية واستمراره يهدد على المدى البعيد بحروب اكثر ضراوة وشراسة, ونحن على يقين بأن (كوسوفو) ليست هي الهدف وليست النهاية, وهناك أقاليم اخرى في يوغسلافيا تسكنها غالبية من الأقليات غير الصربية تغلى فيها الاوضاع وتفور الان, وأيادي كثيرة تعبث هناك وتمهد لتفجير نزاعات اخرى في هذه الأقاليم والهدف الاساسي منها تقليم اظافر الصرب وتقليص سلطانهم في البلقان, ومثال على ذلك اقليم (سنجق) القريب من البوسنة, والذي يسكنه ما يقرب من ربع مليون مسلم يتزعمهم الزعيم الوطني (سليمان اوقلانين) الذي يقود منذ عشر سنوات مضت نضالاً ضد الصرب بقيادة ما يسمى بالمجلس الوطني الاسلامي, وتتهم بلجراد (سليمان) بالعمالة والعمل لحساب الغرب ويطارده الامن اليوغسلافي في كل مكان. ولكن الاهتمام الكبير بمنطقة كوسوفو الان يرجع الى انها كانت حتى القرن الرابع عشر مقر الحكم للمملكة الصربية قبل دخول العثمانيين فيها عام 1389. صواريخ الشيطان ونعود لموقف روسيا الان لنقول ان ما يعتقده البعض من ان روسيا لا تفعل ولن تفعل شيئاً ولا تملك هذا, هو اعتقاد خاطئ, وردود الفعل الروسية حاليا والتي تأتي خاضعة لظروف الأزمات الاقتصادية التي تعيشها روسيا الان, تعكس بشكل كبير مدى جدية الامر, وما أعلنته روسيا حتى الان من تهديدات (محدود) لكنه (ممكن) وفي مقدور روسيا تنفيذه, وفي حد ذاته يشكل ضغطا على الغرب, ومن هذه التهديدات اعادة الصواريخ النووية البعيدة المدى الى اراضي روسيا البيضاء, هذه الصواريخ التي يطلقون عليها في واشنطن اسم (ساتانا) اي الشيطان, والتي سحبتها روسيا من بيلاروسيا عام 1996, واحتفل الغرب كله بسحبها, حيث انها كانت تقع على مسافات قريبة جدا من أهم مدن اوروبا, ومداها يغطى مياه المحيط الاطلسي والقوة التدميرية للقنبلة التي القيت على هيروشيما. وقد ذكر بعض المراقبين ونشرت صحيفة (التايمز) البريطانية ان روسيا جادة في تهديدها وان منصات هذه الصواريخ تحركت من أماكنها بالفعل في الأسبوع الماضي, وهلل رئيس بيلاروسيا (لوكاشنكا) فرحاً بهذا الخبر وهو الذي كان قد عبر عن حزنه واستيائه بسبب خروج هذه الصواريخ من بلاده منذ ثلاثة اعوام أيضا تهديد روسيا بتخليها عن كل معاهدات الحد من التسلح التي وقعتها من قبل مع الغرب يعد في حد ذاته امراً في غاية الخطورة, خاصة وان واشنطن تبذل كل جهدها منذ ثلاثة اعوام مضت من اجل الحصول على تصديق موسكو على معاهدة (ستارت ــ 2) للحد من التسلح, ويأتي في أعقاب هذا التهديد قرار موسكو بالعودة للتعاون مع بعض الدول الاقليمية في المجال العسكري والنووي, وغير ذلك من التهديدات التي قد يظن البعض انها فارغة, في الوقت الذي يعمل لها الغرب, وواشنطن بالتحديد, الف حساب. حرب في اوروبا وتنعكس تداعيات الموقف بشكل واضح على تصريحات رجال السياسة والعسكريين في العديد من البلدان, واذا نظرنا للجانب الروسي نجد ان التصريحات الصادرة عن رجال السياسة الروس لها مدلولات تنبىء بالفعل عن خطورة الموقف, ومن اخطرها تصريحات وزير الدفاع الروسي (ايجور سيرجييف) والذي كان يشغل قبل منصب الوزير قائد القوات العسكرية النووية في روسيا حيث يقول (اذا كان البعض يعتقد ان الضرب في كوسوفو مجرد نزاع محلي فان هذا خطأ كبير, والأمر اكثر خطورة من ذلك بكثير ويهدد الامن الاوروبي والسلام العالمي) . وقدم سيرجييف مذكرة مشتركة مع وزير الخارجية (ايجور ايفانوف) الى الرئيس يلتسين يطلبان فيها السرعة في اصدار قرار بعودة الصواريخ النووية الى بيلاروسيا. وصرح (ايفانوف) (بأن ضرب يوغسلافيا خطأ فادح وسوف يكون له عواقب وخيمة على مستقبل الأمن في اوروبا) . وقد صرح رئيس الحكومة بريماكوف عند وصوله بلجراد في الاسبوع الماضي قائلاً (انها الحرب في اوروبا, ونحن لن نقف موقفاً سلبياً من الأزمة, ولن نساوم على مبادئنا) . وصرح رئيس البرلمان الروسي (جينادى سيليزنوف) بان (روسيا سوف تستمر في امداد يوغسلافيا بالسلاح الفعال) . الحرب البرية وفي الوقت الذي يمتنع فيه رجال السياسة الغربيين عن التعليق على الموقف الروسي (كعادتهم) , نجد اراء كثيرة في الغرب تحذر من خطورة الموقف, ومنها رأى وزير الدفاع الفرنسي السابق (فرانسوا ليوتار) الذي قال بان (أزمة البلقان تنبىء بمصير مجهول ينتظر اوروبا) , وحذر (ليوتار) حلف الاطلسي من الوقوع في الفخ الكبير الذي أعدته له روسيا ويوغسلافيا وهو جره الى حرب برية, وشبهها (ليوتار) بأنها سوف تكون شبيهة تماماً بحرب فيتنام بكل ما كان فيها من مآس وخسائر للامريكان, وطالب (ليوتار) حكومات اوروبا بالامتناع عن الموافقة على اية خطة لحرب برية يعرضها عليهم حلف الناتو, وقال ان الضحايا في هذه الحرب سوف يكونون من الاوروبيين اولا وليسوا من الامريكيين, ومنطقة البلقان شديدة الوعورة, والصربيون مدربون على الحرب فيها على مستوى عال جدا, وامدادات الروس اليهم لن تتوقف اثناء الحرب, ولا يستبعد (ليوتار) ان تشارك قوات روسية في الحرب البرية بشكل سري الى جانب الصرب, وهو الأمر الذي يعني بالفعل اندلاع حرب كبيرة في البلقان. حرب عالمية كل هذه الامور وهذه التصريحات تعكس في جملتها مدى خطورة الموقف في البلقان, والتي لا يستبعد معه بعض المحللين والمراقبين ان يمهد لحرب عالمية ثالثة في اوروبا في المستقبل القريب, وكل الحروب العالمية بدأت في الأساس بنزاعات شبه عرقية استمرت سنوات طويلة ثم أعقبها حرب كبيرة, وغالبيتها كما سبق ان قلنا بدأت في البلقان, والروس من جميع النواحي مستفيدون من عامل الوقت, وكلما طال الوقت كلما ضعف موقف حلف الناتو وزاد الموقف الروسي قوة, والمعارك الماضية خلال الاسبوعين المنصرمين تدل على ان حلف الناتو يواجه صعوبات كبيرة في عملياته في كوسوفو, وان لدى الصرب قوة عسكرية لا يستهان بها وخاصة قواعد الدفاع الجوي التي كبدت الناتو حتى الان خسائر لم يكن يتوقعها في بداية المعارك, وتقريبا كل السلاح الصربي روسي, وسفن الاسطول الروسي في البحر الاسود بدأت بالفعل تقرع الطبول وصدرت لها الاوامر بالاستعدادات القصوى, وعملية اقلاع سفينة التجسس الروسية التي خرجت منذ أسبوع الى مياه البحر المتوسط يحرسها من الخلف سبع سفن اخرى, ليست في حد ذاتها عملية تهويشية كما يعتقد البعض, بل لها اهداف اخرى استراتيجية الى جانب هدفها الاساسي في دعم الروح المعنوية للقوات الصربية ومن يعتقد ان روسيا لا تستطيع ان تفعل شيئاً عليه ان يتذكر ظروف الحرب العالمية الثانية التي دخلتها روسيا مضطرة, وكانت ظروفها الاقتصادية والعسكرية أسوأ بكثير مما هي عليه الان, ومع هذا انتصرت في الحرب وأنقذت اوروبا من ويلات النازي... * ايجور سيرجييف وزير الدفاع الروسي. * ايجور ايفانوف وزير الخارجية الروسي. * الكسندر لوكاشنكا رئيس بيلاروسيا.

Email